الشريف الإدريسي
ولد «محمد بن محمد بن عبد الله بن إدريس بن يحيى بن علي بن حمود ابن ميمون بن أحمد بن علي بن عبيد الله بن عمر بن إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب»، المعروف بالشريف الإدريسي، والحمودي، والصقلي، والقرطبي في مدينة «سبتة» في المغرب سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة للهجرة (١١٠٠ م) . ومنها كان منطلقه إلى بلدان المغرب حيث نشأته الأولى بها بحثا عن العلم والمعرفة هناك، تماما كما كانت قرطبة- فيما بعد- نقطة انطلاق لجولات كثيرة في الأندلس إلى أن قدّر له الارتحال إلى المشرق العربي لزيارة مصر وغيرها، ثم العودة منه إلى «سبتة»، حيث استقدمه «رجار الثاني» - ملك صقلية- إليها سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة للهجرة (١١٣٨ م) . ليستقر بها، مقربا من بلاط الملك، الذي أكرم نزله، وبالغ في تعظيمه، بحيث كان يأتي إليه راكبا، فإذا صار عنده تنحى عن مجلسه، وأجلسه بجانبه، وقد رتبت له كفاية لا تكون إلا للملوك على حد قول «الصفدي» فيه.
ويبدو أن هذه المعاملة، وهذا العيش الرغد لم يتبدلا بعد وفاة «رجار» (ت ٥٤٨ هـ / ١١٥٤ م)، وأن «الإدريسي» قد عاش عيشة رغدة في كنف خلفه «غليالم الأول» - وإن تبدلت حال الدول- إلى أن قدرت وفاته هناك سنة ستين وخمسمائة للهجرة (١١٦٥- ٦٤ م)، على أرجح الأقوال.
آثاره
لم يكن الإدريسي جغرافيًا، خرائطيًا فقط، وإنما كان مع ذلك عالمًا متعدد المعارف والمهارات، تذكر له مشاركة في كثير من فروع العلم الأخرى، كالصيدلة، والطب، والنباتات، كما كان أديبا جيد الأدب، شاعرًا و..
يبدو أنه ترك في كلّ مؤلفات متعددة، وإن لم يبق منها أو من ذكراها سوى:
- الجامع لأشتات النبات، ويعرف كذلك باسمي: «المفردات»، و«الأدوية المفردة» .
- روض الأنس ونزهة النفس، أو المسالك والممالك.
- نزهة المشتاق في اختراق الآفاق.
Halaman tidak diketahui
[المجلد الاول]
الإدريسي وكتابه «نزهة المشتاق في اختراق الآفاق»
دراسة وتعريف
حياته:
ولد «محمد بن محمد بن عبد الله بن إدريس بن يحيى بن علي بن حمود ابن ميمون بن أحمد بن علي بن عبيد الله بن عمر بن إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب»، المعروف بالشريف الإدريسي، والحمودي، والصقلي، والقرطبي في مدينة «سبتة» في المغرب سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة للهجرة (١١٠٠ م)، ومنها كان منطلقه إلى بلدان المغرب حيث نشأته الأولى بها بحثا عن العلم والمعرفة هناك، تماما كما كانت قرطبة- فيما بعد- نقطة انطلاق لجولات كثيرة في الأندلس إلى أن قدّر له الارتحال إلى المشرق العربي لزيارة مصر وغيرها، ثم العودة منه إلى «سبتة»، حيث استقدمه «رجار الثاني» - ملك صقلية- إليها سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة للهجرة (١١٣٨ م) . ليستقر بها، مقربا من بلاط الملك، الذي أكرم نزله، وبالغ في تعظيمه، بحيث كان يأتي إليه راكبا، فإذا صار عنده تنحى عن مجلسه، وأجلسه بجانبه، وقد رتبت له كفاية لا تكون إلا للملوك- على حد قول «الصفدي» فيه.
ويبدو أن هذه المعاملة، وهذا العيش الرغد لم يتبدلا بعد وفاة «رجار» (ت ٥٤٨ هـ/ ١١٥٤ م)، وأن «الإدريسي» قد عاش عيشة رغدة في كنف خلفه «غليالم الأول» - وإن تبدلت حال الدول- إلى أن قدرت وفاته هناك سنة ستين وخمسمائة للهجرة (٦٤- ١١٦٥ م)، على أرجح الأقوال.
وللأول منهما كان قيامه بأعباء تصنيف «نزهة المشتاق»، حيث أمضى في جمع وترتيب مادته قرابة الخمسة عشر عاما، وللثاني كان اضطلاعه بتأليف «روض الأنس ونزهة النفس»، مختصرا فيه كتابه الأول.
€
المقدمة / 1
مصنفاته:
لم يكن الإدريسي- فيما نعلم- جغرافيا، خرائطيا- فقط- وإنما كان مع ذلك عالما متعدد المعارف والمهارات، تذكر له مشاركة في كثير من فروع العلم الأخرى، كالصيدلة، والطب، والنباتات، كما كان أديبا جيد الأدب، شاعرا..
يبدو أنه ترك في كلّ مؤلفات متعددة، وإن لم يبق منها أو من ذكراها سوى:
١- الجامع لأشتات النبات، ويعرف كذلك باسمي: «المفردات»، و«الأدوية المفردة» .
وهو مؤلف دال على علم واسع بالنباتات والأعشاب والأدوية، امتاز بالدقة في رسم أسماء العقار ووصف خصائصه، تحتفظ مكتبة الفاتح في استامبول بشطر منه، يحتوي على ثمان وأربعين ومائة ورقة، تحت رقم: ٣٦١٠، وعنه مصورة دار الكتب المصرية، ذات الرقم: ١٥٢٤.
٢- روض الأنس ونزهة النفس، أو المسالك والممالك، وهو مخط.
