وبعد أربعة أيام من ذهاب السر وليم عبدا مع الحكيم العربي جلس الملك ريكارد في خيمته يتبصر في أمر الزحف على أورشليم، وكان الجنود يهتمون بإصلاح أسلحتهم وبيطرة خيولهم والاستعداد لعرض الجيوش في الغد. وكان الملك قد أرسل البارون ده فو إلى عسقلان ليأتيه بالمدد والميرة، وفيما هو يصغي إلى أصوات الجنود دخل واحد من الفرسان وقال: «أيها الملك، إن بالباب رسولا من صلاح الدين.» فقال: «علي به.» فأدخله الفارس وإذا هو عبد أسود طويل القامة مهيب الطلعة حسن الملامح، لا تظهر عليه سمة الزنوج مع أنه أسود مثلهم، وهو معتم بعمامة بيضاء ولابس ثوبا من جلد النمر يصل إلى ركبته، وموشح بوشاح أبيض وساعداه عاريان، ومعه كلب كبير يقوده بسلسلة من ذهب! فلما صار أمام الملك سجد وعفر، ثم ركع على إحدى ركبتيه وناول الملك منديلا من الحرير، ففتحه وإذا فيه رسالة من السلطان صلاح الدين يقول فيها:
بسم الله الرحمن الرحيم
من صلاح الدين ملك الملوك إلى ريكارد ملك الإنكتار، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فقد علمنا من كتابك أنك فضلت الحرب على السلم والعداوة على الصداقة، فسينصرنا الله ونبيه عليك ونريك بفساد رأيك. وفيما بقي فأنت مكرم عندنا معزز، وهداياك وقعت منا موقعا حسنا، ولا سيما القزمان اللذان بعثتهما إلينا، وقد بعثنا إليك الآن عبدا نوبيا صادق الخدمة حسن الرأي يستطيع أن يعبر عما في ذهنه بالإشارة؛ لأن الله سبحانه قد أعدمه النطق، فاقبله منا واستعن به على أمرك، ونحن نسأله تعالى أن يهديك إلى السراط المستقيم أو يجمعنا بك في ميدان القتال.
فقرأ الملك ريكارد الرسالة، ثم التفت إلى العبد وتأمله فأعجبه منظره جدا، فقال له: «أوثني أنت؟» فرفع العبد رأسه ورسم رسم الصليب على وجهه، فقال الملك: «إذن أنت مسيحي، فهل تعرف أن تجلو السلاح؟» فأشار العبد بالإيجاب، وقام إلى سلاح الملك وأنزله عن عمود الخيمة وأشار إلى كيفية جلائه. فقال له الملك: «أحسنت، وستبقى في خيمتي إكراما لمن أرسلك لي.» فسجد العبد ثانية وعفر ثم نهض ووقف بعيدا عن الملك، فقال له الملك: «اشرع من الآن في جلاء هذا الترس واصقله حتى يصير كالمرآة.» فأنزل الترس وجلس يجلوه، وحينئذ دخل السر هنري نفيل وقال: «أتت التحارير من إنكلترا يا مولاي.» فأخذ الملك رزمة التحارير وفتحها وقال: «أواه! هل يعلمون المخاطر المحيقة بملكهم؟!» ثم قال لنفيل: «اخرج الآن لأني أحب أن أقرأ هذه وحدي.» فخرج وجعل الملك يقرأ عن اختلاف أخويه يوحنا وجوفري، وشبوب الحروب الأهلية في البلاد، وكان يقابل الأخبار بعضها ببعض ليرى ما بينها من المطابقة والمخالفة وهو بقرب باب الخيمة، وقد أمر برفع السجف عنه ليتمتع بالنسيم، وكان العبد جالسا وراءه يجلو السلاح ويصقله، وقد جلا ترسا كبيرا كان الملك يحمله عند الهجوم على الحصون، وليس عليه رنك ولا رسوم فلا يمتاز به الملك عن غيره من آحاد الجند، وأتقن العبد جلاءه حتى صار صقيلا كالمرآة.
وفيما كان الملك يقرأ المكاتيب ويتأمل فيها وأفكاره مضطربة بالحوادث التي حدثت في مملكته، دخل المخيم أحد المشعوذين بثياب أخلاق فرآه الجنود ولم يستغربوا أمره؛ لأن كثيرين من اليهود والأقباط والأتراك والمغنين والمشعوذين كانوا يدخلون المعسكر كل يوم، فاجتمع حوله نفر من الحرس وطلبوا منه أن يرقص وتهددوه بالضرب إن لم يجب طلبهم، فجعل يطفر على الأرض ويرقص وهو يتنقل من جهة إلى أخرى حتى دنا من خيمة الملك وصار على نحو أربعين خطوة منها، وحينئذ طفر طفرات شديدة ووقع على الأرض مغمى عليه، فاجتمع الجنود حوله وقال أحدهم: «اسقوه ماء وإلا مات.» فقال الآخر: «هاتوا النبيذ لنسقيه.» فقال الأول: «أنا أراهنك أنه لا يشرب النبيذ ولو مات.» فقال آخر: «هاتوا القرن فإننا نسقيه كما نسقي الخيل.» وفتحوا فمه برأس الخنجر وأدخلوا طرف القرن فيه وسقوه كوبة كبيرة دفعة واحدة، فشربها ثم تنهد طويلا، وقال: «الله كريم.» فقهقهوا قهقهة نبهت الملك، فالتفت إليهم وانتهرهم فخافوا وجعلوا يختفون من وجهه، ولكنه عاد إلى قراءة المكاتيب فعادوا إلى المشعوذ وحاولوا إنهاضه عن الأرض فلم ينهض، فحاولوا جره فكان يمانعهم ويئن ويغط، ثم التفت الملك إليهم ثانية فتركوا المشعوذ واختفوا فبقي المشعوذ في مكانه.
