ولم يعرف سيد هذه التجارة التي افتتحتها ناعسة إلا حين عاد إلى القرية، وقد تقبل هذه الأنباء في تأفف ظاهر، وفي رغبة مختفية أن يكون زبونا لها، ولكن عاقه عن ذلك أمران: أولهما تظاهره بالتقى تظاهرا يسد عليه المسالك أو يكاد، وثانيهما قلة المال في يده، ولو كانت ناعسة قد بدأت تجارتها قبل أن ينحاز سيد إلى ناحية الدين، لأصبح شأنه غير هذا الشأن، ولاحتال على المال، وبلغ به من ناعسة ما يريد، ولكنها تأخرت. واتخذ هو مظهره هذا الذي يضيق به غاية الضيق، فما كان مؤمنا بما يقول أو يفعل، وإنما انضم إلى فئة الدين حين أعجزته الحيلة أن ينضم إلى فئة الفجرة، وإن كان إلى هذه الفئة الثانية أشد ميلا وأكثر شوقا، على أن هذا لم يفت في عضده، فقد وعد نفسه خيرا، وطلب إليها الصبر إلى أن تحين فرصة في طريق خال.
وها هو ذا الطريق خلا، وناعسة تقترب منه: مساء الخير يا ناعسة. - مساء الخير يا سي سيد أفندي. - إلى أين؟ - إلى البيت. - وفيم العجلة؟ - تأخرت. - أريدك في كلمتين. - وأي كلام بيننا يا شيخ سيد. - كلام مهم والله. - تفضل، قله. - لا، لا ينفع الكلام هكذا. - وما الذي ينفع؟ - تعالي. - إلى أين؟ - إلى الذرة. - الله، شيخ سيد! - ماذا؟ - شيخ سيد، حتى أنت يا شيخ سيد؟ - لا والله، وإنما كنت أريد أن أكلمك. - تكلم، المكان الذي نحن فيه يصلح للكلام، أما الذرة يا شيخ سيد ... - شيخ سيد، شيخ سيد، هل شفتني ألبس العمامة والجبة؟ - لا، ولكن شفتك في الوعظ يا شيخ سيد! - يا شيخة، تعالي. - عيب يا شيخ. - العيب ما فعلتيه مع حسين. - أقال لك؟ - نعم. - طيب، هل معك المبلغ؟ - والله ليس حاضرا معي، أعطيك غدا. - غدا لا ينفع يا شي ... يا سيد أفندي، كيف أستطيع أن أطالبك غدا، الدفع مقدما يا سيد أفندي. - وإن كنت مفلسا؟ - فلا أعطلك. - ولكني أريد أن تعطليني. - هات كيلة ذرة. - كيلة؟! - نعم، كيلة. - فانتظريني حتى أحضرها. - أين؟ - في ذرة أبي، على طرف الغيط من ناحية الترعة. - لا تتأخر. - حالا.
وانصرف سيد إلى بيتهم مسرع الخطو، فما إن بلغه حتى خلع حذاءه وتسلل على أطراف أصابعه إلى الحجرة التي يعلم أن بها الذرة، وملأ طرف جلبابه ذرة تزيد على الكيلة، فما راجعها في الكمية إلا حبا في المراجعة، وخرج سيد متلصصا كما دخل، ونفض المكان بعينيه، وخيل إليه أنه لم ير أحدا، ومشى سبيله إلى المكان، وما إن بلغه حتى همس: ناعسة ... ناعسة أين أ...
ولم يكمل الكلمة، فقد انصبت على قفاه يد حديدية صاحبها صوت أبيه مغيظا صارخا في حنق، دون أن ترتفع نبراته: أهي ناعسة يا ابن الكلب؟ وعامل لي شيخا تنقصك العمامة يا ضال يا زاني يا ابن الكلب، قدامي إلى البيت، قدامي أنت وذقنك، والله لتسافرن غدا إلى مصر. - أبي؟ - اخرس وامش، امش ... امش. - إنها ... إنها ... - اخرس قلت لك.
ومشى سيد يتعثر في خطاه، ومن ورائه أبوه، حتى إذا بلغا البيت قاد الوالد ولده إلى المخزن، وأعاد الذرة إلى مكانها، ولم يستطع أن ينتظر حتى يخرجا من الحجرة، بل هو يقفل الباب ويحكم رتاجه، ويمسك بتلابيب ولده، ويخلع النعل من قدمه ...
الفصل الخامس عشر
كان أحمد جالسا إلى أمه في إحدى غرف القصر حين دخل إليهما حسام الذي حيا خالته وقبلها ثم جلس، وقالت سهير: كيف حال سميحة وأختك نوال؟ - بخير والحمد لله. - لقد قالت لي أمك اليوم إنها ستأتي. - والله لا أعرف، فأنا لم أقل لها إني قادم إليكم.
وسكتت سهير، وران الصمت عليهم بعض الحين، ثم قطعه حسام متسائلا، وهو يظهر عدم الاهتمام، فيخيب تظاهره: أين هناء إذن؟
وقالت الأم: يا سيدي صممت أن تشتري هي لأخيها ما يلزمه من أقمشة للحلل والقمصان ليدخل بها الكلية. - ولماذا لم تذهب أنت يا أحمد؟ - يا أخي، أنا لا تهمني الأناقة، ولكن نينة هي التي تريد أن تشتري لي ثيابا جديدة، وقد صممت هناء أن تختار هي الملابس.
وقال حسام: وهل نزل معها عمي سليمان؟
Halaman tidak diketahui