وتزوجت البنت، وتخرج الولد ضابطا في البحرية، وأقبل على الزوجين عصر الشيخوخة، ولكنهما تمتعا بصحة جيدة، ومحافظة غير عادية على مظاهر الشباب، ويظل صديقي الزوج السعيد. حتي يدهم ذات صباح بوفاة القرينة إثر أزمة قلبية مباغتة. ما زلت أتذكر العناء الذي بذله ليحافظ على توازنه كي يؤدي واجبه نحو الراحلة. ولما جاء دوري لأقول له شد حيلك، همس لي بتسليم حاسم: أنا انتهيت.
وكرجل ذي خبرة بالحياة لم آبه لقوله. عرفت الأفراح والأحزان والزمن، ولم تعد تؤثر في كثيرا الأقوال الساخنة التي تصدر في الظروف الساخنة. نعم سنتسامر قريبا، ونحن نقهقه، وربما كلفني يوما بالبحث عن زوجة ثالثة، ولكن الحزن طال كليل الشتاء، ورسخ وتغلغل وكأنه أزمن. الحسرة تكاد تقتله، ولا عزاء له إلا في تذكر العشرة الجميلة المولية. كيف أمكن ذلك الحب أن ينجو من افتراس الزمن ومكر العادة وسم الضجر؟! - لا طعم لشيء بعدها.
الحق أقول إنه رغم شدة ارتباطنا لم أخل من ضيق لثباته على كآبته وتكراره لحديث واحد لا يتغير. مللت الشكوى، والنبرة الباكية، وسيرة الراحلة وذكرياتها، ولكن سيناريو الأحداث لم يتوقف. ماتت ابنته وهي تلد! يا للداهية! هل يتحمل الرجل هذه بعد تلك؟! ووقفنا نسنده، وهو والحق يقال يحسن التماسك أمام الناس.
وتأثرت للحدث مرتين؛ مرة من أجل صديقي، وأخرى من أجل الراحلة العزيزة. ويوما ونحن نتناجى أذهلني بقوله: تصدق بالله؟! لقد احترق قلبي لموت عزيزة، ولكن حزني عليها لا يعد شيئا بالقياس إلى حزني على المرحومة!
أذهلني حقا، جعلت أسترق إليه النظر باستغراب. ألم يمض من الوقت ما يكفي للتعزي عن المرحومة؟ كيف يكشف عن ذلك الاعتراف عقب دفن كريمته بأسبوعين؟ وداخلني شعور بأنه شخص غير طبيعي، أو أن الحزن شتت اتزانه القديم. وانصرفت عن مراجعته رثاء لحاله. ولم تتوقف الضربات المنهالة عليه، فبلغت ذروتها عندما قتل ابنه في الحرب. أداء واجب العزاء يشق على النفس أحيانا، ويتجاوز الطاقة. وساورني وأنا مقبل عليه ما يشبه الشعور بالذنب، ولكن شد ما وجدته هادئا ساكنا كأن الأمر لا يعنيه! وحافظ على ثباته الغريب طيلة وقت الجنازة والمأتم. توقعت أن تحدث أمور أو ردود فعل تعيسة، لم يحدث شيء على الإطلاق. حتى قال لي يوما: ما رأيك؟ تضاربت الأحزان فهلكت جميعا.
فأردت أن أقول شيئا عن الرحمة الإلهية، ولكنه قاطعني: صدقني، أنا لا أشعر بأي حزن، لا نحو المرحومة ولا الابنة ولا الابن، لا أدري كيف حل هذا السلام كله!
ثم بلهجة حكيم: صدقني، لا شيء يستحق الحزن، دع الحزن للحمقي، أنا الآن مثل طير لا تربطه علاقة بالأرض، إني أيضا أتذوق الطعام وأحبه، وأسمع الأغاني الحلوة حتى الثمالة، ويخيل إلي أنني لم أعرف السعادة من قبل كما أعرفها الآن.
تساءلت في نفسي: أهي حال من الحزن المفرط؟!
كلا. صديقي سعيد حقا. صحته في أحسن أحوالها، واسترد لونه الطيب وابتسامته. يجلس نهاره في مقهى أصحاب المعاشات، يتسلى بالحديث والنرد. ويمضي أماسيه أمام التليفزيون أو في سماع أغانيه المفضلة. إنه يحظى بحرية لا يعرفها إلا قلة من البشر.
العود والنارجيلة
Halaman tidak diketahui