325

Qahira

القاهرة: نسيج الناس في المكان والزمان ومشكلاتها في الحاضر والمستقبل

Genre-genre

وحينما تتفق الظروف التي تدعو مدينة إلى النمو؛ فإن المدينة تظل تنمو إلى أن تصل إلى أقرب تلاؤم مع الظروف السائدة، فإذا لم تتغير ظروف ودوافع النمو فإن نمو المدينة يكاد أن يتوقف، بل ويصبح للمدينة مجال سلبي يؤدي بصفة عامة إلى طرد الفائض من النمو الطبيعي للسكان إلى أماكن الجذب الأخرى. لكن هذه الحالة المثالية قلما كان لها نظير في الواقع إلا لفترات زمنية محدودة؛ فالمدينة إما أن تنمو أو تنكمش، ذلك لأن دوافع النمو المديني عبارة عن «مركب حي» صفته الأساسية دينامية حركة دائمة نتيجة للتغير الدائم في ترتيب مواضع العوامل والدوافع، كما ونوعا، داخل هذا التركيب الحي، ومن ثم فإن المدن في حركة مستمرة.

وحينما تزداد كثافة عوامل النمو في مدينة ما فإن نمو المدينة يظل سائرا دون توقف إلى أن تبلغ المدينة حجما معينا ليس له قياس فعلي بالمعنى المادي أو الرقمي؛ لأن لكل مدينة مقياسها الخاص ارتباطا بظروفها الحضارية والتكنولوجية. حينما يتم ذلك نجد تغيرا كيفيا يطرأ على المدينة، فبدلا من أن تعتمد المدينة في نموها على مجموعة العوامل والدوافع والظروف المستمدة من المكان والمستوى الحضاري والتكنولوجي والخلفية التاريخية، يصبح للمدينة قوانينها الخاصة التي تفرضها على مجموعة عوامل النمو السابقة، وبعبارة أخرى: تنعكس الصورة نظريا، ويصبح للمدينة تأثير على مؤثرات نموها.

تبني المدينة لنفسها «روحا»، أو تصطنع لنفسها «قلبا» يحولها إلى «كينونة» ذاتية القوانين، ويصبح لهذه الكينونة نهم شديد للتوسع، واجتذاب المزيد من البشر بصورة طاغية تؤثر بوعي وبلا وعي على الاختيار «الإداري» للمخططين والمستثمرين وجميع الأعمال والوظائف التي تمارسها المدن، ويصبح الجميع أسرى لهذه الطاقة الذاتية للمدينة لا يستطيعون الخلاص من سطوة تأثيرها، ولا يفكرون إلا من خلال ما تفرضه المدينة الطاغية من مشكلات تدعوهم إلى إصلاحات وحلول جزئية ووقتية.

وفي الغالب لا يتاح لكل مدن الدولة أو مدن إقليم من أقاليم الدول ذات المساحة الواسعة مثل هذا «الطاغوت»، إنما يحدث غالبا لمدينة واحدة تستقطب النمو وتؤدي إلى إيقاف أو بطء النمو في المدن الأخرى بحيث تصبح قزمية النمو إلى جوار المدينة العملاقة.

ولسنا نعرف على وجه التحديد إلى أين يقود النمو الذاتي لمثل هذه المدن المتسلطة، وأغلب الظن أنه يقود إلى «انفجار» - إذا شئنا المبالغة - يهدد المدينة بالتراجع نتيجة للخلل الذي يحدث كما وكيفا في حجم المدينة مكانيا وسكانا ونشاطا، وهي التي تزيد من المصاعب في مستوى أداء وظائف المدينة، وفي تركيب المدينة اجتماعيا وصحيا وأمنيا وإدارة يترتب عليها تناقضات كبيرة بين الترف والفقر في أحياء المدينة، وإلى مزيد من البيروقراطية والمركزية، وتدخل السلطة؛ لتحجيم الخلل ولو جزئيا.

ولا توجد لدينا أمثلة عن مثل هذا الانفجار لمدن حديثة، وإن كان أقربها إلى هذه المرحلة طوكيو ونيويورك، التي تسمى في المصطلح العلمي

Megapolis ، ولعل روما الرومانية وبغداد الإسلامية من الأمثلة على انفجار المدن العملاقة في الماضي المؤرخ، وساعد على انفجارها مركزيتها المطلقة للعالم المعروف آنذاك، ورخاؤها وترفها الخيالي وتعفن تركيب قياداتها، وعوامل أخرى خارجية عسكرية ودينية، وعلى رأسها تحركات شعوب الترك والمغول، وهجراتهم من وسط آسيا؛ فاكتسحوا أوروبا والصين والعالم الإسلامي.

وليس من الضروري أن تبلغ المدن حدودا موحدة تدخل بعدها مرحلة الانفجار، ذلك أن هناك ارتباطا كبيرا بين المدينة الواحدة وخلفيتها الحضارية والتكنيكية يجعل لمرحلة الانفجار في كل مدينة مقياسا خاصا بها. فما يصدق على طوكيو لا يصدق على القاهرة. ومن أهم المقاييس التي يمكن أن تؤخذ مؤشرا على ذلك أن يصبح الوفاء بخدمات المدينة الأساسية أمرا بالغ الصعوبة؛ مثلا مشكلة إمداد المدينة بالمياه، أو مشكلة الانتقال داخل المدينة، وكلتاهما من المشكلات التي تواجه كثيرا من مدن العالم الكبرى في الوقت الحاضر. وقد استطاعت طوكيو أن تجد حلولا لمشكلة المياه حتى قارب سكانها عشرة ملايين، ثم أصبحت بعد ذلك مشكلة خطيرة بعد أن تعدت المدينة 12 مليونا. فهل نتوقع أن تصمد القاهرة لمشكلة المياه بعد ملايينها السبعة - القاهرة الكبرى نحو أحد عشر مليونا - أو الإسكندرية بعد أن أشرف سكانها على أربعة ملايين؟

لم يعد هناك مجال للكلام عن جزئيات المشكلة، والمهم الآن هو السيطرة على نهم المدن الكبرى سيطرة حقيقية، وبدون شك هناك إمكانات كثيرة للسيطرة؛ مثلا يقال: إيجاد تشريعات تمنع أو تحد من الهجرة للقاهرة، لكن ذلك في الحقيقة صعب المنال، وربما يحولنا إلى دولة بوليسية تمنع حرية الأفراد في التنقل داخل وطنهم. وربما كان الإجراء الأجدى ألا تشجع السلطات إقامة منشآت عمالة جديدة بالقاهرة كمرحلة أولى، ثم تمنع ذلك لفترة زمنية طويلة - عقدين أو ثلاثة عقود - حتى يعتاد رأس المال على استثمارات في ريف مصر؛ فيحل إشكالية الزيادة السكانية الريفية العاطلة.

لكن هناك دائما تجاوزات عن التشريعات تحدث بضغوط المصالح التي لا تقاوم، وتبدأ التجاوزات تتسع لتصبح قوانين غير معلنة، وينتهي الأمر إلى تغيرات جديدة في التشريعات السابقة لصالح ضغوط المصالح، ولهذا نجد للتشريعات ملاحق في أزمان مختلفة تواكب «المتغيرات الضاغطة» وتتصالح معا! (2) القاهرة تحت الحصار

Halaman tidak diketahui