ما الشعر؟ وعلى أي ملكة من ملكات النفس يعتمد؟ وما الفلسفة؟ وبأي ملكة من ملكات النفس تعتز؟ أليس الشعر لونا من ألوان التصور وضربا من ضروب الحس والفهم أقل ما يمكن أن يوصفا به أنهما يعتمدان على الخيال قبل كل شيء؟ يعتمدان على الخيال فيدركان الحقائق، لا كما هي، بل كما يتصورانها، ويحكمان على الحقائق، لا كما ينبغي أن يحكما عليها. بل كما يستطيعان أن يحكما عليها. أليس الشعر، ولا سيما الشعر القصصي الذي كان إليه قيادة الرأي في العصور الأولى، مظهرا من مظاهر الطفولة الإنسانية وصورة من صور الحياة الساذجة الغليظة! وإذا كان الأمر كذلك، فالفرق بين الشعر وبين الفلسفة عظيم. ذلك أن الفلسفة لا تعتمد على الخيال ولا تعتز به، وإنما هي مظهر الحياة العقلية القوية، وهي وسيلة الإنسان إلى أن يتصور الحقائق كما هي ويحكم عليها الأحكام التي تلائم طبائعها، أو قل: إنها الوسيلة إلى أن يتصور الإنسان الحقائق ويحكم عليها بعقله لا بخياله ولا بحسه ولا بشعوره. تعتمد الفلسفة على النقد، ويعتمد الشعر على التصديق. ولأجل أن ينتقل الإنسان من هذه الحياة التي يبهره فيها كل شيء، ويستأثر به فيها كل شيء، إلى حياة أخرى لا يخضع فيها لتأثير الأشياء، وإنما يحاول، أو يعتقد أنه يحاول، أن يخضع الأشياء لتأثيره وسلطانه. أقول: لأجل أن ينتقل الإنسان من تلك الحياة إلى هذه الحياة لا بد له من عصور طوال تنمو فيها ملكاته وتستحيل.
تصور هذه الشعوب الأولى التي كانت ترهب كل شيء وتتأثر بكل شيء وترى في كل شيء إلها تخافه وتتملقه وتترضاه: ترى في الهواء إلها، وفي الماء إلها، وفي الأرض إلها، ماذا أقول! بل ترى في الأحجار والحشرات والأشجار والأنهار وألوان النبات آلهة تقدم إليها الصلوات وضروب القربان، وتنظم حياتها على إكبار هذه الأشياء وإجلالها؛ وتتخذ من هذا الإكبار والإجلال قواعدها الخلقية والسياسية والاجتماعية. ثم تصور هذه الشعوب وقد تغيرت واستحالت، فهي لا ترهب الأشياء ولا تخافها، بل تحاول إخضاعها وتذليلها واستخدامها، فهي لا ترى في الهواء إلها، وإنما هي تحاول أن تفهم الهواء، وأن تستخدمه في حاجاتها ومنافعها. وهي لا ترى في الماء إلها، وإنما ترى فيه عنصرا من العناصر التي يجب أن تستخدم لحاجة الإنسان ولذته. وعلى الجملة هي لا تعبد الأشياء، وإنما تستذلها وتستخدمها. تصور هذه الشعوب في هاتين الحالتين تشعر بالفرق العظيم بين هذين العصرين اللذين يسيطر الشعر في أحدهما على الحياة وتسيطر الفلسفة في الآخر عليها، ثم تشعر بهذا الزمن الطويل الذي يجب أن تقضيه الشعوب لتنتقل من إحدى هاتين الحالتين إلى الأخرى. ونحن إذا سألنا التاريخ عن مقدار القرون التي قضتها الأمة اليونانية مثلا لتستبدل العقل بالخيال ولتديل الفلسفة من الشعر، أنبأنا بأن هذه القرون ليست أقل من خمسة أو ستة. فقد كان سلطان الشعر القصصي مسيطرا على الحياة اليونانية سيطرة كاملة في القرن الحادي عشر والعاشر قبل المسيح، ثم أخذ العقل اليوناني يوجد وينمو ويسطر قليلا قليلا على الحياة. والغريب أن سيطرته