وقد تتجاور الأحياء وتتلاصق بعضها ببعض، ولا تتجاور القلوب، ولا تتلاصق الإحساسات القومية. فالعقلية في كل جماعة لا تزال في الغالب عقلية بدوية، مفتوحة لإخوانهم، ومقفلة دون الآخرين. والعرب في هذا مثل سائر الجماعات، خصوصا العشائر التي لا تزال في ما كانت عليه. فهي تحافظ على عاداتها، وتقاليدها، وأحكامها الخاصة، ولا تنسى، وشرف العرب، ما بينها من دم، ومن عداء قديم. هي ذي المعضلة الكبرى الاجتماعية والوطنية في العراق.
أما بغداد فقد بناها أجداد هذا المزيج من الشعوب، بعد نكبة سنة 1831، كما بنى تقدمهم بعد كل نكبة من نكباتها. بنوها كما يبني من لا يأمن حتى يومه ولا يأمل بطول الإقامة. بنوها كل على ذوقه، وحسب اقتداره، وعملا بالأحوال القاهرة، بدون تصميم، وبدون اتساق، وبدون نظام مدني يرعونه، أو أوامر مجلس بلدي يلتزمونها. بنوها على عجل كأنهم كلهم مسيرون بحاجة يومهم، أو مهددون بكارثة أخرى، ووكلوا أمرهم إلى رب الصدف والتقارير. فنشأت من الجدران المستقيمة جدران معوجة، وعلت السطوح سطوح، ودرجت الأدراج من النوافذ، ولاذت الأواوين بغرف النوم، واشرأبت الشرفات إلى الشرفات، بل امتدت بعضها إلى بعض، فتوسعت البيوت، وتضيقت الجادات، فصارت تدعى بلغة البغداديين «دربونات». ولهذه الدربونات، من الشرفات المتعانقة فوقها، سقوف ظليلة! إنها لهندسة عجيبة أوحت بها الفوضى، وأيدتها التقادير. وما كان الأتراك ليكترثون بهذه أو تلك، ما دام أبناء التقادير والفوضى يدفعون الضرائب. «دربونة» في بغداد القديمة (تصوير الدورادو).
إن في بغداد شارعا واحدا طويلا عامرا يمتد من الجنوب إلى الشمال، من باب شرقي إلى بوابة الأعظمية، في خط مستقيم، إنما لا كالرمح، فيقسم الصوب الشرقي قسمين، كما يفعل الإسفين في الكتلة. فينبسط القسم الأول شرقا في سهل رحب، ويتكون القسم الثاني إلى جانب دجلة في شكل «هرمي» قاعدته العيواضية، ورأسه دار شركات النفط بباب شرقي. وفي هذه المظاهر من نشوء بغداد تبدو بوضوح قبيح تلك الآفات التي ذكرت: الفوضى في البناء، والصدف في التخطيط ، والقدر في أهواء السكان.
وفيها كذلك المتناقضات المدهشات المكربات. فهي قديمة وهي جديدة، وهي متراصة وهي متبعثرة. وهي مدنية وهي بدوية. فالشارع الطويل الذي دعاه الإنكليز بالجديد، ثم غيرت أمانة العاصمة اسمه فدعته شارع الرشيد، هذا الشارع بما فيه من مخازن حديثة، ودكاكين قديمة، ومقاه ودور سينما، وأنوار كهربائية وأسلاك برقية، وعربات وسيارات و«بصات» ومنافذ في جانبيه إلى «الدربونات»، إنه لشبيه بشارع في قرية أوروبية. والبلدة أو المحلات شرقا منه. وإن كانت بمجملها لا تتجاوز المائة سنة، هي جد قديمة بما في ظاهرها، ولا يخلو بعض داخلها من ضيق الجادات واعوجاجها، والتهدم فيها، والقتام، والروائح العجيبة! أما القسم المحاذي للنهر، وفيه الأندية والمقاهي والسراي، وبعض بيوت للسكن جميلة، وبعض البساتين التي تزينها أشجار النبق والنخيل، فما هو بشرقي ولا بغربي! إنما هو جدير بحسن الذكر والتقدير. ولكن في الجهة اليمنى من دجلة - أي الصوب الغربي الذي لا يزال يدعى الكرخ، وخصوصا في الناحية التي تمتد من جسر مود إلى كرادة مريم - دورا على شاطئ النهر، جميلة بوداعتها، وفسحاتها، ونخيلها، وبشرفاتها التي تجري من تحتها المياه. •••
وبين شعراء العرب شاعر من الطبقة الوسطى، ظفر بالشهرة في قصيدة واحدة نظمها، بل في بيت واحد من تلك القصيدة. وقد تكون الشهرة للبيت لا للشاعر، فقد تغنى ابن جهم بمجازفة له غرامية في الجهة اليسرى من النهر قرب الجسر. ومن لا يذكر مطلع تلك القصيدة التي خلد فيها اسم الصوب الشرقي من بغداد:
عيون المها بين الرصافة والجسر
جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
يذكرني ابن جهم بالشاعر الإنكليزي طوماس هود الذي وثب إليه قلب الشهرة وثبة عجيبة في قصيدة واحدة أو قصيدتين. ويندر بين الإنكليز من لا يعرف المقطع الأول في الأقل من قصيدته «جسر الزفرات» الذي كان مجلبة للعيون، التي هي مجلبة للهوى. وموضوع القصيدة حسناء قضت نحبها هناك عند الجسر.
كأن الجسور في كل المدن مغناطيس القلوب، أو كأنها شباك للغرام. وقد يكون فضلها أو إثمها في المياه الجارية تحتها، في رائحة الأنهار القرقفية أو رائحة البحار الزنجبيلية، فتبعث في النفس نشوة يعقبها سكرة - سكرات! وقد يكون فضلها أو إثمها في دنوها من الأجل المحتوم المقدر؛ أي من المكان الذي يصلح للانتحار ... «وأوله سقم وآخرة قتل.»
إن كثيرا من الأنهار عند الجسور بأوروبا تشهد بصحة قول ابن الفارض. أما دجلة فلست أدري إذا كان قد شهد مرة هذا النوع من نهاية الحب. ولست أدري إذا كان أهل الغرام في أيام ابن جهم كانوا يؤثرون الجسور للمواعد على المنتزهات والبساتين. إنما كانت هناك مواعد، ولا ريب، واجتماعات. وما فقدت بغداد هذه المزية الاجتماعية، الغزلية في الأقل، حتى في عهدها الأخير يوم أمها ابن جبير. ولا عجب - وهو الأديب الأندلسي - إذا أشار إلى ما للماء من الفعل بالقلوب في قوله: «والحسن الحريمي بين هوائها - هواء بغداد - ومائها ينشأ. هي من ذلك على شهرة في البلاد معروفة موصوفة.» ولكنه، على غير عادة الأندلسي، يتخوف من فتنة الهوى «إلا أن يعصم الله منها.»
Halaman tidak diketahui