مفقود حتى الآن، وإن بقي له مختصران، أحدهما في مكتبة حكيم أوغلو في استانبول برقم: ٦٨٨، والآخر في دمشق، يحملان عنواني: «أنس المهج وروض الفرج»، أو «روض الفرج ونزهة المهج»، ويقع أولهما في اثنتين وستين ومائة ورقة.
٣- نزهة المشتاق في اختراق الآفاق، وهو هذا، والذي أشار في فاتحته إلى أنه فرغ من تأليفه- بعد خمسة عشر عاما- في شوال سنة ثمان وأربعين وخمسمائة للهجرة (يناير ١١٥٤ م) .
نزهة المشتاق في اختراق الآفاق:
رسم «الإدريسي» خريطة كروية شاملة للعالم- معتمدا فيها على خريطة «بطلميوس» بعد تصحيحها- مقسما محيط الكرة الأرضية طولا إلى عشرة أجزاء متساوية، بخطوط تبدأ من قطب الكرة الأعلى، وتنتهي عند قطبها الأسفل، جاعلا الخط الرئيس فيها هو الخط المار بالجزائر الخالدات في المحيط الأطلسي، ثم عمد إلى تقسيمها إلى سبعة أحزمة عرضية فوق خط الاستواء (تنقسم في داخلها إلى تسعين قسما أو درجة، منحصرة فيما بين خط الاستواء والقطب الشمالي)، وبذلك انقسمت خريطته إلى سبعين جزءا، نقلها إلى
€
المقدمة / 2
مستطيلات، عمد إلى شرحها والتعريف بها طبيعيا وبشريا في «النزهة»، مقسما كتابه إلى مقدمة مقتضبة، أتبعت بسبعة أبواب، ضمت في داخلها سبعين فصلا.
أما المقدمة، فقد اشتملت على:
١- ذكر هيئة الأرض، وقسمتها بأقاليمها، وذكر البحار بمبادئها وانتهاءاتها وأحوازها، وما يلي سواحلها من البلاد والأمم، وقد انبنت- في معظمها- على مفهومات علمية صحيحة عن كروية الأرض «والأرض في ذاتها مستديرة، لكنها غير صادقة الاستدارة»، وخط الاستواء «والأرض مقسومة بقسمين، بينهما خط الاستواء»، والأقاليم المناخية المتدرجة شمالا وجنوبا من خط الاستواء، واستطراق البحار بعضها إلى بعض، وتعادل منسوب الماء ...
وتلك مفهومات علمية يؤكد ثباتها في فكر موردها عدم تعارضها لديه بنظريات أخرى يترك لقارئ كتابه الموازنة فيما بينها في سبيل الحكم عليها أو الاختيار منها، كما فعل سابقوه من الجغرافيين والرحالة المسلمين في مؤلفاتهم.
٢- دافعه إلى تأليف كتابه هذا، وهو رغبة «رجار الثاني» - ملك صقلية- في الوقوف على حقيقة العالم، بكتاب مطابقي للخريطة الكروية المصورة له، «غير أنه يزيد عليها بوصف أحوال البلاد والأرضين في خلقها وبقاعها، وأماكنها، وصورها، وبحارها، وجبالها، ومسافاتها، ومزدرعاتها، وغلاتها، وأجناس بنائها، وخواصها، والاستعمالات التي تستعمل بها، والصناعات التي تنفق بها، والتجارات التي تجلب إليها وتحمل منها، والعجائب التي تذكر عنها وتنسب إليها، وحيث هي من الأقاليم السبعة، مع ذكر أحوال أهلها وهيئاتهم وخلقهم ومذاهبهم وزيهم وملابسهم ولغاتهم» .
٣- تنظيم الكتاب إلى أبواب سبعة، ينقسم كل منها في داخله إلى أجزاء عشرة.
٤- التنبيه على احتواء الكتاب على اثنتين وسبعين خريطة توضيحية- خلت هذه الطبعة منها- «... ورسمنا في كل واحد من هذه الأجزاء ما له من المدن والأكوار والعمارات، ليرى الناظر في ذلك ما خفي عن عيانه أو لم يبلغه علمه، أو لم يمكنه الوصول إليه لتعذر الطرقات واختلاف الأمم، فيصبح له الخبر بالعيان، ومبلغ أعداد هذه المصورات الآتية بعد هذا سبعون مصورة، غير
€
المقدمة / 3
النهايتين اللتين إحداهما نهاية المعمورة من جهة الجنوب، وأكثرها خلاء لشدة الحر وقلة المياه، والنهاية الثانية نهاية المعمورة في جهة الشمال، وأكثرها خلاء لشدة البرد، وأيضا بان مع ما ذكرناه وقدمنا وصفه أن الناظر إذا نظر إلى هذه الصفات المصورة والبلاد المذكورة رأى منها وضعا صحيحا وشكلا صبيحا، لكن يبقى عليه بعد ذلك أن يعلم صفات الممالك وهيئات الأمم وحلاها وزيها وطرقاتها المسلوكة بأميالها وفراسخها وعجائب بلادها» .
وأما الأبواب السبعة المتتالية، فقد خصّص كل باب منها للتعريف بإقليم من هذه الأقاليم «السبعة» المتعارف عليها في الجغرافية القديمة لدى «بطلميوس» ومن تابعه، مع توزيعها في داخلها على عشرة أجزاء، يسير في وصفها من الغرب إلى الشرق، ابتداء بالمحيط الأعظم (الأطلسي) عند الجزائر الخالدات، وانتهاء ببحر الصين، معتمدا في هذه الطريقة الوصفية على «المدن» كنقط ارتكاز للوصف، وكأنه يسير في رحلة في نواحي الجزء الذي يصفه.
