Omar's Rhetoric
البلاغة العمرية
Penerbit
مبرة الآل والأصحاب
Nombor Edisi
الأولى
Tahun Penerbitan
٢٠١٤ م
Genre-genre
إهداء
* إلى فاروق الأمة وعبقريها ... إلى عِزِّها وضميرها النابض في عروقنا ...
إلى مُلهِم الأحرار عبر الأزمان والأقطار ...
إلى السيف البتّار على أهل الشنار ...
إلى عمر بن الخطاب ...
* إلى أبي الذي افتقدته صغيرًا ولم تمتلئ عيناي منه ... فهذه الثمرة التي كنت ترجوها في أبنائك ... وهذه الصلوات المتتاليات التي أذكرك بها حينًا بعد حين.
1 / 5
* إلى التي أظلتني برعايتها ... واكتنَفَتْني بعطفها وحنانها ... وأسهرت على راحتي عينيها ...
إلى أمي الحبيبة ... بكل المشاعر الإنسانية المتدفقة التي لا يحجزها عن التعبير عن عظيم حقك عليَّ حاجز ... وبكل صلواتي المتتاليات التي أذكرك فيها كل حين.
* إلى أهلي وقرابتي ...
* إلى ابني «عمر» سَمِيِّ الفاروق الأكبر ...
* إلى أشقائه: «الحسين» و«بدرية» و«آلاء» ...
هذا عِزكم ففاخروا به، وانهضوا بحقه، واعملوا بأحسنه ...
المؤلف
1 / 6
عَلَى سَاحِلِ عُمَر ..
«إِيهٍ يَا ابْنَ الخَطَّابِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا لَقِيَكَ الشَّيْطَانُ سَالِكًا فَجًّا إِلَّا سَلَكَ فَجًّا غَيْرَ فَجِّكَ». النبي ﷺ
«مَا زِلْنَا أَعِزَّةً مُنْذُ أَسْلَمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ﵁».
عبد الله بن مسعود ﵁
«مَا كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِأَوَّلِنَا إِسْلامًا، وَلا أَقْدَمِنَا هِجْرَةً، وَلَكِنَّهُ كَانَ أَزْهَدَنَا فِي الدُّنْيَا، وَأَرْغَبَنَا فِي الآخِرَةِ».
طلحة بن عبيد الله ﵁
«وَمَنْ رَأَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَرَفَ أَنَّهُ خُلِقَ غَنَاءً لِلْإِسْلَامِ، كَانَ وَاللهِ أَحْوَزِيًّا، نَسِيجَ وَحْدِهِ، قَدْ أَعَدَّ لِلْأُمُورِ أَقْرَانَهَا». أم المؤمنين عائشة ﵂
1 / 7
أَبَعْدَ قَتِيلٍ بِالْمَدِينَةِ أَشْرَقَتْ ... لَهُ الْأَرْضُ وَاهْتَزَّ الْعِضَاةُ بِأَسْوُقِ
جَزَى اللهُ خَيْرًا مِنْ إِمَامٍ وَبَارَكَتْ ... يَدُ اللهِ فِي ذَاكَ الْأَدِيمِ الْمُمَزَّقِ
قَضَيْتَ أُمُورًا ثُمَّ غَادَرْتَ بَعْدَهَا ... بَوَائِجَ فِي أَكْمَامِهَا لَمْ تُفَتَّقِ
وَكُنْتَ نَشَرْتَ الْعَدْلَ بِالْبِرِّ وَالتُّقَى ... وَحُكْمُ صَلِيبِ الدِّينِ غَيْرُ مُزَوَّقِ
فَمَنْ يَسْعَ أَوْ يَرْكَبْ جَنَاحَيْ نَعَامَةٍ ... لَيُدْرِكَ مَا قَدَّمْتَ بِالْأَمْسِ يُسْبَقِ
أَمِينُ النَّبِيِّ حِبُّهُ وَصَفِيُّهُ ... كَسَاهُ الْمَلِيكُ جُبَّةً لَمْ تَمَزَّقِ
مِنَ الدِّينِ وَالْإِسْلَامِ وَالْعَدْلِ وَالتُّقَى ... وَبَابُكَ عَنْ كُلِّ الْفَوَاحِشِ مُغْلَقُ
تَرَى الْفُقَرَاءَ حَوْلَهُ فِي مَفَازَةٍ ... شِبَاعًا رُوَاءً لَيْلُهُمْ لَمْ يُؤَرَّقِ
جزء بن ضرار
1 / 8
مقدمة
الحمد لله الأوّل بلا ابتداء، الآخر بلا انتهاء؛ المنفرد بقدرته، المتعالي في سلطانه؛ البادئ بالإحسان، العائد بالامتنان؛ الدالّ على بقائه بفناء خلقه، وعلى قدرته بعجز كلّ شيء سواه؛ المغتفر إساءة المذنب بعفوه، وجهل المسيء بحلمه؛ الذي جعل معرفته اضطرارًا، وعبادته اختيارًا؛ وخلق الخلق من بين ناطق معترف بوحدانيّته، وصامت متخشّع لربوبيّته؛ لا يخرج شيء عن قدرته، ولا يعزب عن رؤيته؛ الذي قرن بالفضل رحمته، وبالعدل عذابه؛ فالناس مدينون بين فضله وعدله، آذنون بالزّوال، آخذون في الانتقال؛ من دار بلاء إلى دار جزاء.
