ولو لم يكن حكم العرب في الأندلس إلى اللين والعدل ما دام ثمانية قرون، وكذلك حكمهم في جزائر صقلية، وسردانية، ومنورقة، وميورقة، وقرسقة، وغيرها من جزر الطليان. وكان اختلاط العرب بالأمم اللاتينية ولا سيما بالبرتغاليين والإسبانيين والفرنسيس والطليان؛ ولذلك تجد في لغات هذه الأمم مئات من الألفاظ العربية، ولم ير الإيطاليون أن يغيروا شيئا من مصطلحات العرب، حتى إن الملك رجار الذي عاد فاستولى على صقلية سنة 845 كان يتكلم بالعربية، ومثله كثير من ملوك إيطاليا، وكان يفضل كثيرا على علماء العرب، وهو الذي وضع له الشريف الإدريسي الجغرافي كرة أرضية بالفضة، كانت من أعاجيب القرون الوسطى دهشت لها أجيال الإفرنج كلهم.
3
وكانت دراسة العربية شائعة في شبه جزيرة إيطاليا، ينظر إلى تعلمها أنه من الحاجات الماسة لكل تجار المدن البحرية، وقد وضع أحدهم سنة 1265م باللغة العربية كتاب المعاهدة التجارية بين تونس وجمهورية بيزا، وظلت العربية مألوفة في عدة أماكن من إيطاليا الجنوبية عقيب احتلال العرب صقلية، فكانت في بلاط نورمانديا، وهوهانستوفين، وفريدريك الثاني، ودي منفروا لغة العلم العالي والشعر والأدب، وكان من سقوط الدولة البيزنطية في القسطنطينية وهجرة علماء من اليونان إلى إيطاليا، وكثير من نصارى الشرق واختراع الطباعة وقيام الإصلاح الديني، أن هبت في أرجاء إيطاليا حركة النهضة العلمية التي تجلت في أجمل مظاهرها في الدروس الشرقية، ولا سيما في دروس العربية والإسلام.
وشاعت في القرون الوسطى في أوروبا
4
لغتان فقط من لغات الشرق بين العلماء، وهي اللغة العبرانية التي كانت تعتبر لغة الإنسانية الأصلية، واللغة العربية التي كانت مهمة؛ لكثرة البشر الذين يتكلمون بها؛ ولشهرة فلاسفة الإسلام أمثال، ابن رشد، وابن سينا، وابن زهر، والفارابي؛ لذلك أنشئ في باريز منذ أواسط القرن الثالث للميلاد درس عام لتدريس اللغة العربية، وفي سنة 11م شرع في باريز، وأكسفورد، وبولون، وفلمنكة بتدريس العربية مع العبرانية والكلدانية، وكان لأسرة ميديسيس الإيطالية فضل على الآداب العربية، كما لها الفضل على الشعر والموسيقى والتصوير والهندسة.
ثم إن الإفرنج زاد اختلاطهم بالعرب في الحروب الصليبية، فإن هذه وإن كلفت أمم أوروبا ملايين من الأنفس والأموال، إلا أن أهلها عادوا منها بعد جهاد نحو قرنين، وقد لقنوا أمورا كثيرة من العرب أثرت في حضارتهم وأخلاقهم وعلومهم وصناعاتهم؛ لأنهم شاهدوا أمة أرقى منهم إذ ذاك، فأخذوا عنها ما اتسعت له أوقاتهم، وكانوا على اختلاط تام مع الأمم التي يحاربونها.
وبينا كان السيف والنشاب والمجانيق تعمل عملها بين الفريقين، كان تجار الإفرنج يدخلون بلاد العرب ويتجرون على الرحب والسعة، لا ينازعهم منازع، فأعجب بهذه الأخلاق مؤرخو الحروب الصليبية منهم وأقر بمنافعها لهم أهل الأجيال الخالقة، وفي مقدمتهم ميشو في تاريخ الحروب الصليبية، وقد ذكر على تعصبه أشياء كثيرة مما أخذه الإفرنج عن العرب، دع مئات من كتاب الغرب وباحثيهم ذكروا في كتبهم ومقالاتهم كثيرا مما استفادته أجيال الفرنجة، وغيرهم من امتزاج الصليبيين بالعرب، وقد أدهشهم ما شهدوه من عدل صلاح الدين يوسف بن أيوب - رحمه الله - حتى ادعى شاعره عبد المنعم الجلياني أنهم رسموه في هياكلهم فقال:
وخطوا بأرجاء الهياكل صورة
لك اعتقدوها كاعتقاد الأقانم
Halaman tidak diketahui