الأولى على الحياة لم تأخذ مظهرا فلسفيا وإنما احتفظت بالصورة الشعرية. أريد أن العقل أثر في الشعر فجعل حظه من الفهم والحكم أعظم من حظه في الخيال والحس، وأخذنا نجد في الشعر القصصي ضروبا من الفهم أو محاولة الفهم، وألوانا من الحكم أو محاولة الحكم لم نجدها فيه من قبل. ومعنى ذلك أن العقل أخذ يختلس سبيله إلى الحياة اختلاسا، ويسلك إليها طرقا خفية، يسلكها شيئا فشيئا دون أن يشعر الناس بذلك، أو يلتفتوا إليه. وأخذ الشعر كلما عظم فيه تأثير العقل يفقد جماله الأول وسذاجته الطبيعية شيئا فشيئا، حتى استحال إلى شيء لا نستطيع أن نسميه شعرا، وإنما نحن مضطرون إلى أن نسميه نظما. وربما كان أحسن مظهر لهذا النوع من الشعر الذي ينتصر فيه سلطان العقل على سلطان الخيال، والذي هو أشبه شيء بكتب التعليم وفصول الفلسفة، وأبعد شيء عن هذا الشعر الرائع الخلاب، هذه القصائد التي تنسب إلى الشاعر اليوناني «هسيودس»، ولا سيما هذه القصيدة التي تسمى «الأعمال والأيام» التي تجد فيها ضروبا من الأدب، وألوانا من العلم مختلفة ، تجد فيها الأخلاق منظمة مرتبة، يستدل الشاعر على خيرها وعلى شرها استدلالا ليس فلسفيا كاستدلال «سقراط» ولكنه ليس شعريا كاستدلال شعراء «الإلياذة» و«الأودسا»، وإنما هو شيء بين بين، له نصيب من الخيال، وفيه حظ من التفكير والتأمل والتجربة، ثم تجد فيها جانب الأخلاق ضروبا من التعليم العملي يمس الزراعة وفصولها وحاجاتها ونظمها. ثم تجد فيها ضروبا من التعليم الديني يصف الآلهة وأخلاقهم، والصلة بينهم وبين الناس. وما أعظم الفرق بين الآلهة في هذا الشعر وبينهم في الشعر القصصي القديم! وكان سلطان هذا الشعر التعليمي منبسطا على الأمة اليونانية في القرن الثامن قبل المسيح، وكان المنشدون ينتقلون به في المدن والقرى، ويلقونه على الجماعات كما كان المنشدون ينتقلون «بالإلياذة» و«الأودسا» من قبل.
غير أنه من الحق أن نتبين بعض الأسباب التي دعت إلى هذا التطور، وجعلته أمرا محتوما، إذا لم نستطع أن نحصيها كلها، ولست أذكر منها إلا سببين اثنين، أعتقد أن لهما أعظم الأثر في هذا التطور: أحدهما سبب اقتصادي، والآخر سياسي واجتماعي.
فأما السبب الاقتصادي، فهو هذا التغير الذي طرأ على الحياة اليونانية فأقرها في المدن والقرى، ونظم لهما الحكومات وأنواع السلطان، وجعلها حاضرة بعد أن كانت بادية، في هذه الحياة الحضرية تغير شعور اليونان بالأشياء وفهمهم إياها وحكمهم عليها، وأخذوا بحكم الزراعة والتجارة والصناعة يشعرون بسلطانهم على الطبيعة، وأخذوا يرهبون هذه الطبيعة أقل مما كانوا يرهبونها من قبل. كانوا في العصور الأولى يجنون ثمرات الأرض على أنها نعمة من الآلهة؛ أما الآن فهم يكرهون هذه الأرض على أن تعطيهم ثمراتها. أضف إلى هذا أنهم كانوا يجهلون الملكية ونتائجها، أما اليوم فقد عرفوا الملكية، وأخذت كل أسرة تحرص على حظها من الأرض، ونشأت الخصومات بين الأسر، واشتد تنازع المنافع. فليس غريبا أن يكون لهذا كله تأثير عظيم في تكوين العقل وبسط سلطانه على الحياة.