أحمده على حلمه بعد علمه، وعلى عفوه بعد قدرته؛ فإنّه رضي الحمد ثمنًا لجزيل نعمائه، وجليل آلائه؛ وجعله مفتاح رحمته، وكفاء نعمته، وآخر دعوى أهل جنّته، بقوله جلّ وعزّ: ﴿وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.
وصلّى الله على سيّدنا محمّد النبيّ المكرّم، الشافع المقرّب، الذي
1 / 9
بعث آخرًا واصطفي أولًا، وجعلنا من أهل طاعته، وعتقاء شفاعته.
أما بعد؛ فهذا كتاب فريد في بابه، مُسْتَوْعِب لأَطْرَافِ الْفَنِّ، جَامِع لِشَتِيت الْفَوَائِد، وَمَنْثُور الْمَسَائِل، وَمُتَشَعِّب الأَغْرَاضِ، تخيّرت فيه من جواهر كلام الفاروق عمر بن الخطاب ﵁ ما حفلت به كتب الآثار.
وصنعت فيه صَنْعَة الشريف الرضي في سِفره (نهج البلاغة)، إذ جمع من كلام أبي السبطين علي ﵁ ما صح سنده وما لم يصح، غير أني جانبت طريقته في نِسبة كثير من الحكم والخطب إليه مما ثبت أنها لغيره أو نُحِلت على لسانه، فخلّفت ورائي من الفرائد الكثير، حين لاح لي زيف نِسبتها.
وقد أعرضت عن التعرض للحُكْمِ على أغلبِ رواياتِ هذا السِفر عن عمد، رغم وقوفي على رُتَبِها، لمَّا كانت الغاية من كتابة هذا السِفر، جمع ما تناثر في الكتب من خُطب الفاروق عمر وكتبه وحِكمه، ليسوغ لمِثلي أن يتمَثَّل بعد هذا قول الفرزدق لجرير مفتخرًا:
أولئك آبائي فجئني بمثلهم ... إذا جمعَتْنا يا جرير المجامعُ
والبلاغة كما فسَّرها أهل الفن: هي موافقة الكلام مقتضى الحال، مع الفصاحة والإيجاز.
وما أبلغ تعبير القدماء من أعلام الأمة إذ قالوا أنها: بلوغ دقيق المعاني بجليل الكلام.
1 / 10
فقد سأل رَجُلٌ الشَّافِعِيِّ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ، مَا الْبَلَاغَةُ؟، فقال: «الْبَلَاغَةُ أَنْ تَبْلُغَ إِلَى دَقِيقِ الْمَعَانِي بِجَلِيلِ الْقَوْلِ»، فسأله: فَمَا الْإِطْنَابُ؟، فقال: «الْبَسْطُ لِيَسِيرِ الْمَعَانِي، فِي فُنُونِ الْخِطَابِ»، فسأله: فَأَيُّمَا أَحْسَنُ عِنْدَكَ الْإِيجَازُ أَمْ الْإِسْهَابُ؟، فقال: «لِكُلٍّ مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ مَنْزِلَةٌ، فَمَنْزِلَةُ الْإِيجَازِ عِنْدَ التَّفَهُّمِ فِي مَنْزِلَةِ الْإِسْهَابِ عِنْدَ الْمَوْعِظَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى إِذَا احْتَجَّ فِي كَلَامِهِ كَيْفَ يُوجِزُ، وَإِذَا وَعَظَ يُطْنِبُ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ مُحْتَجًّا: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾ [الأنبياء: ٢٢]، وَإِذَا جَاءَتِ الْمَوْعِظَةُ، جَاءَ بِأَخْبَارِ الْأَوَّلِينَ، وَضَرَبَ الْأَمْثَالَ بِالسَّلَفِ الْمَاضِينَ» (١).
ومن تأمل كلام الماضين، تفتقت له ينابيع الحِكمة، وفَصل الخِطاب، وتجلَّت له بلاغة المنطق، وتفتحت له أبوابها.
وأما كلام الفاروق عمر ﵁ فهو البحر الذي لا يُساجَل (٢)، والجمّ الذي لا يحافَل (٣)، وهو دائرٌ على أقطاب (٤) ثلاثة؛ كنحو تلك الأقطاب التي دارت عليها بلاغة أبي السبطين علي ﵁.
_________
(١) الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي: ٢/ ٦٦
(٢) لا يُساجَل: لا يغالب في الامتلاء وكثرة الماء.
(٣) لا يحُافَل: لا يغالب في الكثرة، من قولهم: ضرع حافل: ممتلئ كثير اللبن، والمراد أنّ كلامه لا يقابل بكلام غيره لكثرة فضائله.
(٤) أقطاب: أصول.
1 / 11
* فأول هذه الأقطاب: الخطب والأوامر.