وبهذا نجد أن «النزهة» قد امتازت عن غيرها من المؤلفات الجغرافية التراثية السالفة عليها بأنها تحمل تصورا عاما يشمل الكرة الأرضية كلها على أنها «كل واحد» جدير بالوصف والتحقيق، المبني على المشاهدة، والقياس، والمقارنة، والربط بين الأجزاء، مع مراعاة النسب فيما بينها، وإن أدى تقسيمها إلى أبواب وفصول إلى تقطيع البلد الواحد في أجزاء متناثرة في الأقاليم، يتطلب جمعها مجهودا خاصا.
مصادر مادة الكتاب:
أجمل «الإدريسي» في مقدمة كتابه جل مصادره، قائلا: «... فمن بعض معارفه (معارف رجار الثاني) السنية، ونزعاته الشريفة العلوية، أنه لما اتسعت أعمال مملكته، وتزايدت همم أهل دولته، وأطاعته البلاد الرومية، ودخل أهلها تحت طاعته وسلطانه، أحب أن يعرف كيفيات بلاده حقيقة، ويقتلها يقينا وخبرة، ويعلم حدودها ومسالكها برا وبحرا، وفي أي إقليم هي، وما يخصها من البحار والخلجان الكائنة بها، مع معرفة غيرها من البلاد والأقطار في الأقاليم السبعة التي اتفق عليها المتكلمون، وأثبتها في الدفاتر الناقلون والمؤلفون، وما لكل إقليم منها من قسم بلاد يحتوي عليه ويرجع إليه، ويعد منه، بطلب ما في الكتب المؤلفة في هذا الفن من علم ذلك كله، مثل: كتاب
€
المقدمة / 4
العجائب للمسعودي، وكتاب أبي نصر، سعيد الجيهاني، وكتاب أبي القاسم عبيد الله بن خرداذبة، وكتاب أحمد بن عمر العذري، وكتاب أبي القاسم محمد الحوقلي البغدادي، وكتاب خاناخ بن خاقان الكيماكي، وكتاب موسى بن قاسم القردي، وكتاب أحمد بن يعقوب المعروف باليعقوبي، وكتاب إسحاق بن الحسن المنجم، وكتاب قدامة البصري، وكتاب بطلميوس الأقلودي، وكتاب أرسيوس الأنطاكي.
فلم يجد ذلك فيها مشروحا مستوعبا مفصلا، بل وجده فيها مغفلا، فأحضر لديه العارفين بهذا الشأن، فباحثهم عليه، وأخذ معهم فيه، فلم يجد عندهم علما أكثر مما في الكتب المذكورة، فلما رآهم على مثل هذه الحال بعث إلى سائر بلاده، فأحضر العارفين بها المتجولين فيها، فسألهم عنها بواسطة جمعا وأفرادا، فما اتفق فيه قولهم، وصح في جمعه نقلهم، أثبته وأبقاه، وما اختلفوا فيه أرجأه وألغاه، وأقام على ذلك نحوا من خمس عشرة سنة لا يخلي نفسه في كل وقت من النظر في هذا الفن، والكشف عنه، والبحث عن حقيقته إلى أن تم له فيه ما يريده» .
ومن هذا النص على طوله نستنتج الآتي:
أولا- أن «النزهة» قد كتبت في ظروف غير اعتيادية، إذ هي تؤلف في جوّ علمي خالص، يعتمد على المكتوب والمسموع والمشاهد، وتلك بيئة علمية أتيحت لها في بلاط ملك عاشق لموضوعها، باحث عن معطياتها.
ثانيا- أن المصادر المصرح في المقدمة بالأخذ عنها قد كتبت في معظمها في القرن الرابع الهجري، بينما كان تحرير «النزهة» في القرن السادس الهجري، فهل كان هناك قصور لدى مؤلفها في الإحاطة بمصادر ما هو بصدد الكتابة فيه؟
هذا ما مال إليه البعض ممن تعرض للإدريسي بالتعريف، ولمؤلفه بالدراسة والبحث، وهو مما لا يتطابق مع الواقع الملموس، المتبدى في سائر مادة الكتاب، إذ جرت عادة المؤلفين المسلمين- فيما قبل وبعد الإدريسي- على الاقتصار في مقدمات مؤلفاتهم على التصريح ببعض المصادر دون بعض، مع الاختلاف النسبي في درجة الأهمية المكتسبة للمؤلف المصرح بالأخذ عنه، سواء بالنقل المتتابع عنه، أو بأهميته في ذاته.. كما أن مصادر «النزهة» غير
€
المقدمة / 5
المصرح بالأخذ عنها في المقدمة، قد نسب إلى معظمها في مادة الفصول والأبواب، كنحو إسناده إلى «الجاحظ» في كتابه «الحيوان» وغيره، بل نجده قد صرح من خلال مادة الكتاب- كذلك- بأسماء بعض المصادر التي اكتفى في المقدمة بذكر مؤلفيها إهمالا لمسمياتها، كنحو إسناده إلى «قدامة» في كتابه «الخزانة»، وليس «الخراج» كما توهم البعض.
ثالثا- أن جل اعتماد «الإدريسي» في جمع مادته على الجوالة والتجار، أو بمصطلح عصرنا «شاهد العيان»، ولذا كثيرا ما تطالعنا في ثنايا الكتاب مواد مسندة إلى هذا الصنف من المصادر، كنحو قوله: «ولقد أخبر بعض السفار الثقات، وكان قد تجول في بلاد السودان نحوا من عشرين سنة ...»، «...
وهذا مشهور معلوم، يعلمه تجار أهل تلك البلاد، ويحكونه عنهم»، «وحكى بعض المسافرين إلى مدائن كوار أن ...»، «حكى بعض المخبرين أن ...»،
«ونأتي فيه بما ذكره المتجولون، ونقله المسافرون، واتفقت عليه أقاويل الناقلين، حسب الطاقة ومبلغ الجهد» .
رابعا- أن كل ذلك قد امتزج امتزاجا طيبا بمشاهدات «الإدريسي» عينه، وخبراته كرحالة وجغرافي وخرائطي.
