نزهة الأنظار في عجائب التواريخ والأخبار
تأليف
محمود مقديش
تحقيق
علي الزواري - محمد محفوظ
دار الغرب الإسلامي
Halaman tidak diketahui
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تصدير
مضت سنوات منذ أن خامرتنا الفكرة الأولى في تحقيق «نزهة الأنظار» ثم العزم على القيام بهذا التحقيق ومحاولة العمل عليه، فاستحال لعدم حصولنا على نسخة من مخطوطة شيخ الإسلام أحمد عارف حكمت بالمدينة المنورة وهي ضرورية، ثم الشروع فيه لما تيسرت الظروف وحصلت لدينا نسخة من هذه المخطوطة بفضل صاحب دار الغرب الإسلامي السيد الحبيب اللمسي، جزاه الله كل خير.
ولم يكن استقرار عزمنا بدون تردد، هل هذا الكتاب، الذي طبع بالحجر في سنة ١٣٢١/ ١٩٠٣ م، لما كانت الطباعة والنشر في تونس في الخطوات الأولى، يستحق ترك مشاغلنا وتخصيص كل أوقاتنا له، والعناء الطويل، لينشر بين الناس باحثين وقراء؟
وللمختصين، آراء مختلفة في «نزهة الأنظار»، وبعضهم ممن تباحثنا معهم في الموضوع يرون فيها أثرا لا يستحق الإهتمام والجهد والنشر لإعتبارهم أن مؤلفها نقل عن غيره دون اجتهاد من نفسه، ولا يمكن فعلا لأي قارئ أن يكون له غير هذا الرأي إن اكتفى بتقليب الجزء الأول من هذا الأثر، ومع ذلك خالف الصغير نور الدين هذه الآراء. وقال: «إن النقل الذي قام به مقديش من المصادر التي كتبها أسلافه جعلته يكتب كتابا رائعا ممتازا» (١).
وعند بقية الناس، في مدينة صفاقس، خاصة يعتبر هذا الكتاب من النفائس المفقودة المطلوبة - وكل مفقود نفيس - ويعتبره هؤلاء الناس، معدن أخبار صفاقس ورجالها وعائلاتها، ومن له نسخة أو وريقات منه صار يعتز بها،
_________
(١) Temps et espace chez Maqdish - أطروحة دكتوراه مرحلة ثالثة، مرقونة، جامعة السربون، سنة ١٩٨٣ - ١٩٨٤ ص: ٤٢.
مقدمة / 5
ويخفيها، ويتباهى بها، ويضن بها على من شوقوه إليها، فصار الكتاب أسطورة.
وتعطش الناس إليه توالى على مر الزمن، ومرجعه إلى فقدانه من أصله، إذ صادرته الحكومة التونسية لما ظهر، ولعل سبب ذلك ما أبداه مؤلفه فيه من تقدير لعلي باشا الأول المنازع لسلطة عمه حسين بن علي وذريته، حكام تونس، فقال كراتشكوفسكي في ذلك: «ويبدو أنه قد مسّ مسائل معاصرة لأن حكومة تونس صادرته على الفور ولم ينشر الكتاب» (٢). وكتب أحمد بن أبي الضياف عن قلة انتشار تآليف مقديش رغم معرفة الناس له فقال: «وكتب تاريخه المعروف ولم نر تآليفه لأنها لم تصل إلى حاضرة تونس» (٣)، وكما قال محمد مخلوف في نفس الإتجاه: «وتاريخه غالبه في صفاقس وعلمائها» (٤).
ويرجع تعطش الناس إلى هذا المؤلف أيضا إلى مادة الكتاب، فالمؤلف أرخ لمدينته، بناء على طلب كما ذكر في مقدمته، وفي اتجاه معين يستجيب لميول دينية، وبطولية وملحمية، وخرافية كما نفهم من اختياره، وتقصيره أو تمديده لمختلف مواد الكتاب، ويستجيب لمستويات متوسطة في الفهم والثقافة باستعمال لغة بين العامية والفصحى، فنزهة الأنظار كتاب تاريخ، وأسطورة، ومعتقد ديني، وأخبار اجتماعية، يقرأ ويحكى، الوحيد في شكله الذي يداعب شعور أهل صفاقس ويستجلبهم للبحث فيه عن ذاتهم وأصولهم، لعدم مزاحم له.
وشغف الناس بالمفقود، وارضاء طلباتهم المتكررة لنشره، سبب من الأسباب التي دعتنا لتحقيقه، وليس السبب الوحيد ولا الأساسي، فالذي دعانا إلى تحقيقه أساسا، وإرضاء رغبات الناس في آن واحد، سببان متكاتفان:
استعماله كمرجع للبحث التاريخي، وإصلاح الأخطاء التي وردت في مخطوطاته، وخاصة النسخة المطبوعة المستعملة لدى الباحثين.
فنزهة الأنظار كتاب له قيمة لا يمكن نكرانها رغم نقائصه التي سنبينها في المقدمة، وإن كانت فائدة الجزء الأول من الكتاب محدودة فإن الجزء الثاني له أهمية خاصة وأهمه الخاتمة التي يؤرخ فيها المؤلف لمدينته، وهي ثلث الكتاب بجزئيه وهو في هذا ينفرد بما لم يسبقه إليه غيره، ولا من لحق بعده من المؤرخين، فيضيف عن طريق التاريخ الجهوي، الذي أخذ حديثا مكانته في مفاهيم التاريخ الحديث،
_________
(٢) تاريخ الأدب الجغرافي عند العرب، ترجمة صلاح الدين عثمان هاشم، القاهرة ١٩٦٣، ٢/ ٧٦٨.
(٣) إتحاف أهل الزمان، تونس ١٩٦٥، ٧/ ٨٦.
(٤) شجرة النور الزكية، ص: ٣٦٦.
مقدمة / 6
أضواء جديدة على التأريخ التونسي، فمدينة صفاقس جزء من التراب التونسي، وتاريخها جزء من تاريخ هذه البلاد، ولون من ألوانه.
وبهذا أخذ محمود مقديش مكانته بين المؤرخين التونسيين، فترجم له ابن أبي الضياف في الإتحاف، ومحمد مخلوف في شجرة النور الزكية، وكراتشكوفسكي في الأدب الجغرافي، ونالينو (Nallino) في مقالة طويلة نشرها ضمن مئوية أماري (٥) وأدرجه أحمد عبد السلام ضمن المؤرخين التونسيين في أطروحته (٦)، ومحمد محفوظ في تراجم المؤلفين التونسيين (٧)، وغيرهم، وأخذ كتابه «نزهة الأنظار» مكانه بين كتب التراث التاريخي، وصار يستعمل مرجعا في كتابة التاريخ الحديث المتعلق بالمدن، والإقتصاد، والإجتماع، وعلاقة المغرب بالمشرق أثناء القرن الثامن عشر، وقلما تنشر دراسة في هذه الأبواب دون الإشارة إليه والإعتماد عليه، وخصص له الصغير نور الدين أطروحة دكتوراه، المرحلة الثالثة ناقشها في جامعة السربون سنة ١٩٨٣ - ١٩٨٤ سمّاها» «Temps et espace chez Maqdish»: الزمان والفضاء عند مقديش» وقال فيها اعتمادا على محمد الهادي الشريف في مقالته حول التاريخ الإقتصادي والإجتماعي التونسي في القرن الثامن عشر من خلال المصادر المحلية (٨) «إنّ كتاب مقديش له ميزة خاصة، اعتبارا للمصادر المختلفة التي نقل عنها، وهو يمثل في آن واحد عملا فريدا متميزا لأن مؤلفه ينتمي إلى مدينة ثانوية، وله ارتباط بالوسط التجاري، ولأنه مثقف أيضا يمتثل في كتابته للقواعد التقليدية» (٩).
