وإذا نظرت فإن بؤسا زائلا
للمرء خير من نعيم زائل
لما استيقظ السر وليم من نومه وجد نفسه في ثياب الحرير على فراش الإستبرق، وحول سريره كلة تكاد لا ترى لدقة نسجها تقيه من البعوض الذي أنحل جسمه وحرمه النوم منذ مجيئه إلى بلاد الشام، فظن نفسه في حلم وجعل يغمض عينيه ويفتحهما ليرى أفي يقظة هو أم في منام، ثم نهض من السرير ليلبس ثيابه وعدته ، فلم يجد أمامه إلا كساء شرقيا وسيفا هنديا، فقال في نفسه: «ما هذه إلا وسائط يستعملها هذا الحكيم لكي يغريني بالإسلامية، ولكن ما كنت لأفعل ولو ملكني الهند والسند.» وفيما هو يتأمل في هذا الأمر إذا بالحكيم يناديه ويقول: «هل من مانع من الدخول؟» فقال: «أهلا بسيدي الحكيم.» فقال الحكيم: «وإن كنت آتيك بصورة غير صورة الحكيم؟» فقال: «أهلا بك، كيفما أتيت.» فدخل الحكيم وإذا به الأمير شيركوه الكردي الذي حاربه ثم صافاه ورافقه إلى عين جدي. فقال السر وليم في نفسه: «ما هذا إلا حلم!» وجعل يتفرس في الحكيم متعجبا من أمره. فقال الحكيم: «أتعجب من مهارتي في صناعة الطب وأنا من فرسان الحرب؟! أولا تعلم أن رجل الحرب يجب أن تكون له مشاركة بفن الطب أيضا؟ أوتتعجب من تقلب الإنسان بتقلب الأحوال؟ أولا تعلم أن الظواهر قد لا تدل على البواطن؟» فقال: «صدقت، فها أنا في الظاهر خائن وفي الباطن أصدق مقيم على العهد والولاء.» فقال الحكيم: «وهذا هو اعتقادي فيك، ولذلك سعيت في نجاتك لأني آكلتك وشاربتك عند الناسك. ولماذا أراك الآن قلقا؟ ألا تستحسن هذا اللباس؟» فقال: «بلى أستحسنه، إن لم يقصد به تحويلي عن مذهبي.» فقال له الحكيم: «إني لأعجب من سوء ظنك فينا، أتظن أننا نجلب الناس إلى ديننا بالرشوة؟! أولا تعلم أن من لم يهده الله فليس له من هاد، وأن الذين يدينون بديننا من قومكم طمعا في أموالنا يصليهم الله عذاب السعير؟! فالبس هذه الثياب حتى إذا جلست في معسكر صلاح الدين لا يتعرض لك أحد.»
فقال: «وكيف يمكنني أن أجول في المعسكر وأنا عبد مقيد؟» فقال: «معاذ الله أن نستعبد الرجل الذي ناجزنا في ميدان النزال!» فقال السر وليم: «بالله عليك أيها الأمير الجليل لا ترني سبيلا للعتق تأباه نفسي الأبية.» فقال الحكيم: «وما قولك في سبيل يزيل عنك العار ويرد لك الشرف؟ وذلك بكشف اللص الذي سرق العلم، فإني قادر أن أمكنك من ذلك إذا أطعتني.» فقال الفارس: «يا مولاي ، أنا مقتنع بحكمتك وكرم أخلاقك، فأعدك بالطاعة التامة في كل ما تأمرني به، إلا فيما يمس معتقدي.» فقال: «إن كان الأمر كذلك فاسمع ما أقول: إن كلبك قد شفي الآن.» فقال الفارس: «كفى، فقد فهمت مرادك.» فقال الحكيم: «وهل في المحلة أحد يعرفه؟» فقال الفارس: «كلا، لأنني لما سرق العلم وعلمت أن لا نجاة لي من الموت أطلقت خادمي وأرسلتهما إلى بلادي. ولكن أنا معروف في المحلة جيدا.» فقال الحكيم: «سأغير لونكما حتى لا يعرفكما أحد.»
الفصل الرابع والعشرون
«يؤذي القليل من اللئام بطبعه»
كالكأس تكدر بالقذى فنعيفها
ولكم رأينا البغي فرق بين أن
صار فصارت كالهباء صفوفها
قد علم القارئ مما تقدم من هو هذا العبد الأسود، وما غرضه من الوقوف بجانب قلب الأسد على الأكمة التي سرق عنها العلم الإنكليزي. فإن الملك ريكارد نصب خدرا لزوجته وابنة عمه وجواريهما على الأكمة، ووقف هو وأمراء مملكته في عرضها وبجانبه أخوه وليم أرل سلسبري الملقب بالسيف الطويل، وهو رافع العلم الجديد وأمامهم الجيوش الصليبية تتموج في عرض ذلك البر كأنها البحر العجاج، وفي صدر كل جيش رئيسه والأعلام والبنود تخفق فوق رأسه وهم يسيرون الهوينا أمام تلك الأكمة، وكلما دنا منها رئيس من الرؤساء يتقدم نحو الملك ريكارد ويحييه ويحيي العلم الإنكليزي الجديد ثم يسير مع جيشه ولسان الحال يقول:
Halaman tidak diketahui