قلما اجتمعت، في رحلاتي كلها، بمن هو أدمث خلقا وأجمل تقوى وورعا من هذا الرجل. وهو - ولا شك - شيعي من الكاظمية، قلما تجد مثله في الشرق. هو رجل قديم الأيام، قديم اللسان، قديم العقيدة والإيمان. هو رجل من القرن العاشر، أحد صناع الآجر في زمن العباسيين، عاش ألف سنة فأدمثته الأيام، وروعته الليالي، ثم استأنف صناعته في ظل المآذن والقباب، في جوار الكاظمين - رضي الله عنهما.
وقد زرت خارج بغداد مصنعا للآجر حديث البناء والأدوات، صاحبه، يهودي من هذا الزمان - عصري عمراني! فهو يشعل في أتونه زيت النفط، بالضغط البخاري، ويصنع الآجر بالمكنات، ويرسل نموذجات من التراب - مكن كلمته هذه بإيماءة فيها الرضا عن نفسه والفخر بها - إلى أوروبا ليفحص فحصا كيماويا، ثم قال: «نعم، إننا نلجأ إلى العلم، لننتفع به ... ولكن العلم لا يزيد الأرباح في العراق.» ثم سألته سؤالي بخصوص اللبنة البابلية، لبنة نبوخذ نصر، وهي المثل الأعلى في هذه الصناعة، فقال: «كله يتوقف على التراب والملح. في بعض الأماكن يكثر الملح في التراب، ويقل في غيرها؛ لذلك نرسل النموذجات منه إلى الاختصاصيين بأوروبا ... أظن أن الملح يقل في التراب في جوار بابل والحلة ... لا يا سيدي، لا نستطيع أن نستخرج كل ما في التراب من الملح؛ لأن ذلك يقتضي نفقات كبيرة. والناس لا يرغبون في غير الآجر الرخيص.»
إن المسألة اقتصادية. فاللبنة لا تتحسن إلا إذا زيد بثمنها، والزيادة بالثمن غير ممكنة إلا إذا ازدادت الثروة في البلاد؛ لذلك ترى الحكومة العراقية باذلة جهدها في تحسين الزراعة بتحسين عوامل الري. إذ ذاك نعود إلى الزمن البابلي - إلى عهد نبوخذ نصر الزراعي - فنستغل الأرض بكل ما لدينا وبكل ما فيها ، ونثري ونبني البيوت التي لا تنضح لبناتها ولا تذوب، البيوت التي تدوم أكثر مما دامت قصور الخلفاء العباسيين.
لله أولئك العباسيون! فقد ابتغوا المجد في الدنيا وفي الآخرة، وخصوصا في الدنيا، وما أدركوا أن ما ابتغوه موكول باللبنة لا بالدينار، وبأقنية الري لا بأقنية العصور الحريمية، وبالمحراث لا بالسيف. بل هو موكول ببناء العقول أكثر منه ببناء الدور لاسترقاق العقول وسجنها، أو لاستخدامها في سبيل الخليفة ولذاذاته.
آثار العباسيين
إن الإنسانية لتنور النور الأجمل في أوديتها الساكنة الهادئة، وتثمر أطيب الثمار في المروج والحقول. أجل، إن أكثر النوابغ، وأكبر الأبطال لمن سواد الناس. مما يحقق الآمال بالإنسانية ويبرر الزهور بالنهضات القومية، فتتميز بفضل أرباب النبوغ والبطولة عهود التاريخ بعضها عن بعض، وتظهر الفوارق حتى بين المثمر منها والعقيم، فتعرف إذ ذاك بأسماء أصحابها، لا بالنعوت الذهبية أو الدرية.
وإن في تاريخ العراق عهدا - وإن قصر - يستحق أن يدعى باسم من بز فيه جميع معاصريه. وما هو العباسي، من أوطئ له هذه التوطئة، ولا بالبرمكي ولا بالبويهي. ما كان من الأمراء، ولا من الفقهاء، ولا من العلماء. بل كان عبدا رقا، ذا مطامع تصغر عندها مطامع أكبر الناس همة، وأشرفهم حسبا ونسبا. هو العبد مرجان؛ وسأزيدك علما باسمه وسيرته عندما نصل في جولتنا إلى آثاره.
أول الآثار هو ما بقي من مدينة أبي جعفر المنصور، في مقبرة في الصوب الغربي هي اليوم للشيعة. هناك حجرة كانت مسجدا في المدينة المدورة، أو أنها الأثر الباقي من ذلك المسجد، وهي لا تزال تدعى باسمه؛ أي مسجد المنطقة. وفي هذه الحجرة أسطوانة من الرخام السماقي يتبرك ويتوسل بها العوام من الشيعة لمعجزة نسبت إليها. وهي أن علي بن أبي طالب وقف ههنا يصلي ذات يوم، وكان عطشان، فنبع الماء من الأسطوانة، فشرب وحمد الله. هي أسطورة لا تحفل بالتاريخ، فقد توفي الإمام علي بالكوفة قبل أن بنيت المدينة المدورة بمائة سنة.
منارة سوق الغزل (تصوير الدورادو).
أما المأذنة القديمة القائمة اليوم في قلب الصوب الشرقي من المدينة، فلا أسطورة تشرفها، ولا هي تفعل العجائب. كانت هذه المأذنة زمن العباسيين وسط جامع كبير، قيل إنه بني عهد هرون الرشيد (787-809م)، وقيل عهد المكتفي بالله (903-908م)، ولو كانت تقرأ الكتابة المحفورة في أعلاها بالخط الكوفي لتحقق على ما أظن تاريخ هذا الجامع، الذي كان يدعى منذ خمسين سنة بجامع الخلفاء، والذي لم يبق منه غير هذه المأذنة، القائمة وسط بيوت وأسواق يباع فيها الغزل، فسميت لذلك منارة سوق الغزل.
Halaman tidak diketahui