فإن كان هذا هو اعتبار الكتاب واستعماله، فمن المفيد بل من اللازم تنقيح هذا المرجع وتيسير استعماله، وعلى ذلك عزمنا وشرعنا أملنا التوفيق والإفادة، وبالله نستعين، وعليه نتوكل.
_________
(٥) Venezia a Sfax Nel Secolo XVIII Secondo il crovista arabo Maqdish.
(٦) Les historiens tunisiens des XVII،XVIII et XIX siecles باريس ١٩٧٣.
(٧) دار الغرب الإسلامي، ٤/ ٣٥٦ - ٣٦٤.
(٨) «L' histoire economique et sociale de la Tunisie au XVIII siecle a travers les sources locales»، in: les arabes par leurs archives de J. Becque، pp. ١١٦ - ١١٧
(٩) المصدر السابق، ص: ٤١.
مقدمة / 7
المقدّمة
١) فكرة عن الحياة العلمية والثقافية بصفاقس في عصر المؤلف
لقد عرفت الحركة العلمية والتعليمية في البلاد التونسية تراخيا ثم ركودا في أواخر أيام الدّولة الحفصية، بعد أيام عزّ وتقدم، حملت رايتها تونس مركز الإمارة، وتحول هذا التراجع الذي سببته الفتن وتدهور الحياة السياسية والإقتصادية، وغموض المصير إلى نكسة خطيرة مع الإحتلال الإسباني، فهاجر علماء تونس، وحرمت البلاد من شعاع هذه المدينة عليها.
ومدينة صفاقس لم تكن أوفر حظّا من بقية البلاد، فقد عرفت في تلك المدة اضطرابات واسعة وانطوت على نفسها لما استقل بها المكني، ثم انعزلت عن عاصمتها لمدة ٣٨ سنة (١) وقل عدد سكانها، وفشا فيها الفقر والجهل، واضطربت فيها نظم الحياة، ولم تتحسن حالتها إلاّ بعد أن رجعت إلى حظيرة عاصمتها الأولى في سنة ١٥٩٤ (٢).
لم يبق لنا ما يشير إلى التعليم والعلماء في تلك الفترة من القرن السادس عشر والسابع عشر إلاّ اليسير من المعلومات، نستشفه من بعض الأخبار التي وردت في التراجم والسير.
وما من شك أن الكتاتيب كانت تعمل بالمساجد والزوايا، إذ لم يبق لنا في خصوصها شيء من الوثائق، وبضياع هذه الوثائق لا يمكن لنا التعرف على عددها ومستوى التعليم بها، غير أننا نعرف أن الراغبين في العلم اتبعوا طريقة أسلافهم في التنقل إلى العاصمة التي بدأت ترجع إليها الروح الثقافية مع المراديين، والتنقل إلى الأزهر بمصر أيضا، طبقا لسنة قديمة، ومن بينهم أبو الحسن الكراي وعبد العزيز الفراتي الأول وعلي النوري. . .
_________
(١) علي الزواري: صفاقس في القرن السادس عشر، مجلة القلم، صفاقس، عدد ٢، ١٩٧٤، ص: ٣ - ٤.
(٢) عزيز سامح: الأتراك العثمانيون بإفريقيا الشمالية، بيروت ١٩٦٩، ص: ٢٨٩.
مقدمة / 9
وحملت مشعل التعليم والعلم في تلك الفترة أسر ثلاث: أسرة الفراتي، وأسرة الشرفي، وأسرة الكراي.
أما أسرة الفراتي فقد قال في شأنها حسين خوجة عند ترجمته لعبد العزيز بن محمد الفراتي «وهو من دار علم من قديم الزمان، وهو عاشرهم كلهم علماء أعلام» (٣).
وأما أسرة الشرفي فقد اهتمت بعلوم الميقات والجغرافيا، وبرز منها علي بن أحمد بن محمد الشرفي الذي وضع في سنة ١٥٥١ م أطلسا في ثماني ورقات لسواحل البحر الأبيض المتوسط تملك منه المكتبة الوطنية بباريس نسخة فريدة (٤).
وقد ألحق أفراد آخرون من أسرة الشرفي نماذج أخرى للعالم تمثل في جوهرها صورة منقحة لخارطة الإدريسي، ترجع إلى سنوات ١٥٧٢، ١٥٧٩ و١٦٠١، وأهمها الخارطة التي وضعها محمد ابن علي الشرفي، وتحدث عنها كراتشكوفسكي اعتمادا على دراسات قام بها كل من ميللر وأماري (٥).
أما أسرة الكراي فهي مشهورة بحركتها الدينية، الصوفية النزعة، المنتمية إلى الحركة الوفائية الشاذلية، وقد برز فيها أبو الحسن بن أبي بكر المتوفي سنة ١٧٠٣ م وهو من أحفاد الشيخ علي الكراي أبي بغيلة معاصر سيدي أحمد بن عروس، نعته محمد محفوظ في تراجم المؤلفين التونسيين «بالعالم الصوفي الوفائي نسبا وطريقة» (٦) أنشأ زاوية بصفاقس بعد رحلته إلى الأزهر «واشتغل بنشر العلم وانتفع به جماعة من أهل بلده منهم خليفته على الزّاوية الشّيخ محمد المراكشي ومنهم كذلك الشيخ علي النوري».
ويمثل رجوع الشّيخ علي النوري من مصر إلى مسقط رأسه في أواخر سنة ١٠٧٨/ ١٦٦٨ م وتأسيسه لزاويته وفتحها للتدريس منعرجا في حياة صفاقس الثقافية والدينية، إذ أعطت شرارة نهضتها، فكان الشيخ علي النوري الذي وصفه حسين خوجة «بالمربي، والمدرس، ومحيي السنة. . .» رائد هذه النهضة. ورآى بعضهم حلوله في مدينته كالغيث في البلد القاحل الجديب، أروى العقول من ظمإ الجهل.