تقويم مادة الكتاب:
لم يقتصر «الإدريسي» في «النزهة» - كما قدمنا- على الجغرافية الطبيعية البحتة، بعناصرها، وإنما عني إلى جانبها بالجغرافية البشرية بشتى عناصرها المتاحة لديه، بما يخدم مجالات المعرفة الأخرى، من اجتماع ونظم وعقائد وتأريخ وأدب ... كما لم ينحصر دوره فيها على جمع وتنظيم المعلومات في أبواب وفصول، وإنما كان- علاوة عن ذلك- صاحب رؤية علمية، وذوق فطري سليم، صاحبا أكثر مادة الكتاب، وتبديا في عقد كثير من الموازنات بين ما شهرت به المدن لديه من بناء وعمارة، أو مزروعات ومعادن، أو معايش وتجارات، وما وصف به بعض الأجناس البشرية في مواضع بالجمال الفائق، وفي أخرى بالقبح الفاحش، مع التعليل في كل، وما تطرق إليه من تعديد أنواع الصنف الواحد من المخلوقات، والموازنة فيما بينها من خصائص وصفات، على نحو ما سوف يطالعك من تعديد للموز والأسماك والحديد، والتعريف ببعض الحيوانات، وطرقهم في تحصيل معايشهم بصيد «الأسماك» و«الحيتان»
€
المقدمة / 6
و«القردة»، أو استخراج «الملح» من الملاحات، أو جمع «القرنفل» و«العود»، وما يتطرق إليهما من الغش والتدليس.
يضاف إلى ذلك استبعاده لمئات من الخرافات التي وردت فيما اطلع عليه من مؤلفات، ورد الكثير منها بالمنطق المعقول، ومنه قوله:
«... وحكى الجاحظ في كتاب الحيوان أن هذه الدابة (الكركدّن) تقيم في جوف أمها سبع سنين، وأنها تخرج رأسها وعنقها من فرج أمها، فترعى الحشيش، ثم تعيد رأسها إلى جوف أمها، فإذا ابتدأ تكون قرنها امتنعت عن الخروج للرعي على حسب عادتها، فتنقر في جوف أمها حتى تبقر جوفها، وتخرج، فتموت الأم.
وهذا محال من قوله، غير مسموع، لأن الأمر لو كان كما وصفه لفني هذا النوع حتى لا يوجد إلا ذكره» .
وإن لم يسلم «الإدريسي» مع ذلك من التسليم ببعض الخرافات والأخطاء العلمية، التي أملتها عليه طبيعة العصر، وقصور ما تحت يديه من المصادر والروايات، كنحو قوله بجبل «قاف»، واعتقاده بثبات الأرض وسط قبة الهواء، ودوران الكواكب الأخرى حولها، وقتل بعض الحيات للناس بالنظر، والتسليم بولادة السلاحف والأسماك وإرضاعها لصغارها، ومسخ الظالمين إلى تماثيل حجرية، وتطاير الأقزام من البشر في الهواء إيذانا بإتيان الرياح.. وإن سلم في معظمها بأنها «عجائب يقع واصفها في حد التكذيب» أو أنها «أمور لا تقبلها العقول من جهة الإخبار عنها، لكن الله على ما يشاء قدير» .
ولذا تفاوتت القيمة العلمية لأجزاء الكتاب، تبعا لتفاوت ما توفر لمؤلفه من مادته، بحيث لا ترقى معلوماته عن «مصر» أو «الصين» إلى منزلة تلك الواردة بشأن «جزيرة العرب» و«المغرب» و«صقلية» و«الأندلس» ... وهكذا.
هذه الطبعة من الكتاب:
طبعت النزهة طبعات متعددة، كاملة أو منفصلة الأجزاء، متفاوتة طولا وقصرا، فكانت أقدمها على الإطلاق، تلك الطبعة العربية الصادرة في مدينة «ميديشتي» في روما سنة ١٥٩٢ م. باسم: «نزهة المشتاق في ذكر الأمصار والأقطار والبلدان والجزر والمدائن والآفاق» وهي طبعة مكتملة نسبيا، وإن شابتها أخطاء كثيرة، اعتنى بإبرازها كثير من المستشرقين.
€
المقدمة / 7
كما طبعت أجزاء متفرقات منها في كل من: «باريس» سنة ١٦١٩ م، و«مدريد» سنة ١٧٩٩ م، و«لبسك» سنة ١٨٢٨ م، و«ليون» سنة ١٨٦٤ م، و«مدريد» سنة ١٨٨١ م، و«روما» سنة ١٨٨٥ م.
ثم سعى «المعهد الإيطالي للشرق الأدنى والأقصى» في روما، في جمع مصورات الكتاب المخطوطة، ونشرها على أيدي أساتذة متخصصين، فصدر الكتاب في تسعة أجزاء فيما بين سنتي ١٩٧٠ و١٩٨٤ م اشتملت الثمانية الأولى منه على متن الكتاب، بينما خصص تاسعها للفهارس العلمية.
وحرصا من «عالم الكتب» على توفير نشرة علمية من هذا الكتاب القيم لقرائها الأعزاء، فإنها قامت بضم أجزاء هذا الكتاب إلى بعضها في مجلدين اثنين، روعي فيهما القسمة العلمية، بحيث ينتهي كل مجلد منهما بنهاية آخر الأبواب أو الأقاليم المبحوثة فيه، مع الحفاظ على الترقيم الأصلي لصفحات الكتاب، باعتبار هذه الطبعة هي الطبعة العلمية المرجوع إليها حتى الآن لدى الباحثين والدارسين؛ وإن عدلت في هذه الطبعة أرقام الصفحات لتأتي بأرقام عربية، متتابعة من اليمين إلى اليسار، مع تعريب عنوانات الأبواب والفصول، فضلا عن إعادة صف الفهارس بالحروف الطباعية العربية المناسبة لطبيعة القارئ العربي وذوقه، والذي تسعى الدار- دائما- إلى تزويده بكل ما هو جيد ومفيد في بابه.