* وثانيها: الكتب والرسائل.
* وثالثها: الحكم والمواعظ.
فأجمعتُ (١) بتوفيق الله ﷻ على الابتداء باختيار محاسن الخطب، ثم محاسن الكتب، ثم محاسن الحِكَم والأدب، مفردًا لكلّ صنف من ذلك بابًا، ومفصَّلًا فيه أوراقًا، لتكون مقدمة لاستدراك ما عساه يشذّ عنّي عاجلًا، ويقع إليّ آجلًا.
ولا أدَّعي - مع ذلك - أنّي أحيط بأقطار جميع كلامه ﵁ (٢) حتّى لا يشذَّ عني منه شاذّ، ولا يَنِدَّ نادّ (٣)، بل لا أبعد أن يكون القاصر عني فوق الواقع إليّ، والحاصل في رِبْقتي (٤) دون الخارج من يديّ، وما عليّ إلا بذل الجهد، وبلاغ الوسع، وعلى الله سبحانه نهج السبيل (٥)، وإرشاد الدليل، إن شاء الله تعالى.
ورأيتُ من بعد تسمية هذا الكتاب بـ «البلاغة العُمرية» إذ كان يفتح للناظر فيه أبوابها، ويقرّب عليه طِلابها، وفيه حاجة العالم
_________
(١) أجمع عليه: عزم.
(٢) أقطار الكلام: جوانبه.
(٣) الناد: المنفرد الشاذ.
(٤) الربقة: عروة حبل يجعل فيها رأس البهيمة.
(٥) نهج السبيل: إبانته وإيضاحه.
1 / 12
والمتعلّم، وبغية البليغ والزاهد، ويمضي في أثنائه من عجيب الكلام، ما هو بِلال كلّ غلّة (١)، وشفاء كلّ علّة، وجِلاء كلّ شبهة.
ثمَّ إني بعد هذا كله، عزوت كل أثر عنه ﵁ بحسب الوُسع والطاقة - إلى مصدره، فما كان منه في الكتب التسعة قدَّمته على غيره، وأخَّرت ما سواه ولو كان ذا علو في الإسناد، بادئًا بالبخاري ثمَّ مسلم ثمَّ أصحاب السنن ثمَّ الموطأ ثمَّ مسند أحمد ثمَّ الدارمي ثمَّ سائر الكتب.
وما كان منه خِلوًا مما ذكرت، قَدَّمت فيه الأقدم تصنيفًا فالأحدث.
فإن كان الأثر مُسندًا في كتب أهل الفن، عبَّرت عن ذلك بقولي (رواه)، وإن كان مذكورًا بلا إسناد يُعرف، عبَّرت عن ذلك بقولي (ذكره).
وإني قبل هذا وبعده؛ أستمد من الله تعالى التوفيق والعصمة، وأتنجّزُ التسديد والمعونة، وأستعيذه من خطأ الجنان، قبل خطأ اللسان، ومن زلّة الكَلِم، قبل زلّة القَدَمْ، وهو حسبي ونعم الوكيل.
_________
(١) الغلة: العطش.
1 / 13
الباب الأول: في المُختار من خُطب أمير المؤمنين ﵁ وأوامره
1 / 15
[١] وَمِنْ كَلامٍ لَهُ ﵁ يذكر وقوع الإسلام في قلبه قبل إسلامه
«خَرَجْتُ أَتَعَرَّضُ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَبْلَ أَنْ أُسْلِمَ، فَوَجَدْتُهُ قَدْ سَبَقَنِي إِلَى الْمَسْجِدِ، فَقُمْتُ خَلْفَهُ، فَاسْتَفْتَحَ سُورَةَ الْحَاقَّةِ، فَجَعَلْتُ أَعْجَبُ مِنْ تَالِيفِ الْقُرْآنِ، فَقُلْتُ: هَذَا وَاللهِ شَاعِرٌ كَمَا قَالَتْ قُرَيْشٌ، فَقَرَأَ: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (٤٠) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ﴾، قُلْتُ: كَاهِنٌ، قَالَ: ﴿وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (٤٢) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٤٣) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (٤٧) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (٤٩) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (٥٠) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (٥١) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ﴾ [الحاقة: ٤٢ - ٥٢]، فَوَقَعَ الْإِسْلامُ فِي قَلْبِي كُلَّ مَوْقِعٍ» (١).
[٢] وَمِنْ كَلاَمٍ لَهُ ﵁ يذكر إسلامه وفضل الله تعالى عليه
«أَتُحِبُّونَ أَنْ أُعْلِمَكُمْ بُدُوَّ إِسْلَامِي؟ قالوا: نَعَمْ، قَالَ: كُنْتُ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَبَيْنَا أَنَا فِي يَوْمٍ حَارٍّ فِي
_________
(١) رواه أحمد في المسند (١٠٨) وابن عساكر في تاريخ دمشق: ٤٤/ ٢٨.