وكان للزّاوية النّورية إشعاع، وتأثير كبير في تكوين الطّلبة الذين أتقنوا دراستهم عن الشّيخ علي النوري، وعن شيوخ البلد غيره وأهمهم عبد العزيز الفراتي، وتوزع بعضهم في مساجد المدينة وزواياها، ينشرون التربية والعلوم التي تلقوها، ونذكر منهم محمد وأحمد ولدا الشيخ علي، اللذان أخذا مشعل الزاوية بعد وفاة والدهما، وعلي بن محمد المؤخر الذي كان حيا في سنة ١١١٨ هـ - ١٧٠٦ م، أخذ عن الشيخ علي النوري علوم اللسان والشريعة والميقات والحساب، وتولى الإمامة والتدريس والتجويد بضريح الشيخ سيدي أبي الحسن اللخمي، ومحمد الغراب الذي خلفه بنفس
_________
(٣) حسين خوجة: ذيل بشائر أهل الإيمان بفتوحات آل عثمان، تحقيق الطاهر المعموري، الدار العربية للكتاب، ١٩٧٥، ص: ١٢٨.
(٤) القسم العربي عدد ٢٢٧٨.
(٥) تاريخ الأدب الجغرافي ١/ ٤٥٦.
(٦) ٤/ ١٥٥.
مقدمة / 10
المقام بعد وفاته، ومنهم رمضان بو عصيدة الذي استقر بزاوية الصّفار، وإبراهيم المزغني الذي اشتغل بمقام سيدي عبد الرحمان الطبّاع، ومحمد الزّواري، ومحمد بن محمد الشّرفي الذي تصدر للتدريس فيما بعد بالزاوية الحسينية.
وتعزز التدريس بصفاقس بجانب الزاوية النورية بالحركة التي كان يقوم بها الشّيخ عبد العزيز الفراتي بالجامع الكبير، وتعزّز كذلك بالمدرسة الحسينية التي أحدثها حسين بن علي في سنة ١١٢٦/ ١٤ - ١٧١٥ م، وتصدر للتدريس بها أوّلا الشيخ محمد ابن المؤدب محمد الشّرفي الذي أنهى تكوينه كالشيخ علي النوري وعبد العزيز الفراتي بمصر.
وكانت الزاوية النورية طيلة حياة الشيخ علي، وبعد وفاته مع ابنيه محمد وأحمد وأحفاده، والمدرسة الحسينية أيضا أهم المدارس في صفاقس خلال القرن الثامن عشر، وكان مستوى التدريس بها هو مستوى مشايخها الذين يدرسون بها، رفيعا، وكان بعض الطلبة يكتفي بما يتلقاه فيهما ليصبح فقيها أو ميقاتيا أو شاعرا.
وهكذا تعددت أماكن التدريس، وتعدد المدرسون المتكونون في مختلف فنون المعرفة التي أخذوها عن مشايخهم وغيرها من مراكز التعليم في الإيالة وخارجها، وانتشرت الثقافة بين الناس ونبغ بعضهم في مختلف نواحيها.
وهذه النهضة ليست مستقلة بذاتها، إذ هي وجه من النهضة الثقافية التونسية في القرن الثامن عشر، البارزة في تونس العاصمة، وترجع أسبابها إلى عدة عوامل منها الإستقرار السياسي والتقدم الإقتصادي، واعتناء الحكام بها منذ قيام الدولة الحسينية ببناء المدارس وتكوين المكتبات، وتنظيم التدريس بالزيتونة، وإكرام أهل العلم، وإجراء المرتبات لهم والإحسان إلى الطلبة.
ويمكن أن نقسم فنون المعرفة التي راجت في صفاقس إلى أقسام ثلاث:
- القسم الديني الذي يشمل الفقه والأحكام والأصول والفرائض والقراءات والحديث والتفسير وكل من سبق ذكرهم كان له باع فيها.
- قسم الرياضيات وله ارتباط بالأول ويتعلق بالحساب، والفلك، والميقات، وصناعة الأرباع، وقد برع فيها بعض أفراد عائلة الشّرفي بجانب تضلعهم في العلوم الأخرى، وأهمهم محمد ابن المؤدب محمد الشّرفي وابنه أحمد القاضي وحسن بن أحمد الشّرفي.
- الأدبيات: النحو والشعر والأدب والتاريخ.
ومن شعراء الجيل الأول: محمد ابن المؤدب الشّرفي، وبعده برع في قرض الشعر ثلاثة آخرون تعاصروا: علي ذويب، وإبراهيم الخراط، وعلي الغراب، وكانوا رفقاء وزملاء تتلمذوا على الطيب الشّرفي وعلي الأومي ومحمد بن علي الفراتي.
وانفرد في كتابة التاريخ محمود مقديش - المترجم له - إذ لم تكن صناعة التاريخ في مدينته من الآداب الرائجة أو المطلوبة، ولم تكن علما قائما بذاته يدرس. وقد يرجع ميل محمود مقديش إلى هذه المادة إلى عدة عوامل، مرتبطة ببعضها: تعاطيه نسخ الكتب عندما كان مجاورا الأزهر، واعتقاده أن
مقدمة / 11
التاريخ علم نبيل لفوائده، فهو في رأيه «من أفضل العلوم نفعا وأشرف المزايا قطعا» (٧) وأهم الأسباب إلحاح بعضهم عليه لكتابة «مغازي الصحابة، ومغازي المجاهدين، ومغازي العساكر العثمانية مع تقييد أحوال أمراء الإسلام القائمين بحفظ المغرب من الفتح الأول، وتحديد المغرب برا وبحرا وذكر بلدانه، مع ذكر أهل الفضل من العلماء والصالحين بخصوص صفاقس، وذكر أحوالها مع ذكر ما تيسر من فضلاء غيرها» (٨).
فنزهة الأنظار تبدو وكأنّ مؤلفها صنّفها لإرضاء طلب، ولكن الطلب التقى مع رغبته، فتمت رغم صعوبة السعي إليها الذي لخصه في مقدمتها بقوله: «فرأيت فيما دون ما طلب خرط القتاد سيما من مثلي ممن لا مادة في تعاطي هذا الخطب العظيم الشأن، ومع ذلك فلست أعد نفسي أهلا لأن أكون من فرسان هذا الميدان» (٩).
وفي السنوات الأخيرة من القرن الثامن عشر لاحت بوادر تدهور الحياة التعليمية والعلمية في صفاقس خلال القرن التاسع عشر، وربط محمود مقديش عدم إقبال الناس على التعلم والتعليم بإقبالهم على الدّنيا وتشبثهم بها فقال معلّلا صعوبة الكتابة: «وأحرى وأنا في بلد مطروح في زوايا الإهمال لإقبال أهله على تحصيل الدينار والدرهم والسعي على العيال» (١٠)، ونرى من جهتنا أن هذا التدهور مرتبط أيضا بعمل الطّاعون الجارف الذي انتشر في سنة ١١٩٩/ ١٧٨٦ م فقد أخذ من المؤدبين والمدرسين ومن بقية العلماء عددا وافرا نذكر منهم حسن بن أحمد الشّرفي الفقيه والحيسوبي الفلكي، والشاعرين علي ذويب وإبراهيم الخراط، ومحمد المصمودي القاضي، وعلي المصمودي الفقيه النحوي وغيرهم. وكان عمل الطاعون فاحشا في الناس إلى حد أنه عطل سير حركة العلم والتعليم في وقته وبعده أيضا بموت العديد من رواد الحركة.
