وضاق محجوب صدرا بآمال صاحبه، وسأله صراحة عما إذا كان في الإمكان أن يجد وظيفة في المكتبة؟ ومضى به الشاب إلى موظف المستخدمين يستفتيانه، وكان الرجل صريحا جدا، فأمسك بيد محجوب وقال له بحدة: اسمع يا بني، تناس مؤهلاتك، ولا تضع ثمن طلب الاستخدام، المسألة لا تعدو كلمة واحدة ولا كلمة غيرها: هل لديك شفيع؟ أأنت قريب أحد مما بيدهم الأمر؟ أتستطيع أن تطلب يد كريمة أحد من رجال الدولة؟ إن أجبت بنعم فمبارك مقدما، وإن أجبت بكلا فلتول وجهك وجهة أخرى ...
وغادر المكتبة مظلم العينين من اليأس ومرارة الإخفاق، ولم يكن شيء مما سمع بالجديد عليه، ولكنه أحنقه كأنما سمعه أول مرة، ومضى يخبط في حديقة الأورمان واجما مكتئبا. آه لو كان أبقى على علاقته الحسنة بآل حمديس، آل لو لم يقطع تلك العلاقة بوحشية يوم الهرم؟ ترى لماذا لا يستقيم له أمر؟ لماذا لا ينال حظه من السعادة والطمأنينة؟ ... لماذا يرصده الجوع كأنما لا يجد فريسة سواه؟ الدنيا جميعا فرحة لا تأبه له؛ هذا الربيع يجري في خضرة الغصون وحمرة الأزهار، ويطير مع العصافير والأطيار، ويرقص على الشفاه الموردة الغارقة في النجوى عن يمين وشمال. الدنيا كلها فرحة مطمئنة، والوجوه مشرقة. هذه حديقة الأورمان مجمع أفراح الإنسان والحيوان والنبات، والأرض نفسها، والسماء تشملها غبطة صامتة فوق كل كلام. أيموت جوعا في هذه الدنيا؟ وبدا له سؤاله غريبا نافرا، وضحك هزءا وسخرية وتحديا، وقال متحديا: «أأموت جوعا؟ ... فلا نزل القطر ... فلا نزل القطر.» ... كيف يموت جوعا ثائرا على جميع القيود؟ ... كيف يموت جوعا كافرا بالضمير والعفة والدين والوطنية والفضيلة جميعا؟ ... وهل جاع في هذه الدنيا أحد ممن يتصفون بالرذيلة؟ ... بل هل كانت الشكوى إلا من أنهم يستأثرون بكل طيب في هذه الحياة؟ ماذا عليه لو نشر في الإعلانات المبوبة بالأهرام يقول: «شاب في الرابعة والعشرين، ليسانسيه، طوع أمر كل رذيلة، عن طيب خاطر يبذل كرامته وعفته وضميره نظير إشباع طموحه.» ألا يقتتل عليه العظماء؟ ولكن من له بنشر هذا الإعلان؟ ... من عسى أن يأخذ بيده؟ ... لا فائدة من السعي لدى الزملاء، ولا الأساتذة، ولا حمديس بك ... إلا واحدا كان يجب أن يفكر فيه دون سواه ... سالم الإخشيدي ... ليس بذي مروءة ولا نجدة، ولكن هل لديه سواه؟! ...
19
ورأى عن حكمة أن يزور الإخشيدي في بيته؛ لأن حجرته بالوزارة لا يتهيأ لها الجو الهادئ، فمضى إلى المنيرة حيث يقطن الأستاذ في شقة بشارع السيد المفضال، واختار يوم الجمعة صباحا ليضمن وجوده، واستقبله الأستاذ في حجرة استقبال صغيرة أنيقة، وكان يقيم في القاهرة بمفرده ومعه طاهية ... وأدرك الأستاذ الباعث على الزيارة بداهة، ولكنه ترك القادم يفصح عن رغبته، دون مبالاة. وقال محجوب: معذرة عن مجيئي إلى البيت؛ فإنني أعلم أن عملك بالوزارة لا يسمح لك بسماع الأحاديث الخاصة.
فقال الإخشيدي ببرود: الواقع أنني لا أترك العمل إلا فترة قصيرة يوم الجمعة!
وفطن محجوب إلى ما في إجابته من مغزى، ولكنه تغاضى عنه بجسارته المعهودة، وقال: حصلت على الليسانس.
فابتسم الإخشيدي ابتسامة تشجيع فاترة، وتمتم قائلا: مبارك ...
فشكره الشاب بحماس وقال: يا سالم بك، أنت جار قديم، وزميل قديم، وأستاذنا في العلم والوطنية على السواء، ولن أنسى ما حييت أن توصيتك لدى رئيس تحرير النجمة أنقذت حياتي ومستقبلي من الضياع؛ لهذا أقصد إليك كبير الرجاء. يا سعادة البك، الشهادة بغير شفاعة أرخص من ورق اللحم، فهل آمل أن تلحقني بوظيفة ما؟
أصغى الإخشيدي بلا تأثر؛ لأنه تعود سماع هذه الخطب الحارة، وكان يحتقر الشاب ويستهين به لفقره وعوزه، فلم يتحمس لمساعدته، وكان يوجد بالوزارة وظيفتان خاليتان، ولكنه وعد شخصا إحداهما، وتقبل نظير الأخرى هدية فاخرة، وقد يصير محجوب ذا فائدة يوما ما، ولكن العاجلة خير من الآجلة، وجعل محجوب يرمقه بعينين تنطقان بالخوف والرجاء، ويشعر أنه بات تحت رحمة إنسان لا يراعي إلا مصلحته الذاتية. ولما وجد منه صمتا قال بصوت مؤثر: إني أملتك وكفى.
فأشعل الإخشيدي سيجارة، وهز رأسه كالآسف وإن لم تدل عيناه على شيء، وقال بهدوء: لا توجد وظائف خالية عندنا الآن.
Halaman tidak diketahui