1 / 17
بَعْضِ طُرُقِ مَكَّةَ إِذْ لَقِيَنِي رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ فَقَالَ: أَيْنَ تَذْهَبُ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟ قُلْتُ: أُرِيدُ هَذَا الَّذِي الَّذِي الَّذِي، قَالَ: عَجَبًا لَكَ تَزْعُمُ أَنَّكَ هَكَذَا، وَقَدْ دَخَلَ عَلَيْكَ هَذَا الْأَمْرُ بَيْتَكَ، قُلْتُ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: أُخْتُكَ قَدْ صَبَتْ، فَرَجَعْتُ مُغْضَبًا، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَجْمَعُ الرَّجُلَ وَالرِّجْلَيْنِ إِذَا أَسْلَمَا عِنْدَ الرَّجُلِ بِهِ قُوَّةٌ يُصِيبَانِ مِنْ طَعَامِهِ، وَقَدْ كَانَ ضَمَّ إِلَى زَوْجِ أُخْتِي رَجُلَيْنِ، فَجِئْتُ حَتَّى قَرَعْتُ الْبَابَ، قَالَ: مَنْ هَذَا؟ قُلْتُ: ابْنُ الْخَطَّابِ، وَكَانُوا يَقْرَءُونَ صَحِيفَةً مَعَهُمْ، فَلَمَّا سَمِعُوا صَوْتِي اخْتَفَوْا وَنَسُوا الصَّحِيفَةَ، فَقَامَتِ الْمَرْأَةُ فَفَتَحَتْ لِي، فَقُلْتُ: يَا عَدُوَّةَ نَفْسِهَا، قَدْ بَلَغَنِي أَنَّكِ صَبَوْتِ، وَأَرْفَعُ شَيْئًا فِي يَدِي فَأَضْرِبَهَا، فَسَالَ الدَّمُ، فَلَمَّا رَأَتِ الدَّمَ بَكَتْ وَقَالَتْ: يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، مَا كُنْتَ فَاعِلًا فَافْعَلْ، فَقَدْ أَسْلَمْتُ.
فَجَلَسْتُ عَلَى السَّرِيرِ فَنَظَرْتُ، فَإِذَا بِكِتَابٍ فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ أَعْطِينِيهِ، قَالَتْ: لَسْتَ مِنْ أَهْلِهِ، إِنَّكَ لَا تَغْتَسِلُ مِنَ الْجَنَابَةِ، وَلَا تَطْهُرُ، وَهَذَا لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ، فَلَمْ أَزَلْ بِهَا حَتَّى أَعْطِنِيهِ، فَإِذَا فِيهِ: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَلَمَّا مَرَرْتُ بِالرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ذُعِرْتُ وَرَمَيْتُ بِالصَّحِيفَةِ، ثُمَّ رَجَعْتُ فَإِذَا فِيهِ: ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾، كُلَّمَا مَرَرْتُ بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ ذُعِرْتُ، ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى نَفْسِي، حَتَّى بَلَغْتُ ﴿آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
1 / 18
وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (٧) وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [الحديد: ٧ - ٨]، فَقُلْتُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، فَخَرَجَ الْقَوْمُ يَتَنَادَوْنَ بِالتَّكْبِيرِ اسْتِبْشَارًا بِمَا سَمِعُوا مِنِّي، وَحَمِدُوا اللهَ، وَقَالُوا: يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، أَبْشِرْ، فَلَمَّا أَنْ عَرَفُوا مِنِّي الصِّدْقَ قُلْتُ لَهُمْ: أَخْبِرُونِي بِمَكَانِ رَسُولِ اللهِ، قَالُوا: هُوَ فِي بَيْتٍ فِي أَسْفَلِ الصَّفَا، فَخَرَجْتُ حَتَّى قَرَعْتُ الْبَابَ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قُلْتُ: ابْنُ الْخَطَّابِ، وَقَدْ عَرَفُوا شِدَّتِي عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَلَمْ يَعْلَمُوا إِسْلَامِي.
فَمَا اجْتَرَأَ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِفَتْحِ الْبَابِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «افْتَحُوا لَهُ، فَإِنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يَهْدِهِ»، فَفَتَحُوا لِي، وَأَخَذَ رَجُلٌ بِعَضُدِي، حَتَّى دَنَوْتُ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: «أَرْسِلُوهُ»، فَأَرْسَلُونِي فَجَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَأَخَذَ بِمَجْمَعِ قَمِيصِي فَجَبَذَنِي إِلَيْهِ وَقَالَ: «أَسْلِمْ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، اللَّهُمَّ اهْدِهِ»، قُلْتُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّكَ رَسُولُ اللهِ، فَكَبَّرَ الْمُسْلِمُونَ تَكْبِيرَةً سُمِعَتْ بِطُرُقِ مَكَّةَ، وَقَدْ كَانَ اسْتَخْفَى، وَكُنْتُ لَا أَشَاءُ أَنْ أَرَى رَجُلًا إِذَا أَسْلَمَ يُضْرَبُ إِلَّا رَأَيْتُهُ، فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ قُلْتُ: مَا أُحِبُّ إِلَّا أَنْ يُصِيبَنِي مِمَّا يُصِيبُ الْمُسْلِمِينَ.