وقد لخص لنا ذلك محمود مقديش في كلمة معبرة أتت في مقدمة كتابه فقال: «فتصفحت ما لديّ من مادّة فإذا هي بضاعة مزجاة وقد جرف الطّاعون من بلادنا من كنا نعده من الرواة» (١١).
ومحمود مقديش بالنسبة لمدينته واعتبارا لحياته وثقافته ومستوى كتابته، يمثل حدا فاصلا بين عصرين متباينين ثقافيا، القرن الثامن عشر المزدهر، والقرن التاسع عشر الذي نزلت فيه المعرفة والتدريس والكتابة وإقبال الناس على التعلم، درجات.
اعتبره كراتشكوفسكي، نظرا لتاريخ وفاته من مؤرخي القرن التاسع عشر القلائل وكذلك اعتبره أحمد عبد السلام إذ ابتدأ به تقديم المؤرخين التونسيين في هذه الفترة، اعتمادا على تاريخ وفاته أيضا، ولاحظ في آن واحد «أن مؤلفه نزهة الأنظار يندرج ضمن الأعمال التاريخية الراجعة إلى نهاية القرن الثامن عشر إذ أن الأحداث الأخيرة التي ذكرها مؤرخة في محرم من سنة ١٢٠٥ / سبتمبر أكتوبر ١٧٩٠ م» (١٢).
_________
(٧) النزهة ص: ٣٦.
(٨) النزهة ص: ٣٦ - ٣٧.
(٩) النزهة ص: ٣٧.
(١٠) النزهة ص: ٣٧.
(١١) النزهة ص: ٣٧.
(١٢) Les historiens، ص: ٢٧٤.
مقدمة / 12
٢) المؤلف (١)
أ - نسبه وحياته:
هو محمود بن سعيد مقديش (بفتح الميم والقاف المعقدة الساكنة والدال المهملة المكسورة) الفقيه المؤرخ المشارك في علوم.
ولد بصفاقس، في سنة ١١٥٤/ ١٧٤٢ م، ونشأ في عائلة نبيهة من أنبه بيوت صفاقس أصلها من أنشلة (Usulla) وتنسب إلى سيدي مخلوف الشّرياني إحدى قرى صفاقس من الجهة الشرقية، وتربى تربية صالحة، فقضى معظم حياته بين طلب العلم والتدريس والتأليف معتمدا على نفسه، مستهينا بالصّعاب والعقبات في عصامية نادرة لا يثبطها ولا يثني عزمها أحرج الظروف المادية.
تلقى العلم في مبتدأ أمره عمن أدركه ببلده من تلامذة الشيخ علي النوري كالشيخ محمد الزواري، والمحدث المفسر الشيخ رمضان بو عصيدة، وأخذ الفقه عن المقريء الفقيه الرياضي الشيخ علي الأومي، وشاركه في شيوخه التونسيين والمصريين، والشيخ محمد الدرناوي الليبي عند إقامته بصفاقس قبل أن يستقر نهائيا بالحاضرة، ثم التحق بجامع الزيتونة، ولقي أعلامه كالشّيخ قاسم المحجوب، والشّيخ محمد الشّحمي كبير علماء المعقولات في عصره والشيخ المحدث الفقيه الرحالة عبد الله السوسي السكتاني المغربي، وهو من شيوخ الشيخ علي الأومي، وعاقته قلة ذات اليد عن إرواء غلته من طلب العلم والإقامة بتونس، فانتقل إلى الزاوية الجمنية بجربة التي تتكفل بالإنفاق على الطلبة المقيمين بها من ريع أوقافها ومن تبرعات أهل الفضل والإحسان، وقرأ هناك مختصر الشيخ خليل بشرح الشيخ محمد الخرشي وشرح الشيخ عبد الباقي الزرقاني على الشيخ إبراهيم الجمني الحفيد، والشيخ أحمد بن عبد الصادق الجبالي العيادي الليبي، ثم جاور بالأزهر وهو كهل متزوج له ذرية، فأخذ العلوم الرياضية عن الشّيخ أحمد الدمنهوري وحسن الجبرتي والد المؤرخ عبد الرحمان، وأخذ عن الشيخ علي الصعيدي الفقه والحديث، وقرأ على غيرهم من شيوخ الأزهر.
ولا نعلم تاريخ التحاقه بالأزهر، ومدة اقامته بمصر سوى ما ذكره في القسم الأول من تاريخه الخاص بالجغرافيا أنه كان موجودا بالإسكندرية سنة إحدى ومائتين وألف / ١٧٨٦، ولعل ذلك كان لعرض التجارة.
وكان مدة مجاورته بالأزهر ينسخ الكتب الثمينة، ثم يؤوب إلى بلده صفاقس، ويبيع ذلك إلى علماء المدينة، ويترك محصول ذلك لزوجته وذريته، ويرجع إلى القاهرة لاستكمال قراءته، وبعد تخرجه من الأزهر انتصب للتدريس مجانا ببلده، قال الشيخ ابن أبي الضياف: «ولما تضلع من العلوم رجع إلى بلده صفاقس فأفاد وأجاد ونفع العباد، وتزاحمت على منهله الورّاد، وأفنى عمره في هذا
_________
(١) يوجد بالمكتبة الوطنية بتونس مخطوط مسجل تحت رقم ٢٣٥ به ترجمة محمود مقديش وكاتبها مجهول ويبدو من النص أنه أحد تلاميذ من أخذوا عن هذا المؤرخ، وركز فيها على انتاجه وصفاته.
مقدمة / 13
المراد وأتى بما يستجاد فتلاميذه بصفاقس أعلام وأيمة في الإسلام، وكان متخلقا بالإنصاف سمح بما عهد فيه من محمود الأوصاف» (١٤).
وكان لا يقتصر في تدريسه على أسلوب الإلقاء والتلقين، بل يستخدم الأسئلة عن المشاكل والقواعد في قالب قصصي مخترع لاختبار ذكاء الطلبة، ومعرفة ما هضموه من معلومات، وتروى له حكايات يرويها بعضهم إلى اليوم.
ولبث ببلده مقسما أوقاته بين التدريس والتأليف واحتراف التجارة لكسب قوته متجافيا عن الوظائف الرسمية إلى أن هاجر إلى القيروان في آخر حياته إذ توفي بها، وحمل جثمانه إلى صفاقس.
واختلف في تاريخ وفاته، ذكر أحمد بن أبي الضياف في الإتحاف ومحمد مخلوف في شجرة النور الزكيّة وأشار أحمد عبد السلام في أطروحته حول المؤرخين التونسيين أنه توفي في سنة ١٢٢٨/ ١٨١٣ م وهو التاريخ الذي ورد في المخلوط المشار إليه وفي ملحق الطبعة الحجرية وأثبته محمد محفوظ في تراجم المؤلفين مع شيء من الحذر إذ رآه إضافة لنص المؤلف فقال: «فلعل هذه الزيادة كتبت في الهامش فأضافها بعض النساخ إلى صلب الكتاب، وهذه الزيادة شديدة الإختصار مباينة لأسلوب الكتاب» (١٥).
