أما الآن فموقف المعارضة، وإن خفت صوت أحد حزبيها، هو الموقف الأمنع والأعز. وخصوصا في ما أسلفت من اعتراضها على المعاهدة ومما تثيره من الخوف والحذر.
خذ الدين مثلا. فهو في مجموعه مليونان وثلاثمائة وستة عشر ألف جنيه إنكليزي. فلو كان بإمكان العراق أن يدفع هذه القيمة مباشرة لفعل، ولتملك ملكا تاما ميناء البصرة وسكة الحديد. وبكلمة أخرى لأحرز استقلاله. لكن الإنكليز لا يريدون المال دفعة واحدة. فعلى العراق أن يدفع القيمة تباعا، وأن يقبل بأقلية الأصوات في مجلسي إدارة الشركتين، وإن استمر الحال خمسا وعشرين سنة. أولا يجوز أن يحدث في خلال هذه السنين، ما يوجب زيادة الدين وتمديد مدته؟ أولا يجوز أن يحدث ما يحمل الإنكليز على الاستئثار بإدارة المجلسين؟ أولا يجوز أن يحدث؟ ...
ليتك، يا إنكلترا، ما كنت ذات ماض مريب في فلسطين، وفي جنوبي البلاد العربية، وفي مصر! لكان الناس إذ ذاك يثقون بك، ويشكرون الله على بركات التعاون وإياك. ولكن الخوف الأكبر والأشد، الخوف الذي تزدريه اليوم الحكومة، وتستشعره المعارضة، هو أن المجلس الإداري، السائدة فيه كلمة الإنكليز، سيستمر في تحسين ميناء البصرة، وفي تمديد سكة الحديد؛ ليزيد بالدين على العراق، ويوجب عليه تجديد المعاهدة. وبعد ذلك؟ دين كدين مصر - ولا انتداب - ومعاهدة يأبى العراق أن يجددها. فهل يلزم أكثر من ذلك لتتذرع به الحكومة البريطانية في احتلال العراق احتلالا ثانيا - عسكريا - على غرار احتلالها لمصر!
قد يكون في هذا التخوف شيء من الوهم والمبالغة. وقد تزيلهما تدريجا حكومة العراق إذا أحسنت التعيين للأعضاء العراقيين في مجلسي إدارة السكة والميناء. فإذا كان التعيين، كما هو الغالب، سياسيا - أي لإرضاء الأحزاب والملل - فيكون صاحب المعالي صاحب وجاهة وبلاهة، فالأعضاء الإنكليز إذ ذاك يستقلون في العمل - ولا غرو - ويستأثرون.
أما إذا كانت الحكومة تتجرد من الحزبية، فتعين من هم أهل لهذه الوظائف من رجال الاختصاص المجربين المدربين، والمشهورين بنزاهتهم ووطنيتهم، فلا خوف إذ ذاك على العراق. فإن أولي الوطنية والعلم والخبرة ليستطيعون، في مثل هذه المراكز، أن يحفظوا مصالح بلادهم، وأن ينقذوها من الديون الأجنبية.
بيد أن هناك غير الديون الأجنبية - هناك أعباء غير بريطانية. فمنذ ألغي الانتداب ازدادت تبعات العراق. إن جنيف لجذابة، وإنها لمقيدة. أجل، إن عصبة الأمم تصنع قيودا جديدة، قبل أن تفك القيود القديمة.
لماذا رغبت الحكومة البريطانية مثلا بإلغاء الانتداب؟ الجواب وجيز بسيط. إن المعاملة والعراق مباشرة لخير من المعاملة عن طريق جنيف. وقد كان موقف العراق في هذا الأمر موقف الحكومة البريطانية عينه. إذن علينا أن نتخلص من جنيف. وذلك لا يتم إلا بدخول العراق في عصبة الأمم. لذلك كانت مساعي الحكومة البريطانية مستمرة في هذا السبيل. وهي تعود إلى سنة 1924 عندما وقف اللورد بارمور في مجلس العصبة وقال: قريبا يمسي الانتداب غير لازم في العراق وغير مفيد؛ نظرا لتقدم البلاد السريع في الشئون الاقتصادية والسياسية. وقد ردد هذا القول كبار رجال الانتداب أنفسهم، ولا سيما السر فرنسيس همفريس الذي نصر العراق في طلبه وقال إنه جدير أن يدخل العصبة، بعد أن يؤدي الضمانات اللازمة، التي ستجدد في معاهدة تحل محل صك الانتداب.
ولكن ذلك مقيد بحقوق وشروط عصبة الأمم نفسها. فبعد أن بحث مجلسها الأعلى المسألة، وحدد الضمانات والشروط، قدمها للعراق، فقبلها، هي ذي أعباء العراق الأخرى - غير البريطانية. أما أنها أعباء ثقيلة فذلك ظاهر من المذكرتين اللتين قدمهما العراق لعصبة الأمم، قبل دخوله بخمسة أشهر.
وقد ذكرت في الأولى مسألة الأقليات، صواحب العصبة المحبوبات، فأدى العراق من أجلهن ضمانات ثلاث، عامة وخاصة وإضافية: يضمن العراق لكل شعوبه على السواء حقوقهم المدنية والدينية والسياسية. فهم في نظر القانون متساوون، لهم جميعا الحقوق نفسها، وعليهم جميعا الواجبات نفسها. ويضمن للأقليات الدينية والقومية جميع الحقوق التي يتمتع بها الآخرون. ويحق لهذه الأقليات أن تؤسس على نفقتها معاهد خيرية ودينية تختص بها، ومدارس طائفية يتعلم أولادهم فيها بلغاتهم.
وقد زيد في الضمانات للأكراد. فإن لهم الحق أن يعلموا أولادهم في مدارسهم الخاصة بلغتهم الكردية، وأن تكون اللغة الكردية لغة رسمية مثل العربية في الألوية التي هم فيها الأكثرية.
Halaman tidak diketahui