فَذَهَبْتُ إِلَى خَالِي، وَكَانَ شَرِيفًا فِيهِمْ، فَقَرَعْتُ عَلَيْهِ الْبَابَ،
1 / 19
فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قُلْتُ: ابْنُ الْخَطَّابِ، فَخَرَجَ، فَقُلْتُ: أَشَعَرْتَ أَنِّي قَدْ صَبَوْتُ؟ قَالَ: لَا تَفْعَلْ، قُلْتُ: قَدْ فَعَلْتُ، قَالَ: لَا تَفْعَلْ، وَأَجَافَ الْبَابَ دُونِي، قُلْتُ: مَا هَذَا بِشَيْءٍ، فَخَرَجْتُ حَتَّى جِئْتُ رَجُلًا مِنْ عُظَمَاءِ قُرَيْشٍ، فَقَرَعْتُ الْبَابَ، فَخَرَجَ، فَقُلْتُ: أَشَعَرْتَ أَنِّي قَدْ صَبَوْتُ؟ قَالَ: لَا تَفْعَلْ، قُلْتُ: قَدْ فَعَلْتُ، فَدَخَلَ فَأَجَابَ الْبَابَ، قَالَ: فَانْصَرَفْتُ، فَقَالَ لِي رَجُلٌ: أَتُحِبُّ أَنْ يُعْلَمَ بِإِسْلَامِكَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَإِذَا جَلَسَ النَّاسُ فِي الْحِجْرِ فَائْتِ فُلَانًا، رَجُلًا لَمْ يَكُنْ يَكْتُمُ السِّرَّ، فَأَصْغِ إِلَيْهِ وَقُلْ لَهُ فِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ: إِنِّي قَدْ صَبَوْتُ، فَإِنَّهُ سَوْفَ يَظْهَرُ عَلَيْكَ وَيَصِيحُ وَيُعْلِنُهُ، فَلَمَّا اجْتَمَعَ النَّاسُ فِي الْحِجْرِ جِئْتُ إِلَى الرَّجُلِ فَدَنَوْتُ فَأَصْغَيْتُ إِلَيْهِ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ: إِنِّي قَدْ صَبَوْتُ، فَقَالَ: قَدْ صَبَوْتَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَرَفَعَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ وَقَالَ: أَلَا إِنَّ ابْنَ الْخَطَّابِ قَدْ صَبَا، فَثَابَ إِلَيَّ النَّاسُ فَضَرَبُونِي وَضَرَبْتُهُمْ، فَقَالَ خَالِي: مَا هَذَا؟ فَقِيلَ: ابْنُ الْخَطَّابِ، فَقَامَ عَلَى الْحِجْرِ فَأَشَارَ بِكُمِّهِ: أَلَا إِنِّي قَدْ أَجَرْتُ ابْنَ أُخْتِي، فَانْكَشَفَ النَّاسُ عَنِّي، وَكُنْتُ لَا أَشَاءُ أَنْ أَرَى أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُضْرَبُ إِلَّا رَأَيْتُهُ، وَأَنَا لَا أُضْرَبُ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا بِشَيْءٍ حَتَّى يُصِيبَنِي مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمْهَلْتُ حَتَّى إِذَا جَلَسَ فِي الْحِجْرِ، دَخَلْتُ إِلَى خَالِي قُلْتُ:
اسْمَعْ، قَالَ: مَا أَسْمَعُ؟ قُلْتُ: جِوَارُكَ عَلَيْكَ رَدٌّ، فَقَالَ: لَا تَفْعَلْ يَا ابْنَ أُخْتِي، قُلْتُ: بَلَى هُوَ ذَاكَ،
1 / 20
قَالَ: مَا شِئْتَ، قَالَ: فَمَا زِلْتُ أَضْرِبُ وَأُضْرَبُ حَتَّى أَعَزَّ اللهُ الْإِسْلَامَ» (١).
[٣] وَمِنْ كَلاَمٍ لَهُ ﵁ لرسول الله ﷺ بعد إسلامه
«يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَا أَدَعُ مَجْلِسًا جَلَسْتُهُ فِي الْكُفْرِ إِلَّا أَعْلَنْتُ فِيهِ الْإِسْلَامَ» (٢).
[٤] وَمِنْ كَلاَمٍ لَهُ ﵁ في هجرته إلى المدينة
«اتعَدْتُّ، لَمَّا أَرَدْنَا الْهِجْرَةَ إلَى الْمَدِينَةِ، أَنَا وعَيَّاش بن أبي ربيعة (٣)، وهشام بن العاص بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيُّ (٤) التَّناضِبَ مِنْ أَضَاةِ
_________
(١) رواه أحمد في فضائل الصحابة (٣٧٦) والبيهقي في دلائل النبوة: ٢/ ٢١٦.
(٢) رواه الطبراني في المعجم الأوسط (١٢٩٣).