ويرى نالينو (Nallino) أن هذا التاريخ قد يخالف الواقع إعتمادا على أحد فهارس مكتبة جامع الزيتونة، المسجل تحت عدد ٦٢٣٣ صفحة ٦٢ إذ جاء فيه نقلا عن الفرنسية: «توفي في سنة ١٢٢٨ حسب المؤرخ ابن أبي الضياف، أو في سنة ١٢٢٩ هـ حسب الباش مفتي الفراتي بصفاقس، وهو أحد تلاميذ المؤلف، وهذان التاريخان يخالفان الواقع لأن محمود مقديش لم يكمل تاريخه إلاّ في سنة ١٢٣٣ هـ» (١٦). ويضيف نالينو أن مقديش تحدث فعلا عن محمود باشا الذي استمر حكمه إلى سنة ١٢٣٣ هـ، ونقل كراتشكوفسكي خلاصة نالينو وأثبت أنه توفي بعد عام ١٢٣٣ هـ - ١٨١٨ م.
وتعليل نالينو لإسقاط سنة ١٢٢٨ كتاريخ لوفاة المؤلف ساقط من أساسه، وميله إلى سنة ١٢٣٣ في غير محله، فنالينو اعتمد في كل ذلك على ما جاء في آخر الباب الأول من المقالة الحادية عشرة عن محمود باشا حيث قيل في - النسخة المطبوعة - «وهو أمير عصرنا سنة ثلاثة وثلاثين ومائتين» (١٧) ولم يهتم هذا المستشرق بما جاء قبله عن حمودة باشا الذي قال عنه مقديش «فهو سلطان وقتنا أقر الله به أعيننا» (١٨) فهذا التكرار المنافي للمنطق يجعلنا نثبت أن الأخبار القليلة التي وردت عن محمود باشا تمثل زيادة عن الأصل من أحد النساخ، وتنبه لها أحمد عبد السلام ورآى أن سنة ١٢٣٣ تمثل تاريخ الإنتهاء من نسخ المخطوطة التي اعتمدتها الطبعة الحجرية فقال: «إن آخر الأحداث التي تعرض إليها
_________
(١٤) الإتحاف ٧/ ٨٥.
(١٥) ٤/ ٣٦٢.
(١٦) Venezia، المصدر السابق ص: ٥.
(١٧) ٢/ ٧٢.
(١٨) ٢/ ٧١.
مقدمة / 14
مقديش ترجع إلى محرم ١٢٠٥ / سبتمبر - أكتوبر ١٧٩٠. . . ولم يتعرض إلى حكم حمودة باشا الذي توفي المؤلف في أواخره إلاّ ببعض أسطر، ولخصت أخبار عثمان باشا ومحمود باشا اللذين تعاقبا بعده حتى سنة ١٢٣٣، وتمثل هذه السنة تاريخ الإنتهاء من نسخ المخطوطة التي اعتمدتها الطبعة الحجرية، ولا شك أن هذا التلخيص السريع ليس من تحرير المؤلف الذي توفي قبل هذا التاريخ» (١٩).
ولا يستبعد أن تكون النسخة المعتمدة هي النسخة الموجودة بالمكتبة الوطنية بتونس، إذ لا تختلف مع الطبعة الحجرية فيما ذكر عن محمود باشا، ومما يؤكد لنا أنها زيادة عدم وجودها في مخطوطة شيخ الإسلام أحمد عارف حكمت بالمدينة المنورة، المرموز إليها عندنا ب «ش»، وهي أقدم المخطوطات، ونقلها ناسخها عن نسخة بخط المؤلف.
اعتبارا لكل هذا نقر عام ١٢٢٨ هـ - ١٨١٣ م تاريخا رسميا لوفاة المؤلف إلى أن تأتي دراسات أخرى تخالفه.
وذكر كراتشكوفسكي، اعتمادا مرة أخرى على نالينو أن محمود مقديش «أمضى معظم حياته بمسقط رأسه ولو أنه كما يبدو ساح كثيرا، وزار مواضع كالبندقية مثلا» (٢٠). ونالينو اعتمد بدوره نزهة الأنظار ذاتها ليقول أن محمود مقديش زار البندقية حيث قال في نزهة الأنظار عندما تحدث عن واقعة رأس المخبز التي دارت بين الصفاقسيين والبنادقة أو البلنسيان وانتهت آخر يوم من شعبان سنة ١١٦٠ هـ - ١٧٤٧ م: «ولما سافرنا لبلاد المشرق نزلنا بلادهم على الصلح. . .» (٢١).
ب - تآليفه:
١) حاشية على العقيدة الوسطى للسنوسي ينقل فيها من كتب قليلة الوجود في عصره كالصحائف للسمرقندي مطبوعة على الحجر بتونس، سنة ١٣٢١/ ١٩٠٣ م، جزءان في مجلد واحد.
٢) حاشية على تفسير أبي السعود العمادي سماها «مطالع السعود على تفسير أبي السعود»، في ١٣ مجلدا بمكتبة المرحوم الشيخ محمد الصادق النيفر.
٣) شرح على المرشد المعين في الفقه المالكي للشيخ عبد الواحد بن عاشر، جزءان.
٤) شرح جانب من التذكرة للقرطبي، انفرد بذكره الشيخ محمد المهيري في بحثه المنشور بمجلة الثريا، شعبان ١٩٦٣ جويلية ١٩٤٦ ص: ١٠٩.
٥) شرح على كشف الأستار للقلصادي سماه «إعانة ذوي الإستبصار على كشف الأستار عن علم حروف الغبار»، وهو مختصر من كتاب القلصادي كشف الجلباب في علم الحساب، وهذا مختصر من كتابه التبصرة، وهو أول مؤلفات المترجم، توجد منه نسخة بالمكتبة الوطنية بتونس (مكتبة ح. ح. عبد الوهاب بخط محمد المصمودي في أواسط ذي الحجة ١٢٨٣ في ٣١٢ ورقة ٢١ سطرا،
_________
(١٩) Les historiens، المصدر السابق، ص: ٢٨٢.
(٢٠) Venezia، المصدر السابق ص: ٥.
(٢١) النزهة، الطبعة الحجرية ٢/ ٩٣.
مقدمة / 15
قياس ١٦/ ٢٢ سم، وتوجد منه قطعة أخرى في ٥٠ ورقة بنفس المكتبة وأصلها من مكتبة الشيخ علي النوري.