وبالله التوفيق، ومنه العون والسداد.
الناشر
المقدمة / 8
مقدّمة المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم
الحمد لله ذي العظمة والسلطان والطول والامتنان والفضل والإنعام والآلاء الجسام الذي قدر فحكم ورزق فأنعم وقضى فأبرم ودبر فأتقن وذرأ وبرأ فأحسن ما صور فاتصلت بالعقول معرفته وقامت في النفوس حجته ووضح للعيون برهانه وقهر الألباب قدرته وسلطانه الهادي إلى سبيل عزه تفضلا وإرشادا والدالّ على ارتباط النعم به قولا واعتقادا جاعل عجائب مخلوقاته وبدائع مصنوعاته سبيلا إلى معرفته وسلما إلى علم قدمه وأزليته وإن في بعض ما خلق لعبرة لأولي الأبصار وذكرى لذوي الخواطر الصقيلة والأفكار فمن آياته خلق السماوات والأرض فأما السماء فرفع سمكها ونظم سلكها وزينها بالنجوم وجعل فيها الشمس والقمر آيتين يستضاء بهما في الليل والنهار ويستعلم بمجاريهما تعاقب الدهور والأعصار فأما الأرض فبسط مهادها وأرسى أطوادها وأخرج منها ماءها ومرعاها وأسكنها خلقه فبوأهم أملاكها وأجرى لهم أفلاكها وعرفهم مسالكها وعلمهم منافعها ومضارها وهداهم إلى السير فيها برا وبحرا وسهلا ووعرا كل ذلك منه جلت قدرته بحكمة وتدبير ومشيئة وتقدير فتعالى من هذا ملكه وسلطانه وصنعه وبرهانه.
فإن أفضل ما عني به الناظر واستعمل فيه الأفكار والخواطر ما سبق (إليه)
1 / 3
الملك المعظم رجار المعتز بالله المقتدر بقدرته ملك صقلية وإيطالية وانكبردة وقلورية (معز) إمام رومية الناصر للملة النصرانية إذ هو خير من ملك الروم بسطا وقبضا وصرف الأمور على إرادته إبراما ونقضا ودان في ملته بدين العدل واشتمل عليهم بكنف التطول والفضل وقام بأسباب مملكته أحسن قيام وأجرى سنن دولته على أفضل نظام وأجمل التيام وافتتح البلاد شرقا وغربا وأذل رقاب الجبابرة من أهل ملته بعدا وقربا بما يحويه من جيوش متوفرة العدد والعدد وأساطيل متكاثفة متناصرة المدد صدق فيها الخبر الخبر وتساوى في معرفتها السمع والبصر فأي غرض بعيد لم يصل إليه ولم يخطر عليه وأي مرام عسير لم يحظ به ولم يتيسر لديه إذ الأقدار جارية بوفق مبتغياته وإراداته والسعادات خادمة له ومتصرفة على اختياره في حركاته وسكناته فأولياؤه أبدا في عز قعسري شائع وأعداؤه في ذل وبوار متتابع فكم مراتب فخر شيد أركانها وكم مزايا همم أطلع أقمارها ونور أقطارها وصير حدائقها روضا زهيا وغرسا زكيا ثم جمع إلى كرم الأخلاق طيب الأعراق وإلى جميل الأفعال حسن الخلال مع شجاعة النفس وصفاء الذهن وغور العقل ووفور الحلم وسداد الرأي والتدبير والمعرفة بتصاريف الأمور من نهاية الفهم الثاقب ومراميه كالسهم الصائب ومقفلات الخطوب مستفتحة لديه وجميع السياسات وقف عليه ونوماته يقظات الأنام وأحكامه أعدل الأحكام وعطاياه البحار الزواخر والغيوث المواطر.
1 / 4
وأما معرفته بالعلوم الرياضيات والعمليات فلا تدرك بعدّ ولا تحصر بحدّ لكونه قد أخذ في كل فن منها بالحظ الأوفى وضرب فيه بالقدح المغلى ولقد اخترع من المخترعات العجيبة وابتدع من الابتداعات الغريبة ما لم يسبقه أحد من الملوك إليه ولا تفرد به وها هي ظاهرة للعيان واضحة الدليل والبرهان ومسيرها في الأمصار وانتشار ذكرها في جميع النواحي والأقطار أغنانا عن ذكرها مفصلة ومتنوعة والإتيان بها متفرقة لا مجتمعة مع أنا لو ذهبنا إلى وصفها وأعملنا الفكرة في تسطيرها ورصفها لبهرتنا آياته المعجزة معانيها المتعززة مراميها ومن ذا الذي يحصي عدد الحصى ويبلغ فيه إلى الغرض الأقصى.
فمن بعض معارفه السنية ونزعاته الشريفة العلوية أنه لما اتسعت أعمال مملكته وتزايدت همم أهل دولته وأطاعته البلاد الرومية ودخل أهلها تحت طاعته وسلطانه أحب أن يعرف كيفيات بلاده حقيقة ويقتلها يقينا وخبرة ويعلم حدودها ومسالكها برا وبحرا وفي أي إقليم هي وما يخصها من البحار والخلجان الكائنة بها مع معرفة غيرها من البلاد والأقطار في الأقاليم السبعة التي اتفق عليها المتكلمون وأثبتها في الدفاتر الناقلون والمؤلفون وما لكل إقليم منها من قسم بلاد يحتوي عليه ويرجع إليه ويعد منه بطلب ما في الكتب المؤلفة في هذا الفن من علم ذلك كله مثل كتاب العجائب للمسعودي وكتاب أبي نصر سعيد الجيهاني وكتاب أبي القاسم عبيد الله بن خرداذبه وكتاب أحمد بن عمر العذري وكتاب أبي القاسم محمد الحوقلي البغدادي وكتاب خاناخ بن خاقان الكيماكي وكتاب موسى بن قاسم القردي وكتاب أحمد بن يعقوب المعروف باليعقوبي وكتاب
1 / 5
إسحاق بن الحسن المنجم وكتاب قدامة البصري وكتاب بطلميوس الأقلودي وكتاب أرسيوس الأنطاكي.
