مدن العرب1
يظن بعض الجاهلين أو المتجاهلين لحسنات المدنية الإسلامية أن العرب إبان عزهم لم يأتوا شيئا يذكر في أعمال العمران، وأن قصاراهم أن تلقفوا بعض المدنية الفارسية واليونانية، وتمتعوا بها بضعة قرون، ثم نقلوها إلى من بعدهم من أمم المدنية الحديثة في الغرب، ويقول بعضهم: إنهم كانوا في فن البناء دون الرومان، وإن قصورهم الباقية لا تشهد بتفنن عجيب في الهندسة، على أن الباقي من آثارهم إلى اليوم في الأندلس ومصر والشام والعراق وفارس والهند شاهد أبد الدهر بإبطال دعوى المدعين، وما يحيك في صدورهم من الأهواء.
ولقد رأينا بعضهم يتوكئون في الحط من أقدار العرب في العمران على الفصل الذي عقده ابن خلدون في مقدمته في «أن العرب إذا تغلبوا على الأوطان أسرع إليها الخراب»، الذي قال في آخره: «وانظر إلى ما ملكوه وتغلبوا عليه من الأوطان من لدن الخليقة، كيف تقوض عمرانه، وأقفر ساكنه، وبدلت الأرض فيه غير الأرض، فاليمن قرارهم خراب إلا قليلا من الأمصار، وعمران العرب كذلك قد خرب عمرانه الذي كان للفرس أجمع، والشام لهذا العهد كذلك، وإفريقية والمغرب لما جاز إليها بنو هلال وبنو سليم منذ أول المائة الخامسة، وتمرسوا بها لثلاثمائة وخمسين من السنين قد لحق بها، وعادت بسائطه خرابا كلها، بعد أن كان ما بين السودان والبحر الرومي كله عمرانا، تشهد بذلك آثار العمران فيه من المعالم وتماثيل البناء وشواهد القرى والمداشر.»
هذا ما يحتجون به، ولو علموا أن مقصد ابن خلدون بالعرب هنا البدو أو البادية أو العربان الرحل كما نسميهم لعهدنا لارتفع كل إشكال، وإلا فإن المدن التي مدنها العرب أيام عزهم، والأمصار التي مصروها، والقرى التي عمروها، لا تدخل تحت حصر في كل قطر دخلوه ولو أياما مما لم يتيسر لغيرهم من الأمم كالترك مثلا، الذين حكموا الأقطار الواسعة العامرة بطبيعتها ستمائة سنة، ولا تكاد تعرف لهم مدينة أسسوها، ولا مواتا أخصبوه، ولا ماء أسالوه، وشغلهم الشاغل حروب وغزوات. هكذا مضوا أيام القوة، وهكذا الحال زمن الضعف.
ومن قرأ كتب وصف البلاد تجلى له مقدار عناية العرب ببناء مدنهم، خذ لك على سبيل المثال ما رواه الأقدمون في كيفية بناء سامرا أو سر من رأى إحدى المدن العباسية التي أنشئت على دجلة على مسافة ثلاثين فرسخا من بغداد، فقد قالوا: إن السفاح أراد أن يبني سامرا، فبنى مدينة الأنبار بحذائها، وأراد المنصور بعدما أسس بغداد بناءها، فابتدأ بالبناء في البردان، ثم بدا له وبنى بغداد، وأراد الرشيد أيضا بناءها، فبنى بحذائها قصرا، وهو بإزاء أثر عظيم قديم كان للأكاسرة، ثم بناها المعتصم، ونزلها في سنة 221، وكان الرشيد حفر نهرا عندها سماه القاطول، وأتى الجند وبنى عنده قصرا، ثم بنى المعتصم أيضا هناك قصرا، ووهبه لمولاه أشناس، فلما ضاقت بغداد عن عساكره، وأراد استحداث مدينة كان هذا الموضع على خاطره، فجاءه وبنى عنده سر من رأى، بنى دارا وأمر عسكره بمثل ذلك، فعمر الناس حول قصره حتى صارت أعظم بلاد الله، وبنى بها مسجدا جامعا في طرف الأسواق، وأنزل أشناس بمن ضم إليه من القواد كرخ سامرا، وهو كرخ فيروز، وأقام ابنه الواثق بسامرا حتى مات بها، ثم ولي المتوكل، فأقام بالهاروني، وبنى به أبنية كثيرة، وأقطع الناس في ظهر سر من رأى في الحيز الذي كان احتجزه المعتصم، واتسع الناس بذلك، وبنى مسجدا جامعا فأعظم النفقة عليه، وأمر برفع منارة لتعلو أصوات المؤذنين فيها، وحتى ينظر إليها من فراسخ، فجمعوا الناس فيه، وتركوا المسجد الأول، واشتق من دجلة قناتين شتوية وصيفية، تدخلان الجامع وتتخللان شوارع سامرا، واشتق نهرا آخر وقدره للدخول إلى الحيز، فمات قبل أن يتمم، وحاول المنتصر تتميمه فلقصر أيامه لم يتمم، ثم اختلف الأمر بعده فبطل، وكان المتوكل أنفق عليه سبعمائة ألف دينار.
ولم يبن أحد من الخلفاء بسر من رأى من الأبنية الجليلة مثل ما بناه المتوكل، فمن ذلك القصر المعروف بالعروس أنفق عليه ثلاثين ألف ألف درهم، والقصر المختار خمسة آلاف ألف درهم، والوحيد ألفي ألف درهم، والجعفري المحدث عشرة آلاف ألف درهم، والغريب عشرة آلاف ألف درهم، والشيدان عشرة آلاف ألف درهم، واليرج عشرة آلاف ألف درهم، والصبح خمسة آلاف ألف درهم، والمليح خمسة آلاف ألف درهم، وقصر بستان الألتاخية عشرة آلاف ألف درهم، والتل علوه وسفله خمسة آلاف ألف درهم، والجوسق في ميدان الصخر خمسمائة ألف درهم، والمسجد الجامع خمسة عشر ألف ألف درهم، وبركوان للمعتز عشرين ألف ألف درهم، والقلائد خمسين ألف دينار، وجعل فيها أبنية بمائة ألف دينار، والغرد في دجلة ألف ألف درهم، والقصر بالمتوكلية وهو الذي يقال له: الماحوزة، خمسين ألف ألف درهم، والبهو خمسة وعشرين ألف ألف درهم، واللؤلؤة خمسة آلاف ألف درهم، فذلك الجميع مائتا ألف ألف وأربعة وتسعون ألف ألف درهم.
وكان المعتصم والواثق والمتوكل إذا بنى أحدهم قصرا أو غيره أمر الشعراء أن يعملوا فيه شعرا، فمن ذلك قول علي بن الجهم في الجعفري الذي للمتوكل:
وما زلت أسمع أن الملو
ك تبني على قدر أقدارها
وأعلم أن عقول الرجا
Halaman tidak diketahui