ذكر في الخطبة قيمة علم الحساب، وحالته في عصره، والإقبال على تآليف القلصادي في القطر التونسي وخصائص كتابه «كشف الأستار» وتأليفه لهذا الشرح باقتراح من بعض الإخوان، فقال: «أما بعد فإن المآثر وإن تكاثرت، والمفاخر وإن تفاوتت فأشرقها رفعة، وأعلاها رتبة العلم، ثم هو وإن تفننت أفنانه وبسقت فروعه وأغصانه فأبينها تبيانا، وأوضحها حجة وبرهانا - بعد علم الهندسة - علم الحساب، الذي هو أول التعاليم القديمة وأمتن العلوم المستقيمة، ثم هو مع ذلك قد صارت آثاره خفية وأسراره مطوية، ولم يبق منه إلاّ بقايا لا تبل الصدى، ولا تجيب النداء وإن وجد منه رسوم دارسة استولى عليها داء العجل من أصحابها ولا يمكن الإفصاح عنها من أربابها، ومع هذا فالطلب فيه حثيث شديد والباعث عليه من النفوس أكيد، فلما تعلقت همتي به وطمحت نفسي في تحصيله رأيت تآليفه بحرا لا ساحل له وبعدا لا منتهى له، غير أن علماء العصر من إفريقية - حماها الله من كل أذية - قد أكبوا على اختصارات الإمام الأوحد الفاضل الأمجد أبي الحسن علي بن محمد ابن علي القرشي الأندلسي البسطي الشهير بالقلصادي، واختاروا من اختصاراته أخصرها، ومن تواليفه أنورها، وهو أصغر كتبه حجما وأغربها علما المسمى «بكشف الأستار عن علم حروف الغبار» فكنت في جملة من أكب عليه، ولم يجعل معوله إلاّ عليه، فوجدته عظيم الشأن رفيع الأركان محكم البنيان، غير أنه لشدة اختصاره، تكاد النفوس تيأس منه سيما وهو - مع ذلك - مهرة لم تركب ودرة لم تثقب، وإن تعاطاه أحد صار كأنما وقع في أجمة أسد، لم يبلغنا عنه تعليق يليق له لا يليق (٢٢) (؟) وصار كلام الناس فيه آثارها تطيرها الرياح وأحاديث ليل تمحوها به الصباح لأن ما يسطر في الدفاتر لا يستقر في الفكر ولا تحويه الضمائر. . .
ولما تردد علي بعض الإخوان فربما صدر مني بعض إشارات لمقاصده ولمحات لمراشده، فطلبوا مني أن أقيد لهم ما سمعوه، وأرسم لهم ما فهموه، ثم إني فكرت فيما أمليت وجدته في كل لحظة يتغير فيه الأمر ويقبل الزيادة والنقص والتغيير والتبديل تحاشيا من النقص، وطلبا للكمال المحبوب طبعا للنفس، فإذا أنا لم أجد لذلك غاية، فاضطرب عندي الأمر، سيما ولم يسبق عندي تأليف، فعزمت على محو ما كتبت، ورجعت عما أضمرت حتى رأيت كلام أستاذ البلغاء القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني إلى العماد الأصبهاني معتذرا عن كلام استدركه عليه أنه قد وقع لي شيء، ولا أدري أوقع لك أم لا؟
وها أنا أخبرك به وذلك أني رأيت أنه لا يكتب إنسان كتابا في يومه إلاّ قال في غده: لو غيرت هذا الكتاب لكان أحسن ولو زيد هذا لكان يستحسن ولو قدم هذا الكلام أفضل ولو ترى
_________
(٢٢) كذا في النسخة المنقول منها، ولعل الصواب: أو لا يليق.
مقدمة / 16
هذا المكان أجمل، وهذا من أعظم العبر وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر. هـ فأقلعت عن ذلك العزم، وعولت على انقاذه بالفور والحزم».
٦) القول الجاوي في جواب وقفة الشيخ يحيى الشاوي في الفرق بين السبب والشرط، مخزون بالمكتبة الوطنية بتونس (مكتبة ح. ح. عبد الوهاب) بخط علي بن عون الساسي بتاريخ ذي القعدة ١٢٤٢، ٧ ورقات، قياس ١٦/ ٢٢، وتوجد بها نسخة أخرى.
٧) وأشهر مؤلفاته هو تاريخه المعروف ب «نزهة الأنظار في عجائب التواريخ والأخبار» والمعروف أيضا ب «دائرة مقديش».
٣) نزهة الأنظار
يبدو أن محمود مقديش كان بصدد كتابة النزهة في سنة ١٢٠٧/ ١٧٩٣ م اعتمادا على ما ذكره عند كلامه عن مدينة وهران إذ قال: «وكثيرا ما تغلب عليها إفرنج الأندلس من أيدي المسلمين، ثم يفتحها المسلمون منهم، وساعة تاريخ الكتاب سنة سبع ومائتين وألف بأيدي المسلمين». وذكر من جهة أخرى أن سلطان عصره في سنة ١٢٠٣/ ١٧٨٨ - ١٧٨٩ م هو سليم خان الثالث، فلعل البداية في التأليف كانت في هذه السنة.
ويرى المستشرق الروسي كراتشكوفسكي أنه أتم الجزء الأول من مصنفه في عام ١٢١٠/ ١٧٩٦ م.
أ - مصادرها:
إعتمد محمود مقديش على مصادر متنوعة، هي تقريبا المصادر التي اعتمدها معاصروه، كالوزير السراج مثلا، وقد أتيحت الفرصة للمؤلف في استعمالها بفضل مكتبته الخاصة التي كانت فيما يبدو ثرية تشتمل على كتب التاريخ والتراجم والبلدان، وفي نظرنا نسخه للكتب أثناء إقامته بمصر مدة مجاورته الأزهر كان أهم الوسائل التي مكنته من استكمال تكوينه وتوجيهه نحو المراجع التي احتاج إليها.
واستعمل محمود مقديش الأساليب التالية:
- النقل الحرفي.
- النقل مع تغيير بعض الكلمات، وهو يصيب في بعض الأحيان، فيخف التعبير ويستقيم المعنى ويخطئ في بعض المرات، فتسقم جمله، ويتغير المعنى الذي قصده المرجع.
- التلخيص مع استعمال بعض العبارات الجزئية من المرجع المستند إليه، وهو في أغلب الأحيان يحافظ على المعاني الواردة في مراجعه.
مقدمة / 17
- التقديم والتأخير: اقتضى ترتيب محمود مقديش لكتابه، وتصميمه له، واقتضت منه نظرته التاريخية، أن لا يتبع تسلسل النصوص بالمراجع التي استعملها بل كان في نقله وتلخيصه يستعمل ما جاء بها بالتقديم والتأخير دون ضبط أو إشارة.
- إشارة محمود مقديش في أغلب الأحيان إلى مراجعه، منذ بداية نقله، أو في أثنائه، أو في آخره، ولم يشر إليها مرات أخرى، فأتى نصه إذ ذاك انتحالا لكلام غيره، ولم نتمكن في بعض الحالات، وهي قليلة من التعرف على المصادر التي استعملها.
- استعمل المصادر التي أشار إليها إما بصفة مباشرة كالوفيات لابن خلكان، ونزهة المشتاق للادريسي، ورحلة التجاني، ورحلة العياشي، وتاريخ الدولتين للزركشي، إلى غير ذلك، أو بصفة غير مباشرة بواسطة مراجع نقلها عنها، مثلا ابن الأثير في بعض الحالات، وابن شداد بواسطة ابن خلكان في وفيات الأعيان والذهبي بواسطة السيوطي في تاريخ الخلفاء. . .
