وكما أن تعليمه قد انقسم إلى هذين القسمين، فإنه كتبه وكتب تلاميذه انقسمت إليهما أيضا؛ فكانت منها الكتب المدرسية الخالصة التي أنشئت للمدرسة ولبحوثها، والتي لم يكن يحسن فهمها ولا التصرف فيها إلا الذين تعودوا لغة المدرسة وأساليبها ومناهجها الفلسفية، وكانت منها كتب أخرى سهلة يسيرة توضع لعامة الناس وتذاع فيهم، وهذه الكتب هي التي ذهبت كلها أو أكثرها أحداث الزمان. أما الأخرى، فقد بقيت المدرسة ثم انتقلت منها، وعبثت بها الحوادث حينا، حتى استولى «سولا» الروماني على مدينة أثينا فنقلها إلى روما وقد أصابها فساد شديد. ومن ذلك الوقت أخذ الفلاسفة في درسها وتصحيحها وإذاعتها؛ وقد بقي لنا أكثر هذه الكتب، وهو يزيد على الأربعين. وإذا نظرنا في جملة ما بقي لنا من آثار أرسطاطاليس استطعنا أن نتصور بوجه ما عمل مدرسته وعمله أيضا. فقد يظهر أن أرسطاطاليس لم يكن يقصر عمله، كما كان يفعل أفلاطون، على البحث الفلسفي ووضع الكتب الفلسفية المختلفة، وإنما كان يقصد إلى شيء آخر أجل خطرا وأبعد أثرا في الحياة العقلية العامة من هذا كله. كان يريد أن تكون فلسفته وكتبه خلاصة صادقة لكل ما وصل إليه العقل الإنساني من نتائج البحث عن كل شيء: كان يريد أن تكون كتبه أشبه شيء بما نسميه نحن دائرة المعارف الآن. ويظهر أنه كان يقسم العمل بين أصحابه، فيختص كل واحد منهم بنوع من أنواع البحث وفن من فنون الفلسفة يدرسه ويستقصيه، ويقدم نتيجة دروسه إلى المدرسة؛ ومن هذه النتائج المختلفة كان يتكون البحث الفلسفي العام الذي يختصرها ويلخصها، ويظهر هذا ظهورا قويا في كتاب «السياسة» - فنحن نعلم أن أرسطاطاليس جد في الاستعداد لهذا الكتاب، فاستقصى النظم الدستورية لطائفة ضخمة من المدن اليونانية وغير اليونانية، واستطاع بعد هذا الاستقصاء أن يضع كتاب «السياسة» الذي هو الخلاصة العامة لكل هذا البحث الطويل الدقيق. ولدينا نموذج لهذا البحث المفصل، وهو كتاب «نظام الأثينيين» الذي استكشف في مصر آخر القرن الماضي، والذي يمثل لنا دقة في البحث ومهارة في الاستقراء لم يكن للعلم بهما عهد من قبله.
على أن أرسطاطاليس يخالف أفلاطون وسقراط من جهة أخرى، في نهجه التعليمي الخالص؛ فلم يكن يعتمد في هذا المنهج كما كان يعتمد سقراط وأفلاطون على الحوار، ولم يكن يعنى كما كان يعنى أفلاطون بالإجادة الفنية البيانية، وإنما كان عالما قبل كل شيء، يهجم على موضوعه هجوما دون أن يدور حوله بالحوار والمناقشة، ويعنى بالفكرة قبل أن يعنى باللفظ الذي يصوغها فيه. ومن هنا لم تكن كتب أرسطاطاليس ككتب أفلاطون نموذجا فنيا للإجادة البيانية، وإنما هي نموذج خالد لإجادة البحث العقلي وإنفاذه. على أن هناك وجها آخر ظهر فيه الخلاف بين أرسطاطاليس وبين أفلاطون وسقراط : فقد كان سقراط ينتقل بفلسفته في شوارع أثينا من حانوت إلى حانوت، ومن ميدان إلى ميدان؛ ثم جاء أفلاطون فأقر تعليمه الفلسفي في مدرسة اختارها لهذا التعليم هي «الأكاديمية»، كان يعيش فيها ويختلف إليه تلاميذه فيدرسون ويتحاورون. أما أرسطاطاليس فقد تخير المدرسة واستقر فيها مع تلاميذه كما فعل أفلاطون، ولكنه لم يكن يعلم ولا يحاور جالسا مستقرا، وإنما كان يمشي في حديقة مدرسته ومن حوله أصحابه وتلاميذه، فيدرسون ويحللون ويستنبطون؛ فكان وسطا في ذلك بين سقراط المتنقل وأفلاطون المستقر، ومن هذا المشي مع أصحابه سميت مدرسته مدرسة المشائين، وأطلق اسم المشائين على الذين ينتمون إلى مذهب أرسطاطاليس في الفلسفة. وربما كان من الحق أن نقرر أن أرسطاطاليس قد نهض بالفلسفة نهوضا عظيما، ورقاها ترقية بعيدة الأثر، حين عدل عن أسلوب الحوار إلى أسلوب البحث المباشر المتصل؛ فقد يصلح الحوار في ألوان من الفلسفة وضروب من التفكير، ولكنه من غير شك بعيد كل البعد عن أن يلائم البحث الفلسفي العميق عن الطبيعة وما بعد الطبيعة وعن المنطق، وما يتصل به من فنون الأدب، فهو إذا صح أسلوبا للبحث السياسي والخلقي لا يصلح لغيرهما، ومن هنا كانت فلسفة أرسطاطاليس في الطبيعة وما بعد الطبيعة أشد استقرارا وأقدر على البقاء من فلسفة أفلاطون.
