بسم الله الرحمن الرحيم
من صلاح الدين ملك الملوك سلطان مصر والشام وعماد الدنيا والدين إلى الملك ريكار ملك الإنكتار. أما بعد، فقد بلغنا أن الله تعالى ابتلاك بمرض شديد، وأن الأطباء الذين عندك من النصارى واليهود عجزوا من شفائك؛ لأنهم لا يعتمدون على الله سبحانه وتعالى، ولذلك بعثنا إليك بطبيبنا الخاص. فنلتمس منك أن تكرم مثواه وتعتمد على علاجه لكي تنال الشفاء، فنستطيع أن ننهي هذه الحرب، إما بالصلح وإما بالاحتكام إلى السيف، وهو أعدل حاكم بيننا، فإني أضن ببطل كريم مثلك أن يموت حتف أنفه، وأسيافنا ظمآنة إلى دماء الأبطال، والسلام على من اتبع الهدى.
فلما أتم قراءة الرسالة قال: «علي بهذا الحكيم لعلي أشفى، فأقابل صلاح الدين في ميدان النزال وأنصفه بسيفي ورمحي.»
فقال البارون: «اذكر يا مولاي أن صلاح الدين عدو لنا.»
فقال الملك: «نعم، ولهذا السبب لا يريد أن أموت بالحمى، بل أن أقوم وأقابله في ميدان النزال، وأؤكد لك أنه يحبني كما أحبه وكما يحب الأبطال بعضهم بعضا، فعار علي أن أرتاب في إخلاص نيته.»
فقال البارون: «مهما يكن من الأمر، فلا يحسن أن تسلم نفسك لهذا الحكيم قبل أن نرى فعل علاجه بالخادم الاسكتسي.»
فقال الملك: «ما أكثر ظنونك! اذهب وانظر فعل العلاج بالرجل، وأما أنا فقد سئمت الحياة فهي والموت عندي سيان.»
فخرج البارون وفي نيته أن يطلع أحد رؤساء الدين على ما في نفسه؛ لأنه كان مرتابا من أمر هذا الطبيب، فمضى إلى رئيس أساقفة صور، وكان في المعسكر، وقص عليه الخبر فطيب هذا قلبه وأقنعه بجواز الاعتماد على الأطباء مهما كان مذهبهم. ثم قال: «أما هذا الطبيب ففي أمره ريب؛ لأن أهالي هذه البلاد ماهرون في دس السموم، فيدسها بعضهم لبعض في الطعام والشراب واللباس، بل في الرسائل التي يتراسلون بها، فلا يليق بنا أن نأتمنه على الملك قبلما نرى فعل دوائه بالخادم الاسكتسي، فقم بنا إلى خيمته، ولكن لا بد من استعمال شيء يقينا من العدوى، وأنا أشير عليك أن تستعمل حصى اللبنى منقوعة بالخل.» فقال البارون: «أشكر فضلك إلا أن الحمى لا تفعل بي، وإلا لسرت العدوى إلي من الملك.»
ثم سارا سوية، فلما بلغا خيمة الفارس الاسكتسي قال الأسقف: «هو ذا فارس شريف معدود من الأبطال، يأتمنه الملوك في أمور ذات بال، وهو يضع خادمه في مكان لا تبيت الكلاب فيه.» فقال البارون: «من ساواك بنفسه ما ظلمك؛ فإن هذه الخيمة يبيت فيها الفارس نفسه.»
وكان الأسقف شيخا جليلا أبيض الشعر جميل المنظر طويل القامة واللحية، لابسا جبة من الحرير قد لبست أهدابها بالفرو الثمين، وبجانبه خادمان: واحد رافع فوق رأسه مظلة من سعف النخل، والآخر يروح له بمروحة من ريش الطاووس. فدخل الكوخ وهو على تلك الحالة فوجد الطبيب جالسا بجانب المريض حيث تركه البارون ده فو، فلم يحفل الطبيب بدخوله ولم يقم له، فاغتاظ من ذلك ولكنه كظم الغيظ وطارحه السلام باللغة العربية المتفرنجة، فرد له السلام ولم يزد. فقال الأسقف: «إذا كنت أنت الطبيب فلي مسائل أطرحها عليك لأنني أنا طبيب أيضا.» فأجابه: «لو كان لك أدنى إلمام بالطب لعلمت أن الأطباء لا يتباحثون في غرف المرضى.» وحينئذ هر الكلب من داخل الكوخ، فقال الطبيب: «اسمع، حتى الكلاب تعلم بالغريزة أنه لا يجوز رفع الصوت بجانب المرضى، فإن كان لك شيء تسألني عنه فهلم بنا إلى خارج الخيمة.» قال ذلك ونهض وخرج أمامه، فتبعه الأسقف وتفرس في وجهه طويلا، ثم سأله عن عمره. فقال: «سنو الجاهل تعد بأسرة جبهته، وسنو العالم بغزارة علمه، فأنا لم يكر علي أكثر من مائة عام.» ولما قال ذلك نظر البارون ده فو إلى وجه الأسقف مبهوتا، وأنغض الأسقف رأسه كأنه لم يفهم معنى الطبيب. ثم قال له: «أين الشهادة التي تشهد أنك طبيب؟» فقال: «حسبك أن صلاح الدين الذي لا يرتاب صديق ولا عدو في صدق مقاله قد شهد أني طبيب، فماذا تطلب فوق ذلك؟» فقال البارون: «نطلب أن نرى شيئا بأعيننا، وإلا فلا أدعك تدنو من سرير الملك.»
Halaman tidak diketahui