وتبدو مصادره قليلة، أو فيها بعض التخليط فهو عند كلامه عن الدولة العثمانية نقل كثيرا من كتاب «الإعلام بأعلام بيت الله الحرام» للقطب النهروالي، وعزا هذا النقل إلى أبي الوليد الأزرقي، وهو متقدم بينه وبين النهروالي قرون، ولعله كانت عنده نسخة من «أخبار مكة» لأبي الوليد الأزرقي يليه «الإعلام بأعلام بيت الله الحرام» فلم ينتبه لهذا، وظن أن الكتاب كله للأزرقي، وفي ترجمة عيسى بن مسكين لم يعرف تاريخ وفاته حتى أخبره صديق له بذلك ويبدو أنه لم يكن مطلعا على «الديباج المذهب» لابن فرحون، ولو رجع إليه لوجد ترجمته وتاريخ وفاته فضلا عن الرجوع إلى أصله: «ترتيب المدارك» للقاضي عياض.
وقائمة المصادر التي ذكرها واستعملها بطريقة أو بأخرى هي التالية حسب الترتيب الأبجدي:
١) الإعلام بأعلام بيت الله الحرام للقطب النهروالي.
٢) بشائر أهل الإيمان لحسين خوجة.
٣) تاريخ الخلفاء للسيوطي.
٤) تاريخ الدولتين للزركشي ولم يصرح بالنقل عنه.
٥) تاريخ الطبري.
٦) جامع مسائل الأحكام للبرزلي نقل منه مرة واحدة عند ترجمة أبي يحيى زكرياء بن الضابط تلميذ الإمام اللخمي ولم يترجم في ترتيب المدارك والديباج.
٧) جذوة المقتبس للحميدي.
٨) الحلل السندسية للوزير السراج.
٩) حسن المحاضرة للسيوطي.
١٠) خريدة العجائب لابن الوردي.
١١) رحلة التجاني.
١٢) رحلة العياشي.
مقدمة / 18
١٣) رقم الحلل في نظم الدول لابن الخطيب الأندلسي.
١٤) رياض النفوس للمالكي.
١٥) زبدة التواريخ للبيضاوي.
١٦) سمط اللآل لمحمد قويسم النواوري.
١٧) صاحب كتاب فضل الحبيب والنديم اللبيب، طبقات المناوي.
١٨) عجائب المخلوقات للقزويني.
١٩) قصص الأنبياء المسمى عرائس المجالس للثعلبي.
٢٠) كتاب العبر لابن خلدون.
٢١) الكامل لابن الأثير.
٢٢) المختصر في أخبار البشر لأبي الفداء الأيوبي.
٢٣) مروج الذهب: المسعودي.
٢٤) مسالك الأبصار: لابن فضل الله العمري.
٢٥) معالم الإيمان: للدباغ.
٢٦) معالم التنزيل: للبغوي.
٢٧) مناقب أبي الحسن الكراي.
٢٨) مناقب سيدي أبي إسحاق الجبنياني: للبيدي.
٢٩) مناقب سيدي محرز بن خلف.
٣٠) المؤنس لابن أبي دينار.
٣١) نزهة المشتاق: للشريف الأدريسي. في القسم الأول من الكتاب (قسم الجغرافيا).
٣٢) وفيات الأعيان لابن خلكان.
أما بالنسبة للمقدمة ولاضافاته التي تهم خاصة المدن كالاسكندرية، وتونس، والجزائر، والمهدية، وصفاقس. . . وجل ما جاء بخاتمته فهو من تحريره الذي اعتمد فيه على تكوينه الخاص، ومشاهداته، والأخبار والمعلومات التي تلقاها من أصدقائه أو الوسط الإجتماعي الذي عاش فيه، وعن هذا الوسط أخذ بعض مأثوراته منها طريقة المقاومة الشعبية للإحتلال النرماني، وأخذ بعض الأخبار الأسطورية التي تتعلق بآدم وذريته، والأنبياء والرسل، إذ لا نجد لهذه الأخبار أثرا في كتب التراث.
ب - تصميمها:
قسم محمود مقديش نزهة الأنظار إلى جزئين متعادلين حجما، يضم الجزء الأول مقدمة وعشر مقالات، ويضم الجزء الثاني مقالة وهي المقالة الحادية عشرة وخاتمة.
وقسم بعض المقالات والخاتمة إلى أبواب من اثنين إلى أربعة.
مقدمة / 19
المقدمة: وهي مقدمة قصيرة ضبط المؤلف فيها سبب كتابته للنزهة، وضبط منهاج عمله، ومفهومه للتاريخ الذي هو في نظره: «الضابط لوقائع الأعصار الماضية والحاضرة مما له خطر وشأن بوقته للنقل» (٢٣) ومنفعته «بمعرفة أحوال من مضى من أولى الأقطار» (٢٤) وغايته من أنه عبرة.
المقالة الأولى: في تحديد المغرب برا وبحرا وأسماء البلدان.
وهي أطول المقالات، خصصها لجغرافية المغرب، وأقطاره ومدنه، ويراها لازمة إذ كل ما فيها «راجع إلى موضوع الكتاب إذ البحث عن بلاد من بلدان المغرب وعن أمرائها موقوف على معرفة تلك البلاد وذكر غيرها تبع لها فمن ثم مست الحاجة إلى ذكرها» (٢٥).
وقسمها إلى أربعة أبواب:
- الباب الأول في تحديد المغرب برا وبحرا.
- الباب الثاني في بر المغرب الأقصى والمغرب الأوسط إلى حدود بجاية.
- الباب الثالث في بقية المغرب الأوسط وجميع المغرب الأدنى.
- الباب الرابع في جزيرة الأندلس.
في هذه المقالة تناول المؤلف الجغرافية البشرية والإقتصادية والوصفية، واعتمد فيها أساسا على نزهة المشتاق للادريسي، وخريدة العجائب لابن الوردي، وعجائب المخلوقات للقزويني، ورحلة التجاني، ووفيات الأعيان لابن خلكان في ضبط الألفاظ ووصف بعض المعالم.
ويغلب على هذا القسم النقل، بما في ذلك الأساطير المختلفة التي تهم الأندلس، وأصول البربر وتسميتهم، والأساطير التي تتعلق بتسمية إفريقية، والتفاسير المتعلقة بحركة البحر دون إعمال الرأي فيها، وتقتصر آراؤه على تحديد المغرب الذي في نظره يمتد من بحر الظلمات على سواحل الأندلس، إلى الإسكندرية والصحراء ويقتصر على إضافاته حول بعض مدن إفريقية والجزائر والإسكندرية، وهي هامة على قلتها واختصارها كما سنتعرض إليه فيما بعد.
المقالة الثانية: في ذكر الخلافة وخلفاء الصحابة.
بها يبتدأ القسم التاريخي وقسمها إلى ثلاثة أبواب.
- الباب الأول في الخلافة وخلافة النبيء ﷺ، والخلفاء الأربعة.
- الباب الثاني في خلافة بني أمية.
