وتقلص وجه سليمان واحتقن وتلجلج لسانه، وأصبح لا يدري ما يفعل، وضحك وصفي ضحكة مستورة، فهو يعلم أن سليمان لن يستطيع أن يقول رأيه أمام عمه المعروف بالمحافظة، وأحس العم أن وصفي قد ألقى بابن عمه في مأزق دقيق، فغير مجرى الحديث. - هيه يا سي سليمان، ماذا عملت في المصلحة؟
وقبل أن يجيب سليمان أدرك وصفي أن في عيني ابن عمه حديثا آخر يريد أن يفضي به إلى عمه في خلوة، فخرج من الغرفة في هدوء دون استئذان، وأقفل الباب من خلفه، وشكر سليمان لابن عمه هذا الإدراك الدقيق، وراح يجمع صوته ليسأل عمه في حشرجة: ماذا عملت لي يا عمي؟
كان الباشا يدرك تماما ما يقصد إليه السؤال، ولكنه لم يشأ أن يجيب في وضوح، خشية أن يكون ما أدركه غير ما يقصد إليه ابن أخيه، فهو يسأل: ماذا فعلت لك فيم؟ - ألم تقل لي إنك ستسأل سهير ثانية إن كانت تقبلني؟ - سألتها. - وبماذا أجابت؟ - ... - لا شك أن في رضا سعادتك كل الكفاية. - يا أخي، أنت تعرف أنني رجل محافظ، وابنتي لا ترد لي أمرا، ولكن الزواج شأنها وحدها، ولا أستطيع أن أرغمها، أنا سأتركها بعد حين، فبماذا تراها ستذكرني إن أنا زوجتها بمن لا تريد؟ - يا عمي نحن في مصر لا نسأل بناتنا عمن يتزوجن. - ولكني أنا أسأل. - ...
وأحس الباشا أنه أغلظ على ابن أخيه، وأدركته عليه الشفقة، ولم يشأ أن يجمع عليه الرد الخشن ورد خطبته في آن، فهو يقول له في تلطف: أمثلك، وأنت المتعلم في أوروبا، يقول هذا الكلام؟! وماذا أعمل؟ إني ألححت عليها، ولكن بلا فائدة، ولم أشأ أن أرغمها إرغاما حتى لا تقوم الحياة بينكما على أمر جاف صدر مني، على كل حال أترك لك فرصة أخرى. - أمرك يا عمي. - طيب يا سيدي.
وأدرك سليمان أنه لم يعد ما يدعو لبقائه، فقام وقد اكفهر وجهه، واستأذن عمه وخرج.
لم يكن سليمان جميلا، ولكن ما أصابه في زيارته تلك زاده قبحا، فلو قدر له أن ينظر في مرآة حينذاك، لما تمالك نفسه عن أن يقول: نعم ، إنها محقة أن ترفضني، ولو كنت أنا امرأة، ولو كنت حتى امرأة فقيرة، ولست ابنة باشا، لو كنت ونظرت إلى هذه الخلقة لرفضت الزواج بصاحبها.
كان خليقا أن يقول هذا لو أنه نظر إلى مرآة، ولو أنه أصاب بصيصا من ضمير، ولكنه - والحمد لله - لم ينظر إلى مرآة، ولم يصب شيئا من ضمير، فهو ينقلب إلى بيته، لا يفكر إلا في هذه الثروة التي يوشك أن يفوتها عليه ذكاء بنت عمه، وقبح خلقته.
الفصل الثاني
خرج وصفي من الحجرة وأغلق الباب من خلفه، ولكنه لم يقصد إلى الباب الخارجي للمنزل، بل هو يقصد إلى الحديقة الخلفية يتمشى في أنحائها رويدا، وكأنما لا يهدف لغير الاستمتاع بضوء القمر الذي ينسكب على الحديقة، حتى إذا بلغ السلم المؤدي إلى النيل، نزل عليه في سرعة، وفي لمحة أخفاه الجدار الأبيض القائم هناك عن الحديقة والمنزل جميعا.
هنا الموعد، موعده مع سهير، ترى ماذا تخفي لهما الأيام؟! إنها سهير بجمالها الرائع، بذلك القوام الفارع، وهذه الضحكة العذبة التي لا تغرب عن ثغرها، ثغرها ذلك الحلو الذي يلقي الكلام رقيقا جريئا، عميق المعنى حلو الرنين، سهير بذلك الوجه الذي يميل إلى الطول في امتلاء، وبهذين الخدين الناعمين، يشع فيهما زهو وثقة، وبهاتين العينين، وفيهما بريق أخاذ يكاد في ضوء القمر أن ينسكب مع ضوء القمر، إنها سهير بروحها تلك الحلوة، وبحبها العنيف له، ماذا تخفي لهما الأيام؟ إنه لن ينسى، لن ينسى يوم جاءته أم وديدة تهمس في أذنه أن انتظر اليوم عند مرفأ القارب، وكاد العقل يرده، ولكن الشباب دفعه، وهناك التقيا في أول يوم، ومنذ ذلك اليوم لم تنقطع عنه أم وديدة بالموعد المهموس حينا، أو بالموعد المكتوب حينا آخر، وبين هذه المواعيد استقبل وصفي أساليب من السعادة لم يفكر يوما أنه سيلتقي بها، ولكن إلى أين؟
Halaman tidak diketahui