فأحدث لفظ «الزوجة» في نفس الشاب هزة، وتطلع إلى الإخشيدي بعينين متسائلتين كأنهما تسألانه: «من هي؟ ... ما صورتها؟ ... ما معنى زواجي بها؟» فقال الإخشيدي: فتاة كريمة من «دائرة» قاسم بك فهمي.
دائرة، وتساءل الشاب بارتياع: قريبته؟ - قاربت الحقيقة ... هي من معارفه!
فتغابى محجوب وتساءل مزدردا ريقه: معرفة جوار، صداقة والدين.
فقال الإخشيدي ببساطة واستهانة: قاربت الحقيقة، سعادته صديقها هي بالذات!
وبدت الحقيقة سافرة، وأدرك ما يراد بهن، وعرف ثمن الوظيفة الفاخرة. إن الإخشيدي لا يرسل الساعي في طلبه حبا في سواد عينيه، ولكن ليستغل بؤسه. وإنه ليمقت الإخشيدي، ولكن ليس هذا بيت القصيد. لقد تضرج وجهه بالاحمرار، وأحس الحرارة تسري في رأسه، فجعل يستصرخ ما جبل عليه من جسارة وفجور. أجل، ما الذي يخجله؟ ... ما الذي يؤلمه؟ ... أيؤمن بالزواج؟ أيؤمن بالعفة؟ أيشعر بإهانة في تصريح صاحبه؟ إن الحياة تنبري لامتحان فلسفته؛ لتثبت بالتجربة المحسوسة إن كانت سفسطة وجدلا أو عقيدة وعملا. فيا أيها الاضطراب زل، ويا أيها الغضب اسكت، وليتحدث عن الزوجة الساقطة كما لو كان يتحدث عن درجة حرارة الجو في البرازيل. فدعا استهانته وسخريته، وسأل صاحبه: عذراء؟
فقال الإخشيدي مبتسما: كانت!
ولاذ بالصمت هنيهة، وكان الوجه الشاحب لا يزال متوردا، واستدرك الإخشيدي: لا تحسبن عظماء الرجال بمعصومين، والبك جاد في إصلاح خطئه؛ فإذا شاطرته مقصده النبيل ظفرت برضاه، وهيأت لنفسك مستقبلا حسنا. ومثل هذا العمل يتطلب قلبا كبيرا، وعقلا واسعا، وثقافة عميقة. أما إذا تناولت الأمور بمعيار العوام فهذا فراق بيني وبينك. ولا تتوهمن أني أجري وراءك؛ فالذين يرضون بما يعرض عليك لا حصر لهم، بيد أني أوثر أن تعمل معي أنت في هذا المكتب لما أعهده فيك من الذكاء والإخلاص، ثم إننا جيرة من قديم، ودرجة سادسة كنز ...!
إنه يدرك البواعث الخلفية التي جعلت الإخشيدي يرسل إليه ساعيه، إنه يروم خدمة مولاه، واكتساب رضاه، ولعله إن لم يظفر بزوج طيب للفتاة التي اعتدى البك عليها اضطر أن يقدم نفسه كبشا للتضحية. هذا واضح ومفهوم، ولكن هناك حقائق أخرى أولى بها أن تذكر؛ هنالك وظيفة سكرتير، وهنالك الدرجة السادسة، أفيجوز أن يضحى بها؟ ولماذا؟ ... أيشعر بما يدعونه غيرة على العرض؟ ... حاشاه. أيصدق فيما يسمونه الشرف؟ ... تبا له. لقد قال كلمته الأخيرة في كل هذه الأشياء، فينبغي أن يختار دون تردد. التردد معناه أنه لا يزال غير أهل لفلسفته الجسور. تبا له. أينسى ليالي الجوع؟ أينسى الفول المدمس؟ أينسى التخبط في شوارع القاهرة شحاذا متسولا؟ علي طه في المكتبة ومأمون رضوان في طريق باريس ويتردد؟! حمديس بك لا يكلف نفسه مجالسته خمس دقائق ويتردد؟! وتحية - وهنا تميز غيظا - أغلقت باب السيارة في وجهه ويتردد؟! ونتف حاجبه الأيسر، ورفع عينيه إلى صاحبه، وسأله: من هي؟ أريد أن أعرف كل شيء.
فقال الإخشيدي: ستعرف كل شيء في حينه، ولن تكون من الآسفين.
فرفع محجوب حاجبيه استهانة وقال: ليكن، فمتى يكون التعيين؟
Halaman tidak diketahui