شد ما تحزنني لامبالاتها! فضلا عن أنها لا تريد أن تستقر على حال، فما هي إلا لحظات حتى نطير معا، هي في الفضاء، وأنا فوق الأرض الغائبة عن بصري. وأستيقظ على فرقعة سوط فأنتبه إلى قدوم كارو أوشك أن أصطدم بها. أتفادى منها على عجل، وسباب السواق يلاحقني. عيناي مشدودتان إلى محبوبتي حتى تهبط فوق غطاء دكان لبيع البقالة والسجائر والخمور. أقف وأنا ألهث غير ملق بالا إلى الزبائن. ما أطول المسافة التي قطعتها ولكن طولها نفسه يحرضني على الاستمرار. ربما يساورني شيء من الضيق والكدر، ولكن الأمل لا ينقطع. وأقول بعناد: وراك .. وراك .. مهما طال الزمن وراك.
سوف تحاسبني أمي علي اختفائي، ولكن سرعان ما يتلاشي غضبها عندما ترى اليمامة في حضني. وها أنت تطيرين للمرة الرابعة يا قليلة الرحمة فأجري أنا كالمجنون في إثرك. أكاد أعثر هذه المرة بشيء فوق سطح الأرض ولكن الله سلم. أتبعها بإصرار حتى تهبط فوق حافة شباك المستشفى. الدنيا زحام، عشرات يدخلون وعشرات يخرجون. يختلط الدعاء بالشكر بالبكاء. أغرق في تيار البشر، ولكن عيني لا تتحولان عنها. يخيل إلي أنها ترمقني، إنها الآن تعرفني أكثر من أي وقت مضى. وأسألها: ألم تشبعي من الطيران؟!
لكنها تطير للمرة الخامسة، دون أدنى اكتراث بي. أطلق ساقي في عناد يقهر أي تعب. وفجأة تزل قدمي في نقرة فأندلق على وجهي. أنهض مسرعا متوجعا والدم ينز من ركبتي. يمزقني ألم قاس، فأفحم في البكاء كالأطفال. لكني أنظر من خلال الدموع الى أعلى. أحس بعوج في كاحلي يمنعني من الجري. وتجول عيناي في الفضاء، فلا ترى أثرا لمحبوبتي الهاربة. أنتبه إلى ما حولي فألمس العتمة في الخلاء المحدق بالمدينة. تختفين بعد مشوار طويل مبلل بالعرق والدموع؟ ويتبين لي أن الخلاء ليس بالغريب علي؛ فطالما أقطعه حاملا الخوص بصحبة أمي ونحن في طريقنا إلى المقابر. ولم أجد من الخلق إلا أحادا عابرين. وها هو المساء يهبط بكل جلال.
القرار الأخير
رجل جاد لا موضع فيه للمرح. رجل يحب الكمال بإفراط مهلك. وقيل عنه أيضا إنه وحش، لم ينبض قلبه بنبضة رحمة واحدة، ولو على سبيل الراحة. يوم مات انتشر الخبر في الحي كالشعاع الحار مفجرا مزيجا من الدهشة والرهبة والارتياح. وثارت شكوك حول حقيقة موته، فتهامس جيران بأنه قتل. وتصاعد الهمس حتى شرحت الجثة قبل دفنها. وثبت أنه مات كما يموت كثيرون بنزيف في المخ، ورغم ذلك ألصقت بابنه تهمة قتله، واشتهر الشاب في كل مكان يحل فيه بقاتل أبيه، وحلت به اللعنة في هالة من عطف كبير. ويهتف الشاب: كل واحد يعرف أن التهمة كاذبة، ولكن كيف أدفع اللعنة؟!
ألم يلكم أباه فيطرحه أرضا؟ ماذا يهم بعد ذلك أن يموت الرجل من أثر اللكمة أو يموت حزنا وكمدا؟! وعلى ذهول الشاب وكآبته فإنه لم يعلن ندمه، وصارح كل مخلوق بأنه كره أباه حيا وميتا. كان رجلا يستحق المقت. قيل إنه عشق الكمال، وأصر على أن يتحلى بالكمال كل من خرج من صلبه، فمن كان ذلك الرجل الذي هام بالكمال لحد الجنون؟ كاتب حكومي لا أكثر، الابتدائية غاية تحصيله، قرأ بعض كتب الرواد فراودته أحلام بأجنحة وبلا أقدام. أفلتت منه الفرص، وذاب في الزحام، فأراد أن يجعل منا؛ أنا وأخي الكبير، وأختي أمثلة حية للكمال البشري. صدقوني، لم يكن إلا مجنونا. لا خبرة له على الإطلاق بالتربية، ويؤمن بأن القوة هي الوسيلة السحرية لخلق المستحيل. كم من مرة صب زوبعة غاضبة على أمي لأن طبق طعام بات دون غسيل، أو خصلة من شعرها الكستنائي تسربت من حافة المنديل. أخي الأكبر جلد بقسوة مرات لأن ترتيبه تأخر عن الأول، وأختي الجميلة تعرضت لنفس العقوبة دون اعتبار لرقة أعضائها وتوفر نضجها. وهو يجلد إذا جلد بوحشية المتعطش للانتقام لا حكمة المربي الزاجر. ولم يكن يبتسم، دائما يعلوه الحزن، وكأنما يتوقع قدوم موت وشيك. عشنا في رعب، عشنا بلا حب، نتبادل نظرات التشكي، وأمنا تتأوه باكية وتصيح: أنت تهلك الأولاد، ربنا لن يسامحك أبدا.
فيرد عليها بصوت كالرعد: اسكتي يا داعية الانحلال.
وقالت له مرة: أنت أسوأ أب.
فصاح بها: ما أنت إلا امرأة سوء .. والموت عندي خير من الضياع.
وذاعت أخبار بيتنا بين البيوت، قالوا إن في بيتنا محكمة تفتيش منعقدة بصفة مستمرة. ولم يكن لديهم ما يأخذونه عليه كجار؛ فهو يشيع الأموات، ويعود المريض، ويبرق مهنئا في الأفراح. لكنه لا يذهب إلى المقهى، ولا يوثق علاقة بأحد، ولا صديق له. يؤدي فريضة الجمعة في المسجد، يتبادل بعض التحيات في تحفظ، وسرعان ما يرجع إلى مسكنه. وتجرأ عليه جار يوما، فاعترض سبيله ليعترف له بأن صراخ أبنائه يكدر صفو حياته، وأن التربية تقوم على الحزم والرحمة معا، ولكنه عبس ومضى مقاطعا الحوار. وبلغ حزننا مداه عندما قبلت أختي زيجة غير متكافئة لا لشيء إلا أن تهرب من قبضة أبيها الحديدية. لا السن مناسبة ولا الشكل، ولكنها وجدت في جواره الكئيب النجاة. وذهب أخي الأكبر ذات يوم ولم يعد. اختفى من حياتنا فلا هو حي، ولا هو ميت. وتحطم قلب أمي. أما أبي فقد ثار غضبه طويلا، ووجم أحيانا، ودارى هزيمته بكلمة فظة انطلقت من فيه كالحجر، صاح: في داهية!
Halaman tidak diketahui