فقال كمال وهو يرفع منكبيه: لكن والدك ليس وفديا. تصور أن يجلس سليم بك صبري للفصل في قضية عبد الرحمن فهمي والنقراشي!
هل صادف قوله عن سليم بك صبري ارتياحا في نفس حسين؟ نعم، هذا يبدو جليا في العينين الجميلتين اللتين لم تألفا الكذب أو الرياء، ولعله راجع إلى المنافسة التي تقوم عادة - مهما اتسمت بالتهذيب وآداب اللياقة - بين الأنداد، وقد كان شداد بك مليونيرا ومن رجال المال ذوي المكانة والجاه، فضلا عن صلته التاريخية بالخديو عباس، غير أن سليم بك صبري مستشار في أكبر هيئة قضائية، وفي بلد تفتنها المناصب إلى حد التقديس، فلم يكن بد من أن يتبادل المنصب الرفيع والمال الوفير نظرات الشزر أحيانا. ألقى حسين على الحديقة المترامية أمام ناظريه نظرات هادئة يشوبها شيء من الأسف؛ فقد تجردت جدائل النخيل، وتعرت شجيرات الورد، وشحبت الخضرة اليانعة، واختفت ابتسامات الزهور من ثغور البراعم، وبدت الحديقة غارقة في الحزن حيال زحف الشتاء، ثم قال وهو يشير أمامه: انظر إلى فعل الشتاء، هذه آخر جلسة لنا في الحديقة، ولكنك من هواة الشتاء.
إنه يهوى الشتاء حقا، ولكن عايدة أحب إليه من الشتاء والصيف والخريف والربيع معا، فلن يغفر للشتاء حرمانه من مقابلات الكشك السعيدة، غير أنه قال موافقا: الشتاء فصل جميل وقصير، وفي البرد والغيم والرذاذ حياة يستجيب لها القلب. - يخيل إلي أن هواة الشتاء يكونون عادة من ذوي النشاط والاجتهاد، فهكذا أنت، وهكذا حسن سليم.
ارتاح كمال إلى هذا الثناء، ولكنه أراد أن يخص - من دون حسن سليم - بأكثره، فقال: ولكني لا أعطي واجباتي المدرسية إلا نصف نشاطي فحسب، الحق أن حياة العقل أوسع من المدرسة بكثير.
هز حسين رأسه مستحسنا، وقال: لا أظن أن ثمة مدرسة يمكن أن تستهلك الوقت الطويل الذي تكرسه للعمل يوميا. على فكرة: أنا لا أوافقك على هذا الإسراف وإن أكن أغبطك أحيانا، خبرني ماذا تقرأ الآن؟
ابتهج كمال بهذا الحديث الذي كان - بعد عايدة - أحب شيء إلى نفسه، وأجاب قائلا: أستطيع أن أقول لك الآن: إن مطالعاتي أخذت تتبع نوعا من النظام، لم تعد قراءة حرة كيفما اتفق ما بين قصص مترجمة، ومختارات شعرية، ومقالات نقدية، أصبحت أتلمس سبيلي على قدر من الضوء لا بأس به، فعمدت أخيرا إلى تخصيص ساعتين كل مساء للقراءة في دار الكتب، وهنالك أنظر في دائرة المعارف باحثا عن معاني الكلمات الغامضة الساحرة، كالأدب، والفلسفة، والفكر، والثقافة، مسجلا في الوقت نفسه أسماء الكتب التي تصادفني، إنه عالم بديع تذوب فيه النفس شغفا واستطلاعا.
كان حسين يصغي إليه بانتباه واهتمام طارحا ظهره على مسند الكرسي الخيزران، واضعا يديه في جيبي جاكتته الكحلية الإنجليزية، وعلى شفتيه العميقتين ابتسامة مشاركة وجدانية صافية، قال: جميل جدا، بالأمس كنت أحيانا تسألني عما ينبغي أن يقرأ، اليوم جاءت نوبتي لأسألك أنا، هل وضح لك الطريق ؟ - رويدا ... رويدا، يغلب على ظني أني سأتجه نحو الفلسفة.
ارتفع حاجبا حسين كالمتسائل، ثم قال باسما: الفلسفة؟ إنها كلمة مثيرة، حذار أن تذكرها على مسمع من إسماعيل. طالما اعتقدت أنك ستتجه نحو الأدب. - لا لوم عليك، الأدب متعة سامية بيد أنه لا يملأ عيني، إن مطلبي الأول الحقيقة، ما الله؟ ما الإنسان؟ ما الروح؟ ما المادة؟ الفلسفة هي التي تجمع كل أولئك في وحدة منطقية مضيئة كما عرفت أخيرا، هذا ما أروم معرفته من كل قلبي، وهذه هي الرحلة الحقيقة التي تعد رحلتك حول العالم بالقياس إليها مطلبا ثانويا، تصور أنه سيمكنني أن أجد أجوبة شافية لهذه المسائل جميعا!
نور الشوق والحماس وجه حسين وهو يقول: هذا بديع حقا، لن أتوانى عن مرافقتك في هذا العالم الساحر، بل لقد طالعت بالفعل فصولا عن الفلسفة الإغريقية وإن لم أخرج منها بشيء يعتد به. لست أحب الاندفاع مثلك، ولكني أقطف زهرة من هنا وزهرة من هناك، وأسلك بين هذا وذاك سبيلا. والآن دعني أصارحك بأني أخاف أن تقطع الفلسفة ما كان بينك وبين الأدب من أسباب، فأنت لا تقنع بالاطلاع، ولكنك تريد أن تفكر وأن تكتب. ولن يتاح لك - فيما أعتقد - أن تكون فيلسوفا وأديبا في آن. - لن ينقطع ما بيني وبين الأدب، إن حب الحقيقة لا يناقض تذوق الجمال، ولكن العمل شيء والراحة شيء آخر، وقد عزمت على أن أجعل الفلسفة عملي، والأدب راحتي.
فضحك حسين فجأة، ثم قال: هكذا تتملص من تعهدك لنا بأن تكتب عنا قصة جامعة!
Halaman tidak diketahui