فلم يجد ذلك فيها مشروحا مستوعبا مفصلا بل وجده فيها مغفلا فأحضر لديه العارفين بهذا الشان فباحثهم عليه وأخذ معهم فيه فلم يجد عندهم علما أكثر مما في الكتب المذكورة فلما رآهم على مثل هذه الحال بعث إلى سائر بلاده فأحضر العارفين بها المتجولين فيها فسألهم عنها بواسطة جمعا وأفرادا فما اتفق فيه قولهم وصح في جمعه نقلهم أثبته وأبقاه وما اختلفوا فيه أرجاه وألغاه وأقام على ذلك نحوا من خمس عشرة سنة لا يخلي نفسه في كل وقت من النظر في هذا الفن والكشف عنه والبحث عن حقيقته إلى أن تم له فيه ما يريده ثم أراد أن يستعلم يقينا صحة ما اتفق عليه القوم المشار إليهم في ذكر أطوال مسافات البلاد وعروضها فأحضر إليه لوح الترسيم وأقبل يختبرها بمقاييس من حديد شيئا فشيئا مع نظره في الكتب المقدم ذكرها وترجيحه بين أقوال مؤلفيها.
وأمعن النظر في جميعها حتى وقف على الحقيقة فيها فأمر عند ذلك بأن تفرغ له من الفضة الخالصة دائرة مفصلة عظيمة الجرم ضخمة الجسم في وزن أربع مائة رطل بالرومي في كل رطل منها مائة درهم واثنا عشر درهما فلما كملت أمر الفعلة أن ينقشوا فيها صور الأقاليم السبعة ببلادها وأقطارها وسيفها وريفها وخلجانها وبحارها ومجاري مياهها ومواقع أنهارها وعامرها وغامرها وما بين كل بلد منها وبين غيره من الطرقات المطروقة والأميال المحدودة والمسافات المشهودة والمراسي المعروفة على نص ما يخرج إليهم ممثلا في لوح الترسيم ولا يغادروا منه شيئا ويأتوا به على هيئته وشكله كما يرسم لهم فيه وأن يؤلفوا كتابا مطابقا لما في أشكالها
1 / 6
وصورها غير أنه يزيد عليها بوصف أحوال البلاد والأرضين في خلقها وبقاعها وأماكنها وصورها وبحارها وجبالها ومسافاتها ومزدرعاتها وغلاتها وأجناس بنائها وخواصها والاستعمالات التي تستعمل بها والصناعات التي تنفق بها والتجارات التي تجلب إليها وتحمل منها والعجائب التي تذكر عنها وتنسب إليها وحيث هي من الأقاليم السبعة مع ذكر أحوال أهلها وهيئاتهم وخلقهم ومذاهبهم وزيهم وملابسهم ولغاتهم وأن يسمى هذا الكتاب بكتاب نزهة المشتاق في اختراق الآفاق وكان ذلك في العشر الأول من ينير الموافق لشهر شوال الكائن في سنة ثمان وأربعين وخمس مائة فأمتثل فيه الأمر وأرتسم الرسم.
وأول ما أبتدئ به من ذلك الكلام على صورة الأرض المسماة بالجغرافية كما سماها بطلميوس ووصفها به ومن الله نستمد المعونة والتوفيق والتسديد في كل منهج وطريق فهو جلت قدرته بذلك جدير وعليه قدير.
فنقول إن الذي تحصل من كلام الفلاسفة وجلة العلماء وأهل النظر في علم الهيئة أن الأرض مدورة كتدوير الكرة والماء لاصق بها وراكد عليها ركودا طبيعيا لا يفارقها والأرض والماء مستقران في جوف الفلك كالمحة في جوف البيضة ووضعهما وضع متوسط والنسيم محيط بهما من جميع جهاتهما وهو لهما جاذب إلى جهة الفلك أو دافع لهما والله أعلم بحقيقة ذلك.
والأرض مستقرة في جوف الفلك وذلك لشدة سرعة حركة الفلك وجميع المخلوقات على ظهرها والنسيم جاذب لما في أبدانهم من الخفة والأرض جاذبة لما في أبدانهم
1 / 7
من الثقل بمنزلة حجر المغنيطس الذي يجذب الحديد إليه.
والأرض مقسومة بقسمين بينهما خط الاستواء وهو من المشرق إلى المغرب وهذا هو طول الأرض وهو أكبر خط في الكرة كما أن منطقة البروج أكبر خط في الفلك واستدارة الأرض في موضع خط الاستواء ثلاث مائة وستون درجة والدرجة خمسة وعشرون فرسخا والفرسخ اثنا عشر ألف ذراع والذراع أربعة وعشرون أصبعا والأصبع ستّ حبّات شعير مصفوفة ملصقة بطون بعضها لظهور بعض فتكون بهذه النسبة إحاطة الأرض مائة ألف ألف ذراع واثنين وثلاثين ألف ألف ذراع وتكون من الفراسخ أحد عشر ألف فرسخ هذا بحساب أهل الهند وأما هرمس فإنه قدر إحاطة الأرض وجعل لكل جزء مائة ميل (ف) تكون بذلك ستة وثلاثين ألف ميل وتكون من الفراسخ اثني عشر ألف فرسخ وبين خط الاستواء وكل واحد من القطبين تسعون درجة واستدارتها عرضا مثل ذلك.