(٣) عياش بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي، من المهاجرين الأولين، ذو الهجرتين، ولد له بالحبشة ابنه عبد الله، ثم هاجر هو وعمر بن الخطاب إلى المدينة، كان أخًا لأبي جهل بن هشام لأمه، خرج أبو جهل، والحارث ابنا هشام إلى المدينة فتلطفا له، حتى رجعا به إلى مكة، فكان ممن يعذب في الله مع المستضعفين الذين قنت فيهم النبي ﷺ، فقال: «اللهم أنج عياش بن أبي ربيعة والمستضعفين بمكة». (معرفة الصحابة لأبي نعيم: ٤/ ٢٢٢٦).
(٤) هشام بن العاص بن وائل السهمي. كان قديم الإسلام بمكة، وهاجر إلى أرض الحبشة في الهجرة الثانية، ثم قدم مكة حين بلغه مهاجر النبي ﷺ إلى المدينة يريد اللحاق به، فحبسه أبوه وقومه بمكة حتى قدم بعد الخندق على النبي ﷺ المدينة، فشهد ما بعد =
1 / 21
بَنِي غِفَارٍ، فَوْقَ سَرِف وَقُلْنَا: أَيُّنَا لَمْ يُصْبِحْ عِنْدَهَا فَقَدْ حُبس فَلْيَمْضِ صَاحِبَاهُ. قَالَ: فَأَصْبَحْتُ أَنَا وَعَيَّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ عِنْدَ التَّناضِب، وحُبسَ عنَّا هشامٌ، وفُتن فافتتن.
فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ نَزَلْنَا فِي بَنِي عَمرو بْنِ عَوْفٍ بقُباء، وَخَرَجَ أَبُو جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ إلَى عَيَّاش بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، وَكَانَ ابْنَ عَمِّهِمَا وَأَخَاهُمَا لِأُمِّهِمَا، حَتَّى قَدِمَا عَلَيْنَا الْمَدِينَةَ وَرَسُولُ اللهِ ﷺ بِمَكَّةَ، فَكَلَّمَاهُ وَقَالَا: إنَّ أمَّك قَدْ نَذَرَتْ أَنْ لَا يَمس رأسَها مُشط حَتَّى تَرَاكَ، وَلَا تَسْتَظِلَّ مِنْ شَمْسٍ حَتَّى تَرَاكَ، فرقَّ لَهَا، فَقُلْتُ لَهُ: يَا عَيَّاشُ، إنَّهُ وَاَللهِ إنْ يُرِيدَكَ الْقَوْمُ إلَّا لِيَفْتِنُوكَ عَنْ دِينِكَ فاحذرْهم، فَوَاَللهِ لَوْ قَدْ آذَى أمَّك القملُ لَامْتَشَطَتْ، وَلَوْ قَدْ اشْتَدَّ عَلَيْهَا حرُّ مَكَّةَ لَاسْتَظَلَّتْ. قَالَ: فَقَالَ: أَبَرُّ قَسَمَ أُمِّي، وَلِي هُنَالِكَ مَالٌ فَآخُذُهُ. قَالَ: فَقُلْتُ: وَاللهِ إنَّكَ لَتَعْلَمُ أَنِّي لَمِنْ أَكْثَرِ قُرَيْشٍ مَالًا، فَلَكَ نِصْفُ مَالِي وَلَا تَذْهَبْ مَعَهُمَا. قَالَ: فَأَبَى عَلَيَّ إلَّا أَنْ يَخْرُجَ مَعَهُمَا؛ فَلَمَّا أَبَى إلَّا ذَلِكَ؛ قَالَ: قُلْتُ لَهُ: أَمَّا إذْ قَدْ فَعَلْتَ مَا فَعَلْتَ، فَخُذْ نَاقَتِي هَذِهِ، فَإِنَّهَا نَاقَةٌ نَجِيبَةٌ ذَلُولٌ، فَالْزَمْ ظهرَها، فَإِنْ رَابَكَ مِنْ الْقَوْمِ ريْب، فانجُ عَلَيْهَا.
_________
= ذلك من المشاهد، وكان أصغر سنًا من أخيه عمرو بن العاص وليس له عقب. (الطبقات الكبرى: ٤/ ١٩١).
1 / 22
فَخَرَجَ عَلَيْهَا مَعَهُمَا، حَتَّى إذَا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ، قَالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ: يا ابن أَخِي، وَاَللهِ لَقَدْ استغلظتُ بَعِيرِي هَذَا، أَفَلَا تُعْقِبني عَلَى نَاقَتِكَ هَذِهِ؟ قَالَ: بلَى. قَالَ: فَأَنَاخَ، وَأَنَاخَا لِيَتَحَوَّلَ عَلَيْهَا، فَلَمَّا استَوَوْا بِالْأَرْضِ عدَوَا عَلَيْهِ، فَأَوْثَقَاهُ وَرَبَطَاهُ ثُمَّ دَخَلَا بِهِ مَكَّةَ، وَفَتَنَاهُ فافتُتن» (١).