ولقد أشق ولقد أسرف في الإطالة لو أني حاولت أن أختصر لك صورة ما من فلسفة أرسطاطاليس. وكيف السبيل إلى ذلك في صحف معدودة ولم يترك أرسطاطاليس فنا من فنون الفلسفة ولا لونا من ألوان البحث الإنساني إلا عرض له وقال كلمته فيه - إنما الذي يعنيك من فلسفة أرسطاطاليس هو أن تعلم أن الفيلسوف الوحيد الذي حاول في العصر القديم أن ينظم العلم الإنساني من جهة، ويستقصي قوانين التفكير والتعبير والسيرة العامة والخاصة من جهة أخرى؛ ففلسفته تدور على هذين الأمرين.
تريد أن تعلم إلى أي حد وصل العقل الإنساني في القرن الرابع قبل المسيح في دروس مسألة بعينها من مسائل الطبيعة أو ما بعد الطبيعة؟ فمرجعك في ذلك إنما هو أرسطاطاليس، تجد فيه نتائج البحث الذي سبقه. وتجد فيه نقد هذه النتائج، وتجد فيه رأيه الخاص في هذه النتائج، ومن هنا انقسمت فلسفة أرسطاطاليس إلى قسمين أساسيين: أحدهما القسم الذي أحدث آثاره الطبيعية المعقولة، ثم أصبح شيئا تاريخيا يرجع إليه الذين يدرسون تاريخ الفلسفة وتاريخ الحياة العقلية عامة؛ ليستعينوا على فهم هذا التاريخ، وهذا القسم هو المباحث التي تتصل بالطبيعة وما بعد الطبيعة؛ فهو يدرس الآن ويدرس درسا دقيقا لا ينتفع به انتفاعا مباشرا في الحياة العملية، بل ليستعان به على فهم العقل الإنساني وما ناله من التطور على اختلاف العصور؛ وليس هذا بالشيء القليل. والآخر هو القسم الذي أحدث آثاره الطبيعية المعقولة، وما زال يحدثها، وسيحدثها أبدا دون أن يناله في ذلك ضعف أو قصور، أي هو القسم الذي بقي وسيظل صالحا للبقاء، والذي لم يستطع العقل الإنساني على رقيه ونضوجه أن يمحوه أو يغير منه قليلا، وهو كل ما تركه أرسطاطاليس في المنطق والأدب والأخلاق والسياسة. فقد استقصى أرسطاطاليس في المنطق قوانين العقل الإنساني في البحث والتفكير على اختلاف درجاتهما وأطوارهما؛ وهذه القوانين ثابتة لا تتغير، ملائمة للإنسان من حيث هو إنسان، لا من حيث إنه شرقي أو غربي، ولا من حيث إنه قديم أو حديث.
وقد يتطور العقل الإنساني فيشتد تأثره بناحية من أنحاء البحث دون ناحية أخرى. ولكن هذا لا يستتبع إلغاء قانون من القوانين التي استكشفها أرسطاطاليس وإنما يستتبع تقديم بعض هذه القوانين على بعض، فقد كان القدماء وأهل القرون من العرب والأوربيين يعنون عناية خاصة بالقياس، ويعتمدون عليه في بحثهم الفلسفي؛ ثم تطور العقل وأصبحت الفلسفة الحديثة تعتمد على الاستقراء أكثر مما تعتمد على القياس.
ونحن نعلم أن أرسطاطاليس قد استكشف قوانين القياس وقوانين الاستقراء جميعا، وأن الفلسفة الحديثة إن عنيت عناية خاصة بالاستقراء فهي لا تلغي القياس، ولا تستطيع أن تلغيه؛ لأنه صورة طبيعية من صور التفكير الإنساني.