إلا أن العمارة في الأرض بعد خط الاستواء أربع وستون درجة والباقي من الأرض خلاء لا عمارة فيه لشدة البرد والجمود والخلق بجملته على الربع الشمالي من الأرض وأيضا فإن الربع الجنوبي وهو الذي فوق خط الاستواء غير مسكون ولا معمور لشدة الحر به دائما على سمته فجفت مياهه وعدم حيوانه ونباته لعدم الرطوبة لأنه لا يكون الحيوان والنبات أبدا إلا حيث تكون المياه والرطوبات.
والأرض في ذاتها مستديرة لكنها غير صادقة الاستدارة فمنها منخفض ومرتفع والماء يجري فيها من أرفعها إلى أخفضها والبحر المحيط يحيط بنصف الأرض إحاطة متصلة دائرتها كالمنطقة لا يظهر منها إلا نصفها فكأنها عند الصفة بيضة مغرقة في
1 / 8
الماء والماء في طست فكذلك الأرض نصفها مغرق في البحر والبحر يحيط به الهواء والهواء دافع لهما أو جاذب كالذي قلناه قبل هذا.
وهذا الربع المسكون من الأرض قسمته العلماء سبعة أقاليم كل إقليم منها مار من المغرب إلى المشرق على خط الاستواء وليست هذه الأقاليم بخطوط طبيعية لكنها خطوط وهمية محدودة موجودة بالعلم النجومي وفي كل إقليم منها عدة مدن وحصون وقرى وأمم لا يشبه بعضهم بعضا وأيضا فإن في كل إقليم منها جبالا شامخة ووهادا متصلة وعيونا وأنهارا جارية وبركا راكدة ومعادن ونباتات وحيوانات مختلفة وسنذكر أكثر ذلك فيما يأتى ذكره بعد بعون الله وتأييده.
وتخترق هذه الأقاليم السبعة سبعة أبحر تسمى خلجانا ستة منها متصلة وبحر واحد منفصل لا يتصل بشيء من البحور المذكورة وأحد هذه البحور التي في الأرض المعمورة هو بحر الصين والهند والسند واليمن ومبدؤه من جهة المشرق فوق خط الاستواء بثلاث عشرة درجة ممتد مع خط الاستواء إلى جهة المغرب فيمر بالصين أوّلا ثم بالهند ثم بالسند ثم باليمن على جنوبها وينتهي إلى باب المندب وهناك مبلغ طوله وطوله على هذه المسافات فيما حكاه الثقات المسافرون والبحريون الخائضون فيه المقلعون من بلد إلى بلد من مبدأ بحر القلزم إلى الواق واق أربعة آلاف فرسخ وخمس مائة فرسخ وفيه من الجزائر نحو ثلاث مائة جزيرة بين عامرة وخالية وسنذكر منها بعد هذا ما اتصل بنا علمه وصحت الأخبار عنه.
ويتشعب من هذا البحر الصيني الخليج الأخضر وهو بحر فارس والأبلة وممره من الجنوب إلى الشمال مغربا قليلا فيمر بغربي بلاد السند ومكران وكرمان وفارس
1 / 9
إلى أن ينتهي إلى الأبلة حيث عبادان وهناك ينتهي آخره ثم ينعطف ريفه راجعا إلى جهة الجنوب فيمر ببلاد البحرين وأرض اليمامة ويتصل بعمان وأرض الشحر من بلاد اليمن وهناك اتصاله بالبحر الصيني وطول هذا البحر أربع مائة فرسخ وأربعون فرسخا وفيه جبلا عوير وكسير وعمقه سبعون باعا إلى ثمانين باعا وفيه من الجزائر تسع جزائر بين عامرة وخالية وسنذكرها فيما يأتي ذكره بعون الله سبحانه.
ويتشعب أيضا من هذا البحر الصيني خليج القلزم ومبدؤه من باب المندب وحيث انتهى البحر الهندي فيمر في جهة الشمال مغربا قليلا فيتصل بغربي اليمن ويمر بتهامة والحجاز إلى مدين وأيلة وفاران حتى ينتهي إلى مدينة القلزم وإليها ينسب ثم ينعطف ريفه راجعا في جهة الجنوب فيمر بشرقي بلاد الصعيد إلى جون الملك ثم يأتي إلى عيذاب إلى جزيرة سواكن إلى زالغ من بلاد البجة وينتهي إلى بلاد الحبشة ويتصل بالبحر الهندي وطول هذا البحر ألف ميل وأربع مائة ميل وأكثر قعر هذا البحر أقاصير تتلف عليها المراكب فلا يركبه إلا الربانيون العالمون بأقاصيره المختبرون لطرقه ومجاريه وفيه من الجزائر خمس عشرة جزيرة وسنذكرها على التقصي في موضع ذكرها بعون الله.
وأما البحر الثاني الكبير المعروف بالبحر الشامي فإن مخرجه من البحر المظلم الذي في جهة المغرب ومبدؤه في الإقليم الرابع ويسمى هناك بحر الزقاق لأن سعته هناك تكون ثمانية عشر ميلا وكذلك طول الزقاق من جزيرة طريف إلى الجزيرة الخضراء أيضا ثمانية عشر ميلا فيمر مشرقا في جهة بلاد البربر وبشمال
1 / 10
المغرب الأقصى إلى أن يمر بالمغرب الأوسط ويصل إلى أرض إفريقيا إلى وادي الرمل إلى أرض برقة وأرض لوبية ومراقية إلى أرض الاسكندرية إلى شمال أرض التيه إلى أرض فلسطين وسائر بلاد الشام إلى أن ينتهي طرفه إلى السويدية وهو نهايته ومن هناك ينعطف ريفه راجعا فيمر ببلاد أنطاكية إلى جهة المغرب فيتصل بالخليج القسطنطيني إلى جزيرة بلبونس إلى أذرنت وهناك مخرج الخليج البنادقي ويتصل إلى مجاز صقلية إلى بلاد رومية إلى بلاد سغونة وأربونة ويجتاز بجبل البرتات فيمر بشرقي بلاد الأندلس إلى جنوب وسطها وينتهي إلى الجزيرتين من حيث بدأ وطول هذا البحر الشامي من ابتدائه إلى حيث انتهاؤه ألف فرسخ ومائة وستة وثلاثون فرسخا وفيه من الجزائر نحو من مائة جزيرة بين صغار وكبار ومعمورة وخالية وسنذكرها إذا أتى موضع ذكرها بعون الله تعالى.