[٥] وَمِنْ كَلاَمٍ لَهُ ﵁ في أمر أزواج النبي ﷺ -
«إِنِّي كُنْتُ وَجَارٌ لِي مِنَ الأَنْصَارِ فِي بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ، وَهِيَ مِنْ عَوَالِي المَدِينَةِ، وَكُنَّا نَتَنَاوَبُ النُّزُولَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَيَنْزِلُ يَوْمًا وَأَنْزِلُ يَوْمًا، فَإِذَا نَزَلْتُ جِئْتُهُ مِنْ خَبَرِ ذَلِكَ اليَوْمِ مِنَ الأَمْرِ وَغَيْرِهِ، وَإِذَا نَزَلَ فَعَلَ مِثْلَهُ، وَكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى الأَنْصَارِ إِذَا هُمْ قَوْمٌ تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ، فَطَفِقَ نِسَاؤُنَا يَاخُذْنَ مِنْ أَدَبِ نِسَاءِ الأَنْصَارِ، فَصِحْتُ عَلَى امْرَأَتِي، فَرَاجَعَتْنِي، فَأَنْكَرْتُ أَنْ تُرَاجِعَنِي، فَقَالَتْ: وَلِمَ تُنْكِرُ أَنْ أُرَاجِعَكَ، فَوَاللهِ إِنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ ﷺ ليُرَاجِعْنَهُ، وَإِنَّ إِحْدَاهُنَّ لَتَهْجُرُهُ اليَوْمَ حَتَّى اللَّيْلِ،
_________
(١) رواه ابن إسحاق كما في السيرة النبوية لابن هشام: ١/ ٤٧٤ وابن سعد في الطبقات الكبرى: ٣/ ٢٧١ والبزار في البحر الزخار (١٥٥) وابن شبة في تاريخ المدينة: ٢/ ٦٦٣ والنجاد في مسند عمر بن الخطاب: ص٩٦ والبيهقي في السنن الكبرى (١٧٧٥٦) وابن عساكر في تاريخ دمشق: ٤٧/ ٢٤٢ و٧٤/ ١٧.
1 / 23
فَأَفْزَعَنِي، فَقُلْتُ: خَابَتْ مَنْ فَعَلَ مِنْهُنَّ بِعَظِيمٍ، ثُمَّ جَمَعْتُ عَلَيَّ ثِيَابِي، فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ، فَقُلْتُ: أَيْ حَفْصَةُ أَتُغَاضِبُ إِحْدَاكُنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ اليَوْمَ حَتَّى اللَّيْلِ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ، فَقُلْتُ: خَابَتْ وَخَسِرَتْ أَفَتَامَنُ أَنْ يَغْضَبَ اللهُ لِغَضَبِ رَسُولِهِ ﷺ، فَتَهْلِكِينَ لاَ تَسْتَكْثِرِي عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَلاَ تُرَاجِعِيهِ فِي شَيْءٍ، وَلاَ تَهْجُرِيهِ، وَاسْأَلِينِي مَا بَدَا لَكِ، وَلاَ يَغُرَّنَّكِ أَنْ كَانَتْ جَارَتُكِ هِيَ أَوْضَأَ مِنْكِ، وَأَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ يُرِيدُ عَائِشَةَ - وَكُنَّا تَحَدَّثْنَا أَنَّ غَسَّانَ تُنْعِلُ النِّعَالَ لِغَزْوِنَا، فَنَزَلَ صَاحِبِي يَوْمَ نَوْبَتِهِ فَرَجَعَ عِشَاءً، فَضَرَبَ بَابِي ضَرْبًا شَدِيدًا،
وَقَالَ: أَنَائِمٌ هُوَ، فَفَزِعْتُ، فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ، وَقَالَ: حَدَثَ أَمْرٌ عَظِيمٌ، قُلْتُ: مَا هُوَ؟ أَجَاءَتْ غَسَّانُ؟ قَالَ: لاَ، بَلْ أَعْظَمُ مِنْهُ وَأَطْوَلُ طَلَّقَ رَسُولُ اللهِ ﷺ نِسَاءَهُ، قَالَ: قَدْ خَابَتْ حَفْصَةُ وَخَسِرَتْ، كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ هَذَا يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ، فَجَمَعْتُ عَلَيَّ ثِيَابِي، فَصَلَّيْتُ صَلاَةَ الفَجْرِ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ، فَدَخَلَ مَشْرُبَةً لَهُ، فَاعْتَزَلَ فِيهَا، فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ، فَإِذَا هِيَ تَبْكِي، قُلْتُ: مَا يُبْكِيكِ؟ أَوَلَمْ أَكُنْ حَذَّرْتُكِ، أَطَلَّقَكُنَّ رَسُولُ اللهِ ﷺ، قَالَتْ: لاَ أَدْرِي هُوَ ذَا فِي المَشْرُبَةِ، فَخَرَجْتُ، فَجِئْتُ المِنْبَرَ، فَإِذَا حَوْلَهُ رَهْطٌ يَبْكِي بَعْضُهُمْ، فَجَلَسْتُ مَعَهُمْ قَلِيلًا، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ، فَجِئْتُ المَشْرُبَةَ الَّتِي هُوَ فِيهَا، فَقُلْتُ لِغُلاَمٍ لَهُ أَسْوَدَ:
1 / 24