وكما أن منطق أرسطاطاليس خالد فأدبه خالد أيضا. ونريد بهذا الأدب قوانين البيان التي استكشفها أرسطاطاليس في العبارة والشعر والخطابة، فهذه القوانين باقية خالدة؛ لأنها الصور الطبيعية لتعبير الإنسان عن آرائه، كما أن قوانين المنطق هي الصور الطبيعية لتكوين هذه الآراء. ومن غريب الأمر أن أهل الأدب الأوربي في أواخر القرون الوسطى وأوائل العصر الحديث، كانوا يزعمون أن أرسطاطاليس يقيد القصص التمثيلية المحزنة بقيود يقال هي الوحدات الثلاث: وحدة الزمان، والمكان، والعمل، فلما وضع «كرنيل» قصة «السيد» اشتدت حملة النقاد عليه؛ لأنه شذ عن هذه الوحدات؛ ونشأ من هذا خلاف بين الأدب القديم والأحرار من الأدب الحديث كثر فيه القول كثرة فاحشة، ثم استكشف أدب أرسطاطاليس وما كتبه عن الشعر وعن القصص التمثلية المحزنة، فإذا هو لم يذكر هذه الوحدات ولم يشر إليها، وإذا آراء الأوربيين الذين كانوا يضيفون إليه هذه الوحدات لم تكن قائمة إلا على الجهل والوهم، وإذا القوانين الأدبية التي استكشفها أرسطاطاليس لا تزال باقية صالحة للبقاء كقوانين المنطق. وقل شيئا يشبه هذا بالقياس إلى القوانين السياسية والخلقية التي استكشفها أرسطاطاليس؛ فقد تطورت النظم السياسية وقواعد الأخلاق، ولا شك في أنها ستتطور، ولكن القواعد الأساسية لأرسطاطاليس ستظل قائمة باقية؛ لأنها تتبع هذا التطور وتسيطر عليه؛ فمهما تتغير الجماعات ونظمها فستظل القاعدة السياسية الأساسية هي هذا القانون الذي وضعه أرسطاطاليس، وهو أن حسن الحكومة وقبحها شيئان إضافيان؛ فالحكومة الحسنة ليست هي الملكية ولا الجمهورية أرستقراطية كانت أو ديمقراطية، وإنما هي الحكومة الملائمة للشعب، وإذا فكل حكومة مهما تكن صورتها خير إذا لاءمت روح الشعب ومنافعه، فأي تطور اجتماعي أو سياسي يستطيع أن يغير هذه القاعدة الخالدة؛ كذلك قد يتغير شعور الإنسان وحكمه على الأشياء ومذهبه في قياس الخير والشر، ولكن القانون الخلقي الذي وضعه أرسطاطاليس سيظل خالدا؛ لأنه فوق التطور يدبره ويسيطر عليه. فأي تطور يستطيع أن يغير هذا القانون قانون الأوساط، الذي يقضي بأن الإسراف شر، وبأن التقصير شر، وبأن الخير حقا إنما هو التوسط في الأمر! وأي تطور يستطيع أن يغير هذا القانون الآخر الذي استكشفه أرسطاطاليس، وانتهى إليه العلم الحديث، وهو أن الأمر في الأخلاق كالأمر في السياسة، يجب أن يقوم على الإضافية! فليس هناك خير مطلق أو شر مطلق لا ينالهما تغير أو تبدل، وإنما الخير والشر إضافيان يتأثران بكل ما تتأثر به الحياة العامة والخاصة من الظروف.
وإذا فليس من الحق أن أرسطاطاليس فيلسوف قديم، وإنما الحق أنه فيلسوف خالد ملائم لكل زمان ولكل مكان، وهو - كما سماه الغرب حقا - «المعلم الأول».
وهو بحكم هذا الاسم قائد من قادة الفكر، أو قل: أكبر قائد من قادة الفكر، وكيف تريد أن أثبت لك أنه أكبر قائد من قادة الفكر وأنت تعلم معي أن فلسفة أرسطاطاليس سيطرت منذ ظهورها على العقل الإنساني القديم، وأنها هي التي كانت لها الأثر الأكبر في تكوين العقل العربي الإسلامي، وفي وجود فلسفة العرب وعلم الكلام عندهم، وهي التي تغلغلت في الحياة العربية حتى أثرت في البيان العربي تأثيرا قويا، وهي التي كونت العقل الأوربي في القرون الوسطى، وهي التي اتخذها العقل الأوربي مصدرا وأساسا لعلمه وفلسفته في العصر الحديث. بل هناك ميزة يختص بها أرسطاطاليس دون غيره من الفلاسفة القدماء والمحدثين، وهي أن خصومه والمنتمين إلى المذاهب الفلسفية والدينية المناقضة لفلسفته يتخذون فلسفته نفسها وسيلة إلى محاربته، فالأفلاطونيون ينقضون فلسفة أرسطاطاليس بنفس القواعد التي كشفها أرسطاطاليس للبحث والنقض والاستدلال؛ وكذلك قل عن المسيحيين والمسلمين والمحدثين من الفلاسفة، كل أولئك استخدم وما زال يستخدم منطق أرسطاطاليس لمخاصمة أرسطاطاليس. إذا فهذا الاسم من الأسماء الخالدة التي قد تكون أشد من الدهر قدرة على البقاء، إن صح مثل هذا التعبير. ومن أراد أن يبحث عن قادة الفكر فلن يستطيع أن يوفق لإجادة البحث وإحسانه إلا إذا عني بأسطاطاليس وفلسفته، وأنزلهما منزلتهما الحقيقية، وهي المنزلة الأولى.
الإسكندر
Halaman tidak diketahui