وحين أقبلت سهير لتدعو الضيف وزوجها إلى الغداء، لم يلحظ سليمان بينما لحظ وصفي جفونها المخضلة، ووجهها الشاحب، لقد سكبت بعض دموع مكنتها من أن تتمالك نفسها، وتجلس إلى ضيفها الحبيب، فتجري الحديث في بساطة ورقة، حببت الجلسة إليه، تحادثا في كل شيء، في السياسة وفي الدور الذي يلعبه فيها، ووجدها على علم دقيق بكل خطواته في هذه السنوات التي غابها عنها، هيه يا حبي الأول الكبير، إن زوجتي التي لا تفارقني يوما لا تعرف عني ما تعرفين، رحمتك في بلواك، فمن يرحمني في بلواي؟ إني أعيش في بركة هادئة، صافية هذه البركة، ولكنها راكدة ليس فيها تيار، ولا هي مشوبة بقذى، وهذا الهدوء فيها وهذا الصفاء هو أتعس ما ألاقيه في حياتي، ركود يصدر عن الغباء، وصفاء لا يبتعثه إلا الجمود، وأشد ما أعاني في حياتي أني لا أجد شيئا أذمه فأشكو وأستريح، إن زوجتي سدت علي منافذ الشكوى بطاعة عمياء، وأدب بالغ أقصى المدى، فمم أشكو؟ وماذا أقول؟ رحمتك يا سهير فمن يرحمني؟ هي الحياة في بيتي أقطعها رتيبة النغمة لا تتغير، إن دخلت بيتي قطعت ما بيني وبين الحياة، وأصبحت لا شيء إلا زوج هند وأبا جعفر، فلا هند تعرف عن شأني في الحياة شأنا، ولا جعفر يفهم ما أبوه صانع، إن هند في البيت شأنها شأن جعفر، كلاهما طفل مطيع، كلاهما هادئ، ولكن طفل، أما أنت ... أنت فحياة، أنت التي كنت جديرة أن تهبي للنصر معناه حين أنتصر في المعترك، وأنت التي تشفين جراح الفشل حين الفشل، أنت معنى النصر، وبلسم الجراح تخلفت عن الصراع، وحياة الحياة التي أحياها، والنغمة العذبة في كل معنى يطالعني، إن يكن فرحا، فأنت النغمة الفرحانة، أو حزنا فأنت النغمة الآسية، وأدركت سهير ما بنفسه، قرأته في عينيه، عينيه الحلوتين، هاتين اللتين تستطيع فيهما أن تقرأ ما وراءهما، فيهما شفافية حبيبة وطالما افتقدت الشفافية في عيني زوجها فلم تجدها، طالما نظرت إلى عين سليمان وأنعمت النظر، فما زادها الإنعام إلا عجبا، كيف يرى سليمان بهاتين العينين، إنهما مطفأتان، لا نور فيهما ولا حياة، بل إن وجهه جميعا جامد صلب لولا أن صاحبه يسير جيئة وذهوبا، لما عرفت إن كان ميتا أم حيا، ويلي! لماذا لا يحيا وجه سليمان كما يحيا وجه وصفي؟ الحياة كلها هنا في هذا الوجه، إنها طالما أنعمت النظر في وجه وصفي وعجبت كيف لهذه الحياة جميعها أن تموج في وجه واحد فقط، حتى ليخيل إليها أنه ليس هناك حياة إلا في هذا الوجه، على ثناياه فرحها وغضبها وإقبالها وإدبارها، المعاني كلها هنا في هذا الوجه، لماذا أيها الوجه؟ لماذا فعلت بي هذا؟ ما الذي جنيت؟ لم أجن - علم الله - إلا حبك، وإنه لجناية أنا وحدي من صليت أخلافها وعواقبها.
وقاربت الساعة الخامسة، وقام وصفي، ولولا موعد تهفو له نفسه ما قام ...
إنه ذاهب إلى موعده لا يدري إن كان سيلتقي هناك مع نفسه وحدها، أم أنه سيلتقي أيضا مع هواه القديم الجديد، ولكن بحسبه أن يلتقي مع نفسه هناك، بحسبه ذاك، فهو ذاهب، أما هي ...
ركب وصفي سيارته، وأمر سائقه أن يسير دون أن يبين له عن هدفه، حتى إذا اقترب من مكان يستطيع منه أن يستأجر قاربا، نزل وأمر السائق أن ينصرف إلى البيت، وذهب إلى النيل، واستأجر قاربا، وأمر صاحبه أن يسير به في اتجاه القصر، إنه الحب يعود، يعود بجميعه حتى بهذه الأفعال الطفلة التي لم يقدم عليها يوما وإن يكن قد سمع بها سماعا، لقد نسي في غمرة من أمواج حبه من هو، نسي أنه النائب الخطير الذي يهتز الوزراء من نقده، ويرجف أعداؤه من هجومه، ونسي أنه أحد هاته الرموز القليلة التي يتمثل فيها جهاد شعبه ضد الاحتلال، نسي هذا جميعه، ولم يعد يذكر من أمر نفسه إلا هذا الخافق الذي عاد إليه الوجيب أعنف ما تكون العودة، فهو في طريقه إلى هواه، إلى ماضيه، بل إنه في طريقه إلى الحاضر، الحاضر الذي كثيرا ما تمنى لو أنه حققه لنفسه ... لقلبه.
حاذى القارب قارب عمه الراسي هناك، ونزل إلى المرسى وطلب إلى صاحب القارب أن يعود إليه بعد حين.
جلس وصفي في مكانه المعهود والبيت الذي ألقاه عفو الصدفة يطن في خاطره في إصرار عنيف لا يبتغي عنه حولا.
وقد يجمع الله الشتيتين بعد ما
يظنان كل الظن ألا تلاقيا
وظل البيت يدور في ذهنه كنغمة تعودتها الأذن، فما تحس بها، وراح وصفي يفكر فيما كان من الأيام التي تفصل بين هذه اللحظة التي هو فيها وبين آخر مرة كان فيها هنا.
وفي القصر جلست سهير وحدها، أتذهب؟ أتلتقي به هناك؟ لا، لن تذهب، ماذا أفادت من هذا المكان، ومن هاته اللقاءات التي كانت فيه؟ لا شيء إلا الحسرة والألم والحزن، ولكن أكان الحزن نابتا من اللقاء أم من انقطاع اللقاء؟ طريق واحدة، اللقاء أسلم إلى عدم اللقاء إلى الحزن، الحزن منتهاه والألم والحسرة.
Halaman tidak diketahui