اسْتَاذِنْ لِعُمَرَ، فَدَخَلَ، فَكَلَّمَ النَّبِيَّ ﷺ، ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ: ذَكَرْتُكَ لَهُ، فَصَمَتَ، فَانْصَرَفْتُ، حَتَّى جَلَسْتُ مَعَ الرَّهْطِ الَّذِينَ عِنْدَ المِنْبَرِ، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ، فَجِئْتُ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ، فَجَلَسْتُ مَعَ الرَّهْطِ الَّذِينَ عِنْدَ المِنْبَرِ، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ، فَجِئْتُ الغُلاَمَ فَقُلْتُ: اسْتَاذِنْ لِعُمَرَ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ، فَلَمَّا وَلَّيْتُ مُنْصَرِفًا، فَإِذَا الغُلاَمُ يَدْعُونِي قَالَ: أَذِنَ لَكَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَإِذَا هُوَ مُضْطَجِعٌ عَلَى رِمَالِ حَصِيرٍ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فِرَاشٌ، قَدْ أَثَّرَ الرِّمَالُ بِجَنْبِهِ مُتَّكِئٌ عَلَى وِسَادَةٍ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ،
فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، ثُمَّ قُلْتُ وَأَنَا قَائِمٌ: طَلَّقْتَ نِسَاءَكَ، فَرَفَعَ بَصَرَهُ إِلَيَّ، فَقَالَ: «لاَ»، ثُمَّ قُلْتُ وَأَنَا قَائِمٌ: أَسْتَانِسُ يَا رَسُولَ اللهِ، لَوْ رَأَيْتَنِي وَكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى قَوْمٍ تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ، فَذَكَرَهُ فَتَبَسَّمَ النَّبِيُّ ﷺ، ثُمَّ قُلْتُ: لَوْ رَأَيْتَنِي، وَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ، فَقُلْتُ: لاَ يَغُرَّنَّكِ أَنْ كَانَتْ جَارَتُكِ هِيَ أَوْضَأَ مِنْكِ، وَأَحَبَّ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ يُرِيدُ عَائِشَةَ -، فَتَبَسَّمَ أُخْرَى، فَجَلَسْتُ حِينَ رَأَيْتُهُ تَبَسَّمَ، ثُمَّ رَفَعْتُ بَصَرِي فِي بَيْتِهِ، فَوَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ فِيهِ شَيْئًا يَرُدُّ البَصَرَ غَيْرَ أَهَبَةٍ ثَلاَثَةٍ، فَقُلْتُ: ادْعُ اللهَ فَلْيُوَسِّعْ عَلَى أُمَّتِكَ، فَإِنَّ فَارِسَ وَالرُّومَ وُسِّعَ عَلَيْهِمْ، وَأُعْطُوا الدُّنْيَا وَهُمْ لاَ يَعْبُدُونَ اللهَ، وَكَانَ مُتَّكِئًا فَقَالَ: «أَوَفِي شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ الخَطَّابِ؟! أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا»، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ
1 / 25
اللهِ، اسْتَغْفِرْ لِي، فَاعْتَزَلَ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ الحَدِيثِ حِينَ أَفْشَتْهُ حَفْصَةُ إِلَى عَائِشَةَ، وَكَانَ قَدْ قَالَ: «مَا أَنَا بِدَاخِلٍ عَلَيْهِنَّ شَهْرًا» مِنْ شِدَّةِ مَوْجِدَتِهِ عَلَيْهِنَّ حِينَ عَاتَبَهُ الله، فَلَمَّا مَضَتْ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ، دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ، فَبَدَأَ بِهَا، فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: إِنَّكَ أَقْسَمْتَ أَنْ لاَ تَدْخُلَ عَلَيْنَا شَهْرًا، وَإِنَّا أَصْبَحْنَا لِتِسْعٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً أَعُدُّهَا عَدًّا، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ»، وَكَانَ ذَلِكَ الشَّهْرُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ» (١).
[٦] وَمِنْ كَلاَمٍ لَهُ ﵁ في موافقاته لربه ﷿
«وَافَقْتُ رَبِّي ﷿ فِي ثَلَاثٍ، أَوْ وَافَقَنِي رَبِّي فِي ثَلَاثٍ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَوِ اتَّخَذْتَ الْمَقَامَ مُصَلًّى، فَأَنْزَلَ اللهُ ﷿: ﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾ [البقرة: ١٢٥]، وَقُلْتُ: لَوْ حَجَبْتَ عَنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّهُ يَدْخُلُ عَلَيْكَ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، فَأُنْزِلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ، وَبَلَغَنِي عَنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ شَيْءٌ فَاسْتَقْرَيْتُهُنَّ أَقُولُ لَهُنَّ: لَتَكُفُّنَّ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ أَوْ لَيُبْدِلَنَّهُ اللهُ بِكُنَّ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ، حَتَّى أَتَيْتُ عَلَى إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَتْ: يَا عُمَرُ، أَمَا
_________
(١) رواه البخاري في صحيحه (٢٤٦٨) ومسلم في صحيحه (١٤٧٩) والترمذي في السنن (٣٣١٨) وأحمد في المسند (٢٢٢) وابن حبان في صحيحه (٤١٨٧) و(٤٢٦٨)
1 / 26