السبب الثاني أن هذه الجماعات اليونانية التي استقرت في الأرض وتحضرت بعد بداوة وأخذت تجني ثمرات الحضارة الحلوة، أخذت في الوقت نفسه تبلو ثمراتها المرة: ضاقت بها الأرض، واشتدت بينها الخصومات، فعرفت الحرب الداخلية والحرب الخارجية؛ واضطرت، بحكم هذين النوعين من الحرب إلى ضروب من المهاجرة والضرب في الأرض، فاستعمرت بلادا بعيدة في أقطار من الأرض مختلفة، في آسيا وفي إيطاليا وصقلية وفرنسا وإسبانيا بل في إفريقية أيضا. وأنت تعلم هذه النتيجة المحتومة التي يحدثها اختلاط الشعوب المختلفة، وما ينشأ بينها من حرب وجهاد. تنبه العقل اليوناني بحكم هذه الأشياء كلها، وأخذ يفهم الحياة على نحو جديد لم يكن مألوفا له من قبل، وكان رقي العقل مصباحا لرقي آخر هو الرقي السياسي. فلم تكن الأمة اليونانية في حياتها السياسية أثناء القرن الثامن والسابع كما كانت أثناء القرن العاشر والتاسع؛ إذ بينما كانت الحياة السياسية في العصور الأولى ملكية خالصة تعتمد على سلطان الدين وحده، إذا بها أصبحت في هذا الطور الثاني أرستقراطية ينتقل فيها الحكم من الملك، الذي كان مثالا لإله من الآلهة، إلى الأشراف الذين يمثلون الأسر ومنافعها وحاجاتها. أي إن الحكم انتقل من الفرد إلى الجماعة، أي إن الجماعة وأفرادها أخذوا يشعرون بوجودهم وشخصياتهم، ويحاولون أن يجعلوا هذا الوجود وهذه الشخصيات أمورا معترفا بها لا تقبل نزاعا ولا جدالا. وبعبارة مجملة: أخذت شخصية الفرد تظهر قليلا قليلا، وسلطان الفرد يتغلب على سلطان الجماعة، ولا يمكن أن يكون هذا إلا نتيجة لتنبه العقل وعظم حظه من الحياة. ثم تتبع هذه الشعوب اليونانية، في بلادها الأولى أو في مستعمراتها الجديدة، تجد هذين النوعين من التطور مطردين؛ ينمو العقل فتقوى شخصية الفرد وتشتد مطامعه، وتنشأ عن ذلك الثورات السياسية؛ ثم تنمو المنافع الاقتصادية العامة فتظهر الخصومات بين المدن وتنشأ بينها الحروب، وينتج عن هذا كله أنواع من النظم الاجتماعية والسياسية والدولية لم تكن مألوفة من قبل. ومن هنا لا يكاد ينتصف القرن السابع حتى نجد بلاد اليونان كلها - أو أكثرها - في ثورة سياسية اجتماعية متصلة، فليس النزاع الآن بين الملوك والأرستقراطية كما كان في القرن الماضي، وإنما هو بين الأرستقراطية وأفراد الشعب. وليس لهذا معنى إلا أن سلطان الحياة العقلية قد أخذ ينمو ويمتد، حتى أخذ الأفراد جميعا على اختلاف طبقاتهم يشعرون بشخصياتهم وحقهم، لا في الوجود وحده، بل في الوجود وفي الحكم أيضا.
هذا التطور الذي لم يعرفه العالم القديم إلا في البلاد اليونانية وفي البلاد الرومانية من بعد، والذي لم يحدث وحده، وإنما حدث معه تطور عقلي لم يعرفه العالم القديم من قبل، وكان له كل الأثر في حياة الإنسانية من بعد، يدعونا إلى أن نعرض لمسألة تحتاج إلى شيء من التفكير.