ويخرج من هذا البحر الشامي خليجان أحدهما خليج البنادقيين ومبدؤه من شرقي بلاد قلورية من بلاد الروم من عند مدينة أذرنت فيمر في جهة الشمال مع تغريب يسير فيمر بأرض باري إلى ساحل شنت انجل ثم يأخذ من جهة المغرب إلى بلاد أنقونة إلى أن يمر بساحل البنادقة وينتهي طرفه إلى بلاد ايكلاية ومن هناك ينعطف ريفه راجعا مع الشرق على بلاد جرواسية و(د) لماسية وبلاد اسقلونية إلى أن يتصل بالبحر الشامي من حيث ابتدأ وطول هذا الخليج من حيث ابتدأ إلى أقصى انتهائه ألف ميل ومائة ميل وفيه من الجزائر خمس عشرة جزيرة منها ستة
1 / 11
معمورة والباقية خالية وسنذكر ذلك في موضعه.
ويخرج أيضا من البحر الشامي الخليج الثاني المسمى بحر نيطس ومبدؤه من البحر الشامي حيث فم أبذه وعرض فوهته هناك رمية سهم ويمر مجريان فيتصل بالقسطنطينية فيكون عرضه عندها أربعة أميال ويمر كذلك ستين ميلا حتى يصل إلى بحر نيطس وعرض فوهته هناك ستة أميال ويمر بحر نيطس في جهة المشرق فيتصل من جهة الجنوب بأرض هرقلية إلى أرض استروبلي إلى سواحل اطرابزندة إلى أرض أشكالة إلى أرض لانية وينتهي طرف هذا الخليج هناك حيث الخزرية ومن هناك ينعطف ريفه راجعا إلى مطرخة ويتصل ببلاد الروسية وبلاد برجان وموقع نهر دنابرس ويمر إلى موقع نهر دنو إلى أن ينتهي إلى مضيق فم الخليج القسطنطيني ويتصل بالقسطنطينية ويمر بشرقي بلاد مقدونية إلى أن يتصل بالموضع الذي بدأ منه وطول بحر نيطس من فم المضيق إلى حيث انتهاؤه ألف ميل وثلاث مائة ميل وفيه ست جزائر وسنذكرها عند وصولنا إلى ذكرها بعون الله سبحانه.
وأما بحر جرجان والديلم فإنه بحر منقطع لا يتصل بشيء من البحار المذكورة وتقع فيه أنهار كثيرة وعيون دائمة الجري ويتصل بهذا البحر من جهة المشرق أرض الأغزاز ومن جهة الشمال أرض الخزر ومن جهة المغرب بلاد أذربيجان والديلم ومن جهة الجنوب بلاد طبرستان وطوله من جهة الخزر إلى عين ألهم ألف ميل وعرضه من ناحية جرجان إلى موقع نهر إثل ست مائة ميل وخمسون ميلا وفيه
1 / 12
من الجزائر أربع وسيأتي ذكرها فيما بعد.
وعلى كل بحر من جميع البحور التي قدمنا ذكرها بلاد وأمم سنأتي بذكرها مشروحا موضوحا بلدا بلدا وأمة أمة بعون الله سبحانه وفي هذه البحور أيضا أنواع من الحيتان والحيوانات المختلفة الصفات ومن العجائب ما سنأتي بأوصافه في مواضع ذكره بعون الله سبحانه.
وإذ قد فرغنا من ذكر هيئة الأرض وقسمتها بأقاليمها وذكر البحار التي وصفنا مباديها وانتهاءاتها وأحوازها وما يلي سواحلها من البلاد والأمم وذلك بالقول الوجيز فلنبدأ الآن بذكر الأقاليم السبعة وما يحتوي عليه من البلاد والأمم والعجائب إقليما إقليما وبلدا بلدا ونذكر ما تشتمل عليه ممالكها ونأتي بطرقاتها ومسالكها ومبلغ فراسخها وأميالها ومجاري أنهارها وعلو بحارها وسلوك قفارها كل ذلك مشروحا موضوحا باستقصاء من القول مع الايجاز بغاية الجهد ومبلغ الطاقة وبالله التوفيق ومنه العون وله القوة والحول.
ولما أردنا رسم هذه المدن في الأقاليم ومسالكها وما تحتوي عليه أممها قسمنا طول كل إقليم منها على عشرة أقسام أجزاء مقدرة من الطول والعرض ورسمنا في كل واحد من هذه الأجزاء ما له من المدن والأكوار والعمارات ليرى الناظر في ذلك ما خفي عن عيانه أو لم يبلغه علمه أو لم يمكنه الوصول إليه لتعذر الطرقات واختلاف الأمم فيصح له الخبر بالعيان ومبلغ أعداد هذه المصورات الآتية بعد هذا سبعون مصورة غير النهايتين اللتين إحداهما نهاية المعمور في جهة الجنوب وأكثرها خلاء لشدة الحر وقلة المياه والنهاية الثانية نهاية المعمور في جهة الشمال وأكثرها خلاء لشدة البرد وأيضا بان مع ما ذكرناه وقدمنا وصفه أن الناظر إذا نظر إلى هذه الصفات المصورة
1 / 13