بقي أن أقول كلمة في آفة له شعرية، تكاد تكون آفة الشعر العربي، وخصوصا في هذا الزمان. أريد بها الإسراف في الألفاظ، وفي الخيال، وفي المعاني، وقل كذلك في الرضى عن صور لامعة منفردة، أجاءت في محلها أم لم تجئ. فهي تزج في القصيدة، فتبدو فيها نافرة، أو صاخبة، أو متقلقلة.
وبكلمة أخرى إن الشعر العربي الحديث تكثر فيه الصناعة اللفظية، على الإجمال، وتقل الصناعة المعنوية. كما أنه عامر بالخيال، ومفتقر إلى الفن في التكوين؛ أي إلى الاتساق والتجانس في الصور والاستعارات، وإلى الوحدة المعنوية في القصيدة.
مثال ذلك: من شعر الصافي قصيدته «نجمة الصبح». فإن فيها صورا شتى، تتزاحم في ذهن القارئ، ولا تترك فيه أثرا بارزا، أو شكلا واحدا جذابا، كامل التكوين. فالشاعر في مطلع القصيدة يمثل كوكب الصباح رفيق سفر سبقه الرفاق، فيبكيهم تارة، وطورا يشتعل كمدا، وحينا يرف بجناحيه ليطير فيدركهم، وحينا يتخبط حائرا قلقا، ثم يتصور رفاقه وقد غرقوا في بحر من النور، وهو الذي نجا من الغرق يسبح لينجيهم.
أما النور فهو في كل حال من أحواله يتغير صفة وشكلا. فهو الدموع، وهو النار، وهو الجناح، وهو العرق، وهو الأكف التي يبحث بها عن رفاقه لينتشلهم من اليم. فيهتاج البحر لذلك، ثم تجيء الشمس هائجة لتغرقه هو كذلك. فالصورة هذه، لو وقف عندها، هي صورة كاملة موحدة، على ما فيها من اضطراب. ولكن الشاعر استسلم لخياله الخصب فراح يصور كوكب الصباح - ذلك البطل الذي انبرى لإنقاذ رفاقه من الغرق - راح يصوره كطائر أصبح في قفص، أوكسجين في السماء، وقد استحال نوره سلسلة على عنقه ورجليه!
فلو اقتصر الشاعر على صورة واحدة من هذه الصور، ومثل كوكب الصباح ينازل الشمس مثلا، فيتنازعان الوجود، أو مثله رفيق سفر يجد ليلحق برفاقه أو ينقذهم، وشذب الصورة من كل ما يصرف الذهن عنها في الزيادات، لبرزت القصيدة في صورتها الواحدة الكاملة أبلغ وأجمل مما هي في صورها المتعددة، ولكان لها وقع شديد في نفس القارئ، وأثر لا يمحى.
لا أظن الصافي يجهل هذه الحقيقة. فإنها لتبدو جلية في قصيدته «ليلة ماطرة» ذات الصورة الواحدة المتسقة، المجردة من فضول القريحة؛ وكذلك قصيدته «الشاي» الفريدة في بابها، الحافلة بالمعاني الجليلة التي لم يسبق على ما أظن إليها. وهي كاملة متجانسة في الوحدة الشعرية. فعسى أن يتوفق الشاعر دائما إلى هذا الفن المشذب العالي، الذي تصفو وتستقيم فيه الصيغة والفكر والخيال.
الصولجان والرمح والعصا
مهما كان من ارتقاء الأمة، وطنيا واجتماعيا وثقافيا، فهي تظل في حاجة إلى ما يضمن كيانها العالي، في حاجة إلى القوة المعنوية المخزونة، التي تبعث في أبنائها النشاط والعزم والإقدام. هي القوة التي تنشأ عن الصحة والمرونة في الأجساد وفي الأخلاق ، وفي الأرواح والعقول. تلكم هي القوة الكامنة في الألعاب الرياضية. فالأمة التي لا تحسن اللعب - اللعب في الفلاة لا في المقاهي المخبلة - لا تحسن العمل، ولا تأمن، في رقيها وعمرانها، غوائل الزمان.
عندما زار بغداد في سنة 1922، اللورد إبسلي، مدير جريدة المورننغ بوست في لندن، قابل الملك فيصلا بشأن المعاهد الإنكليزية العراقية في تلك الأيام. وبعد المحادثة السياسية قال: «وهناك مسألة هي أهم من المعاهدات أحب أن أعرضها على جلالتكم.» فاشرأب الملك فيصل إليه، وأرهف من كان حاضرا أذنه، فقال اللورد: «نعم، هي مسألة مهمة جدا. متى يصير عندكم بالعراق فرقة للعب البولو؟» فضحك الملك، وما ظن أن سيكون لهذه المسألة شأن في المستقبل القريب. •••
إن لعبة البولو فارسية الأصل. وقد ساحت شرقا من فارس إلى الهند والصين، ثم غربا بطريق الأستانة إلى أوروبا، ثم رأسا من الهند إلى إنكلترا، في سنة 1869، على يد ضباط إنكليز. وهي الآن، والحمد لله ولصاحب جريدة المورننغ بوست الشريف الظريف اللورد إبسلي، تعود بعد نصف قرن من لندن إلى الشرق. فما أعجب سياحات الألعاب!
Halaman tidak diketahui