وإن لشاعرية الرصافي نواحي متعددة، منها الناحية الفلسفية التي لا تقل في المحاسن عن سواها. وله نثر هو كشعره في السلاسة والصفاوة والذوق السليم، فقد كتب كتابا فريدا في بابه باللغة العربية هو سيرة النبي، أطلعني عليه مخطوطا بيده، في سبعة دفاتر مدرسية. ما أدهشني ما في هذا الكتاب من العلم والتحقيق؛ لأن مصادر الموضوع متوافرة لمن يشاء معالجته، ويحسن البحث والموازنة، إنما أدهشتني القوة النافذة، والمقدرة على التحليل والاستخراج، والتفلسف في عقائد لا تستقيم بغير الإيمان والجرأة والصراحة.
وإنه في بابين من ديوانه؛ أي في «الكونيات» و«الفلسفيات» ليثبت ما هو ظاهر وكامن من محاسن أدبه في الكتاب المذكور، الذي ينتظر النشور. فالرصافي في شعره الفلسفي هو كالزهاوي، والاثنان يستمدان من ينبوع واحد، ينبوع المعري. إلا أن زمانهما غير زمان أبي العلاء. فلا عجب إذا فاقاه أحيانا في التصور والتفكير. وإن الرصافي، وإن هزهزه الشك واستحوذ عليه التشاؤم في بعض الأحايين؛ ليرفع دائما أعلام الحرية والعقل والإخاء الإنساني فوق رواسي المذاهب البشرية كلها. فهو في دينه الفيلسوف العلي الإنساني.
أما في حبه فهو الشاعر العاطفي المشغوف بالجمال على أنواعه - الجمال الطبيعي، والجمال الفني، وجمال المرأة الفائق كل جمال. إنه ليشاهد التجسد الإلهي في المرأة، وفي الطبيعة. وإنه ليقف أمام هذا التجسد متورعا متضعا متعبدا.
حدثني ذات ليلة قال: «المرأة بهجة الوجود، وريحانة الحياة، وما الحجاب وما السفور ساعة تدنو منك؟ فإن جسمها لينطق حبا، ويشع حبا، ويتضوع حبا، سافرة كانت أو محجبة. نسمع الكتاب في هذا الزمان ينادون بالسفور. وهل يسفر الرجل، يا أمين؟ أليس كل منا محجبا - لابسا القناع؟ كل واحد من الناس هو سر من الأسرار للناس. لينزع الرجل القناع، وليطالب بعد ذلك بسفور المرأة ...»
وما قصر الرصافي بالمطالبة. ولا قصر في ميدان الدفاع عن حقوق المرأة. يكفيه من ذلك قصيدته المشهورة «التربية والأمهات» التي أسلفت الإشارة إليها. وإنك لتجد في باب «النسائيات» من ديوانه القوافي الرائعة في مناصرة المرأة وتحريرها، والهجوم المروع على أولئك الذين يرومون إبقائها في قيود الجهل وفي ظلمات الحجاب والعبودية ...
وقالوا الجاهلات أعف نفسا
عن الفحشا من المتعلمات
لقد كذبوا على الإسلام كذبا
تزول الشم منه مزلزلات
قلت إن المرأة كما يراها الشاعر، هي المثل الأعلى في الجمال البشري والطبيعي. وإن للرصافي قصائد عدة في وصف محاسنها. ولكني ما قرأت في شعره أجمل من قصة يقصها، فقد روى لي تلك الليلة خبر حظوته للمرة الأولى بمشاهدة سيدة أوروبية. فقال: كنت لا أزال بدويا ما شاهد من النساء غير العجائز وبائعات اللبن، والبائسات والشاحبات والمشوهات، وقد ثقب الجدري، أو عصفر المرض، وجوههن. وفي ذات يوم رحت وصديقا لي إلى المقهى، إلى كهف قاتم يليق بأمثالنا وقبل أن انتحينا مكانا هناك وقفت في الباب سيدة إنكليزية. سيدة جميلة بيضاء هيفاء، تلبس قبعة زانها الريش، وتحمل مظلة. دخلت هذه السيدة المقهى، ومشت الهوينا بين الدواوين الخشبية المكسرة، تجيل نظرها بالمكان ومرتاديه. كنت واقفا إلى جانب الطاولة التي جلس إليها رفيقي، فأحسست ببهجة تجلببني وتملأ قلبي. وأحسست كأني سمرت في مكاني.
Halaman tidak diketahui