ولم يعد لمثل ذلك الحديث مرة أخرى، وبذل قصاراه في تجنب ما يعكر الصفو ويبلبل الخاطر. وكان إذا قاتل عن سعادته قاتل بعنف ويأس غير مبق على شيء. وإذا كانت الحياة الزوجية لم تتح له فقد قام بدوره خير قيام، كما يقوم الممثل بدوره خير قيام، حتى لينسى نفسه فيضحك حقا ويبكي حقا. ظهرا أمام الناس كزوجين سعيدين، فلم تعوز أحدهما الرغبة في التوفيق والتلهف على السعادة، أما حين يشعران جفوة أو برودة فكأس أو كأسان يصلحان ما يوشك أن يفسد. وقد صدق عزمه على أن يشغل وقته كله بحياته الجديدة حتى لا تجد الوساوس فرجة إلى قلبه، وكانت وظيفته تستغرق جل نهاره، ففكر أن يقتحم الحياة الاجتماعية التي بدأها بزيارة آل حمديس؛ ليشغل ما يبقى من وقته، وليجني من متع مظاهرها ما تجود به على مثله. وحادث في ذلك إحسان، وانتهز فرصة سانحة يوما فقال لها: عرفت جماعة من صفوة الموظفين الشباب وبعض الأعيان، وقد دعاني أحدهم - دعانا معا - إلى حفل سيقيمه لعيد ميلاد ابنه، فقبلت الدعوة بسرور ...!
فرفعت عينيها الدعجاوين ولم تدر ماذا تقول، فعاد يقول بحماس: لا ينبغي أن نقبع في دارنا، انظري إلى الإخشيدي كيف يعرف وجوه المجتمع العالي جميعا، وكيف تدعم هاتيك الصلات بنيان حياته وأسس مستقبله؟
وكانت في أعماقها تتوق إلى التسلية والعزاء والسرور، وترغب في أن ترى وأن تعرف وأن تتناسى، فرحبت بالاقتراح، وقالت وقد سبقتها ابتسامتها إلى الموافقة: لنذهب ...
فسر الشاب، كان يهوى دائما أن تشاركه اهتمامه وآماله، وكان يشعر دائما بغريزته بأنه إن نجح في جذبها إلى محيط أطماعه فقد ضمن فوزا عظيما؛ لذلك سر، وقال: إن مقتحم هذه الحياة البديعة كالرحالة الجسور لا يمكن أن يعود خالي اليدين ... وإن لي من وظيفتي لمركزا ممتازا، وإن لك من جمالك لمكانة سامية ...
وذهبا معا إلى حفل الميلاد، وأحدثت إحسان بجمالها الفاتن أثرا بالغا، واستعان محجوب بجسارته على تمثيل دوره، ولم يعجز عن خلق الفرصة المناسبة لإعلان قرابته بأحمد بك حمديس، وعاد وقد ظفرت إحسان بإجاب شاب وجيه يدعى علي عفت، وقد دعاهما الشاب بعد يومين إلى بنوار بمسرح الفانتزيو ...
وتقضت الأيام الباقية من يوليو في حياة مرحة حارة، فارتادا السينما والصالات الصيفية، ودعي هو إلى البوديجا وجروبي وصولت، وأفضى بسروره يوما إلى الإخشيدي، فقال وهو يمط بوزه استهانة: الطبقة العالية الآن خارج القطر، وستعود الحياة الحقيقية إلى القاهرة في أواسط أكتوبر ...
وقد هاله الأمر، ولكنه قنع بمعارفه الجدد، ولعلهم أن يكونوا أدنى إليه - أو لعله أن يكون أدنى إليهم - من أولئك السائحين في بطون القارات الحية، بيد أن أمرا واحدا أزعجه؛ هو تكاليف هذه الحياة المرحة الممتعة. هذه الحياة تفرض عليه العناية بلباسه كالنساء سواء بسواء، وأن يقتني الأنواع النفيسة، ويختار الألوان الجميلة، مع ملاحظة الوفرة حتى لا تقع العين الناقدة على شيء واحد مرتين، ولم يلق بين أولئك الشبان من يتحدث عن العروبة، ولا من يناقش الاشتراكية أو أجست كونت. ومن بينهم جامعيون كثيرون، ولكنهم متأقلمون؛ فلا كلمة واحدة تذكر بحدائق الأورمان أو دار الطلبة، ووجد نفسه يهوي إلى التدخين ومشاهدة ألعاب القمار.