الفصل الحادي والعشرون
تقدم أن الملك ريكارد كان جالسا في خيمته عند بابها، يقرأ المكاتيب التي وردت عليه من بلاده، والعبد النوبي جالسا وراءه يجلو الترس الكبير، والمشعوذ نائما أو متناوما أمام باب الخيمة، والحرس والجند لاهين بألعابهم التي كانوا يلعبون بها صامتين؛ لئلا يسمعهم الملك، فرأى العبد في الترس الذي صار صقيلا كالمرآة صورة المشعوذ يرفع رأسه ويتلصص، ثم يزحف نحو خيمة الملك زحفا بطيئا لا ينتبه إليه، ثم يسكن ويرفع رأسه ويتلصص ويزحف قليلا، فرابه ذلك وقال في نفسه: «لا بد من غرض قبيح لهذا الرجل!» فاستعد له.
ولما صار المشعوذ على نحو عشر خطوات من باب الخيمة نهض على رجليه ووثب على الملك، كأنه الأسد الضاري، وأخرج خنجرا من كمه وهم بطعنه، فرآه العبد حينما وثب فوثب أيضا وقبض على يده التي فيها الخنجر، فحول المشعوذ يده وطعن العبد به في ذراعه، فقبض العبد عليه وجلد به الأرض، فالتفت الملك ورأى ما حدث فنهض قائما ورفع الكرسي الذي كان جالسا عليه، وضرب به رأس المشعوذ ففقصه فقصا، ثم نادى بالحراس فركضوا حالا إلى الخيمة، فقال لهم: «أهذا شأن حراس الملك؟» فجعلوا يتعوذون بالله، فقال لهم: «اخرسوا وسدوا أفواهكم، ألم تروا قتيلا قبل الآن؟! أخرجوا هذه الجثة من هنا واقطعوا رأسها وارفعوه على رمح، وأما أنت يا صديقي الأسود ... ما هذا؟! أجرحت بهذا الخنجر المسموم؟ فلا بد أن يكون هذا الخنجر مسموما وإلا ما هجم به هذا الكلب على الأسد.» ثم التفت إلى من حوله وقال: «مصوا له السم من الجرح؛ فإن السم لا يفعل بالفم.» فنظر الحراس بعضهم إلى بعض مندهشين فقال الملك: «ما لكم؟ أتخافون من الموت؟!» فقال له أحدهم: «إني لا أخاف من الموت، ولكنني لا أريد أن أموت مسموما من أجل عبد أسود يباع في السوق كما يباع رأس البقر.» وقال آخران: «جلالته يأمرنا بمص السم كأنه أكلة طيبة!» فقال الملك: «إني لا أطلب من أحد أن يفعل ما لا أفعله أنا.» قال ذلك وقبض على ذراع العبد غصبا عنه وعن ممانعة الحاضرين، وجعل يمص الدم بفمه، ولكنه لم يشرع بمصه حتى تملص العبد منه ولف يده بطرف وشاحه وأشار برأسه ويديه وعينيه إشارات كثيرة تدل على الممانعة، وتقدم أحد الحراس أيضا وقال إنه مستعد أن يمص كل نقطة من دم العبد، بل أن يأكله أكلا ولا يدع الملك يمص نقطة أخرى من دمه.
وحينئذ دخل السر هنري نفيل وشدد اللوم على الملك، فانتهره الملك وقال له: «إن الجرح طفيف وما هو إلا خمش صغير فلا خطر منه.» وكأنه خجل من تنازله إلى هذا الحد، فقال لنفيل: «أنا لم أفعل ذلك إلا لأقنع هؤلاء الجهال الجبناء أن مص السم من الجراح لا يضر، وأنه إذا أصيب أحدهم بسهم مسموم فعليهم أن يمصوا السم بفمهم من جرحه فيشفى. والآن خذ هذا العبد وأبقه عندك واحرص عليه، فقد تغير فكري في شأنه، واعتن به ولا تضيق عليه، بل أطلق له الحرية في خيامك، ولكن لا تدعه يخرج منها. وأنتم أيها الحراس النهماء ارجعوا إلى أماكنكم ولا تحسبوا أنفسكم في بلادكم حيث لا يؤخذ أحد بالغدر، بل تمشي العداوة في نور النهار كما تمشي الصداقة. اذهبوا وافتحوا عيونكم وآذانكم وإلا قطعت جرايتكم وأمتكم جوعا.» فخرج الحراس وجعل نفيل يلوم الملك لأنه لم يعاقبهم على تغاضيهم، فانتهره الملك وقال له: «أتريد أن أهتم بأمر جرى ضد شخصي أكثر مما اهتممت بأمر جرى ضد علم إنكلترا وشرفها؟! فقد سرق علم إنكلترا وأهين شرفها وحتى الآن لم نفعل شيئا، وهؤلاء العرب يقولون:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى
Halaman tidak diketahui