بين الشرق والغرب
هذه المسألة هي العلاقة بين اليونان والشرق المتحضر، فأنت تعلم أنه بينما كانت الأمة اليونانية خاضعة لسلطان الشعر القصصي الذي يمثلها ساذجة جاهلة قليلة الحظ من النظم السياسية والاجتماعية الراقية، كان الشرق قد انتهى إلى درجات من الحضارة مختلفة، ولكنها راقية لا تقاس إليها حياة اليونان: كان الساميون في بابل وآشور وغيرهما، قد بسطوا سلطانا ضخما، وأسسوا حكومات قوية منظمة، وانتهوا إلى ألوان من الفن والعلم لا تزال تبهرنا إلى الآن. ولست في حاجة إلى أن أحدثك عما كانت مصر قد انتهت إليه من الحضارة. وإذن، فليس من شك في أن الاتصال قد وجد واشتد بين هذه الأمم الشرقية الراقية وهذه الأمم اليونانية الساذجة، وجد هذا الاتصال واشتد، وتأثرت الأمة اليونانية من غير شك بالحضارات الشرقية المختلفة، وأخذت عن الساميين في آسيا، وعن المصريين في إفريقية، أشياء كثيرة مختلفة. ولم تكن الأمة اليونانية جاحدة ولا منكرة للجميل، وإنما كانت شديدة الاعتراف بالجميل، وربما بالغت فيه مبالغة شديدة أيضا، فنسبت كثيرا من الأشياء إلى الشرقيين، بل نسبت مدنا مختلفة إلى المصريين حينا، وإلى الفينيقيين حينا آخر. وعدت نفسها دائما تلميذة للأمة المصرية وغيرها من الأمم الشرقية الآسيوية في الحضارة وألوان الفن.
فإلى أي حد كان تأثير هذه الأمم الشرقية في الأمة اليونانية؟ ثم إلى أي حد كان تأثير هذه الأمم الشرقية في تكوين الفلسفة اليونانية، التي لا تزال تدبر حياة العقل الإنساني إلى الآن؟ هذه هي المسألة التي نريد أن نقول فيها كلمة موجزة؛ ونأسف لأن قوما قد لا يرضون، ولكن الحق أحق أن يتبع.
نعتقد - ونظن أن غيرنا من مؤرخي الفلسفة المحدثين يعتقد أيضا - أنه لم يكن للشرق في تكوين الفلسفة اليونانية والعقل اليوناني والسياسة اليونانية تأثير يذكر، إنما كان تأثير الشرق في اليونان تأثيرا عمليا ماديا ليس غير، فقد أخذ اليونان عن الشرقيين أشياء كثيرة ولكنها عملية مادية كما قلنا. أخذوا عنهم - مثلا - نظام النقد، وأخذوا عنهم نظام المقاييس. وأخذوا عنهم شيئا من الموسيقى، وتعلموا منهم فنونا عملية كالحساب والهندسة، ولكنهم لم يأخذوا عنهم شيئا عقليا يذكر. فلئن كان البابليون قد رصدوا النجوم ووصلوا من ذلك إلى نتائج قيمة، فهم لم يضعوا علم الفلك، وإنما هذا العلم اليوناني لم ينشأ عن النتائج البابلية، وإنما نشأ عن البحث اليوناني والفلسفة اليونانية. ولئن كان المصريون قد وصلوا إلى نتائج قيمة من الهندسة العملية والآلية فليس المصريون هم الذين وضعوا علم الهندسة، وإنما اليونان هم الذين ابتكروه ابتكارا، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى نجد عند اليونان أشياء لا نجد شيئا يشبهها في الشرق القديم: نجد عندهم هذه المذاهب الفلسفية المختلفة التي حاولت منذ القرن السادس قبل المسيح فهم الكون وتفسيره وتعليله، ثم نجد عندهم هذه الفلسفة، فلسفة ما بعد الطبيعة، وما نشأ عنها من أنواع البحث التي نظمت العقل الإنساني، ولا تزال تنظمه إلى الآن. ثم نجد عندهم هذه الفلسفة الخلقية التي أنشأت علم الأخلاق، والتي لم يعرفها العالم القديم من قبل. ونحب أن نلاحظ أن العقل الإنساني ظهر في العصر القديم مظهرين مختلفين: أحدهما يوناني خالص، هو الذي انتصر، وهو الذي يسيطر على الحياة الإنسانية إلى اليوم. والآخر شرقي انهزم مرات أمام المظهر اليوناني، وهو الآن يلقي السلاح ويسلم للمظهر اليوناني تسليما ...
Halaman tidak diketahui