ولكن كيف يواجه هذه الحياة بمرتبه الصغير؟! ... أجل، إن قاسم بك يقوم بنفقات البيت والزوجة! ولكن تبقى وجوه إنفاقه هو، وهي تتسع يوما بعد يوم، وتتنوع ساعة بعد ساعة! وقد تفكر في ذلك طويلا ثم قال لنفسه: «أمثالي يرتقون سريعا في الحكومة، فلا يجوز أن أتخلف عنهم!» •••
وطابت حياة المجتمع لإحسان، استهوتها بما فيها من تسلية ومرح وفرص للظهور والمباهاة واستثمارات للإعجاب، وجذبت اهتمامها نحو أمور جديدة، فبثت في حياتها روح العناية والحماس، وأنقذتها من تأمل حياتها - ماضيها وحاضرها ومستقبلها - والاستسلام للفكر. سرورها ما صادفها من نجاح ووداد. وكان قاسم بك فهمي مغرما بها غراما جنونيا ملك عليه نفسه، فجرى وراء هواها غير عابئ بمركزه أو أسرته أو أبنائه، وأنفق عليها عن سعة حتى صارت زينة كل مجلس بفضل جمالها ولباسها. تلك حياة، أما القبوع في البيت تنتظر أحد رجليها فهو فوق ما تحتمل، بيد أنها رغم كل ذلك ما انفكت تشعر بفراغ وملل شأن فتاة خلا من الحب قلبها. لم تكن تحب البك، ولم يعد لسحره العجيب من سلطان عليها، والأرجح أن سحره زال مذ آنست غدره، ولعلها انطوت له عن موجدة وحقد، إلا أنها حرصت عليه حتى لا تذهب «تضحيتها» هباء. وكانت فتاة ذات طبيعة عملية، فأودعت الماضي مدارج النسيان، وولته ظهرها، غير عابئة بغمزه على قلبها الحين بعد الحين! فالماضي المولي ورمزه الجميل - علي طه - شيئان لا يعودان. وركزت اهتمامها في زوجها؛ فهو شريك حياتها، وهو قرين حاضرها ومستقبلها، وقد استأدته الحياة - مثلها - تضحية فظيعة! وإنه ليهدف - مثلها أيضا - إلى غاية واحدة، ثم إنه بعد هذا وذاك شاب يمكن أن يحب، وأن يهب الحياة الزوجية السعيدة؛ فكانت تشجع محاولاته في سبيل سعادتهما المشتركة، تشاربه وتبادله القبلات، وترجو أن ينتهي التمثيل بحياة حقيقية. ولو كان مزاج إحسان حيوانيا بحتا لبلغت ما تحب من سعادة، ولكن ما زال قلبها متشوقا إلى حنان ومودة لا يجدهما فيما تتيح لها حياتها من لذة وترف؛ لذلك ما انفكت تشعر بفراغ وملل، وكلما ألح عليها هذا الشعور تمادت في التهالك على حياة المرح والترف حتى فاقت زوجها في طموحه.
وكانت تغادر بيتها عادة كل صباح عقب خروج زوجها إلى عمله؛ إذ كانت تضمر للبيت نفورا جعلها أعجز من أن تستطيع البقاء فيه بمفردها. وكانت المحال التجارية الكبرى هدفها المختار، تنتقل بين معارضها، وتضرب في طرقاتها المزدحمة، وربما ابتاعت حاجة مما يلزمها، غير ملقية بالا إلى الشبان الذين قد يتعرضون لمغازلتها. وما حاجتها إلى رجل جديد وفي بيتها رجلان؟ ... وفضلا عن ذلك فقلبها كان يحدثها دائما بأنها ستألف زوجها يوما ما، وتحبه وتخلص من حيرتها جميعا. أما إذا تمكن منها الملل وأدركتها السآمة فربما خرجت عن حكمتها، وذكرت مثالب حياتها - والديها وزلتها وحياتها الراهنة - فاجتاحتها موجة تمرد ثائرة، وحدثتها نفسها بالجري وراء اللذة حتى قرارة بؤرتها، ولكنها لم تفعل، كما أنها لم تتخذ قرارا نهائيا كما فعل محجوب في مثل ظروفها تلك. كانت تتسكع كل صباح كالمتعطلين، وربما استقلت الترام أو الأتوبيس إلى بعض النواحي النائية ذهابا وإيابا. وعلمت يوما أن إحدى صديقاتها ستنتقل يوما مع زوجها إلى مفوضية روما، فأثر فيها الخبر تأثيرا عجيبا، وتمنت لو تستطيع أن تجوب بلدان الأرض جميعا، فما أجدر مثل هذه الحياة النشيطة أن تنسي كل ذي هم همه، وأن تسدل على تفاهة الحياة ستارا كثيفا. وقالت لمحجوب وكان قد علم الخبر: ما أمتع أن يسافر الإنسان إلى روما ...!
Halaman tidak diketahui