- الباب الثالث في فتوحات المغرب الواقعة أيام الصحابة وبني أمية واعتمد المؤلف في هذه المقالة على تاريخ الخلفاء للسيوطي، وحسن المحاضرة للسيوطي، ورقم الحلل لابن الخطيب، ومعالم الإيمان للدباغ، والوفيات لابن خلكان.
_________
(٢٣) النزهة ٣٩.
(٢٤) النزهة ٣٩ - ٤٠.
(٢٥) النزهة ٤٢.
مقدمة / 20
وفيها حدد مفهوم الخلافة وفرق بينها وبين الملك، وعن طريق الخلافة رجع إلى بدء الخليقة، فأول الخلفاء آدم هم تتبع ذريته حتى انتهى إلى الرسول ﷺ ونسبه ومر بسرعة على حياة الرسول، والخلفاء الأربعة وخلفاء بني أمية، وتاريخهم كتوطئة مكنته من الإنتقال إلى فتح أقطار المغرب والأندلس.
المقالة الثالثة: في ذكر خلفاء بني العباس وبعض أمرائهم بالعراق، وقسمها إلى ثلاثة أبواب:
- الباب الأول: في ذكر خلفاء بني العباس.
- الباب الثاني: في ذكر بعض أمراء بني العباس بالمشرق: الصفاريين، السامانيين، الغزنويين، والديالمة، والسلاجقة والخوارزمية وتعرض في أوله إلى التتر وحروبهم.
- الباب الثالث: في مشاهير أمراء بني العباس بالمغرب.
واستعرض بعض ولاة إفريقية، والدّولة الأغلبية، واعتمد في هذه المقالة على الطبري وذكر الصولي عند كلامه عن المكتفي، ومسالك الأبصار للعمري، وزبدة التواريخ للبيضاوي، ووفيات الأعيان لابن خلكان، ورحلة التجاني، ورقم الحلل لابن الخطيب، وتاريخ ابن خلدون في الباب الثالث، ولا شك أنه استعمل في الباب الأول مصادر أخرى غير الطبري لم يذكرها وتعذرت علينا معرفتها.
المقالة الرابعة: في ذكر ملوك الشيعة بالمغرب وكيفية انتقالهم إلى مصر وما تبع ذلك.
وهذه المقالة نقل متواصل من عدة مصادر: الوفيات لابن خلكان، وتاريخ الخلفاء للسيوطي بما فيه من نقل عن الذهبي، ورحلة التجاني، ومعالم الإيمان للدباغ والكامل لابن الأثير.
المقالة الخامسة: في ذكر ملوك صنهاجة بالمغرب وصلاح الدين بمصر. وفيها بابان وقد يتساءل القارئ ما هي العلاقة بين الأيوبيين والصنهاجيين حتى يقرنوا في مقالة واحدة؟ الخيط الذي يربطهما في ذهن المؤلف أنهم خلفوا الفاطميين هنا وهناك.
- الباب الأول: في ذكر ملوك صنهاجة، وكيفية خروجهم عن طاعة الفاطميين، ونزوح العرب من مصر إلى إفريقية.
- الباب الثاني: في ذكر دولة نور الدين وصلاح الدين وفيه ركز المؤلف على الحروب الصليبية وانتصارات الأيوبيين على المسيحيين.
واعتمد في الباب الأول على مناقب سيدي محرز بن خلف، ومعالم الإيمان للدباغ، وتاريخ ابن خلدون، ورحلة التجاني، ووفيات الأعيان لابن خلكان.
واعتمد في الباب الثاني على وفيات الأعيان لابن خلكان، وتاريخ ابن أبي الهيجاء، والكامل لابن الأثير.
المقالة السادسة: في ذكر خلفاء بني أمية في الأندلس.
مقدمة / 21
وهذه المقالة سريعة، استعرض فيها خلفاء بني أمية وملوك الطوائف، وكأنها تمهيد لدخول يوسف بن تاشفين إلى الأندلس وانتصاره على المسيحيين.
واعتمد فيها مقديش خاصة على رقم الحلل لابن الخطيب، ووفيات الأعيان لابن خلكان.
المقالة السابعة: في ذكر ملوك لمتونة.
ويسميهم الملثمين والمرابطين، واهتم خاصة بظهور هذه الدولة، وركز على يوسف بن تاشفين وتدخلات المرابطين في الأندلس.
واعتمد في هذه المقالة خاصة على وفيات الأعيان لابن خلكان.
المقالة الثامنة: في ذكر دولة الموحدين وأمرائهم بالمغرب والأندلس وإفريقية، وقسمها إلى ثلاثة أبواب.
- الباب الأول: في قيام الدولة الموحدية وتاريخها العام.
- الباب الثاني: في فتح عبد المؤمن للمهدية وللبلاد الساحلية من أيدي النرمان.
- الباب الثالث: في ذكر ثوار إفريقية على الموحدين، وفيه يستعرض مقاومة الموحدين لبني غانية، وقراقوش.
واعتمد مقديش في مقالته على تاريخ الدولتين للزركشي، ورقم الحلل لابن الخطيب، ووفيات الأعيان لابن خلكان، والكامل لابن الأثير.
المقالة التاسعة: في ذكر دولة بني مرين وبني زيان وبني نصر.
وقسمها إلى ثلاثة أبواب كل باب لدولة، وتبسط نسبيا في ذكر دولة بني مرين بالمغرب واعتمد فيها على رقم الحلل لابن الخطيب، وتاريخ الدولتين للزركشي.
المقالة العاشرة: في ذكر دولة بني حفص بإفريقية.
وهي مقالة طويلة، تحدث فيها عن الدولة الحفصية من خلال أمرائها، والأحداث التي تعرضت لها، وتبسط في كلامه عن تحول أبي الحسن المريني وابنه أبي عنان بعده إلى تونس، كما تبسط في انحلال هذه الدولة واحتلال الإسبان لبعض مراكزها.
واعتمد فيه على تاريخ الدولتين للزركشي ورحلة التجاني ورحلة العياشي فيما يتعلق بدخول درغوث باشا لمدينة طرابلس وإجلاء المسيحيين عنها.
الجزء الثاني:
المقالة الحادية عشر: في ذكر دولة آل عثمان وقسمها إلى ثلاثة أبواب.
- الباب الأول: في ذكر سلاطينهم وأصلهم ويقف عند سلطان عصره في سنة ١٢٠٣ سليم خان الثالث.
- الباب الثاني: في ذكر دخول العثمانيين إلى افريقة.
- الباب الثالث: في ذكر أمراء تونس التابعين للسلطنة العثمانية.
مقدمة / 22
واعتمد في هذه المقالة على بشائر أهل الإيمان لحسين خوجة والمؤنس لابن أبي دينار، وفي خصوص حسين بن علي وابنه علي باشا، يوجه المؤلف القارئ إلى الحلل السندسية للوزير السراج والكتاب الباشي لحمودة بن عبد العزيز.
الخاتمة: في ذكر ما يتعلق بصفاقس ووطنها.
وقسمها إلى أربعة أبواب:
- الباب الأول: في ذكر وضعها وما يتعلق به.
- الباب الثاني: في ذكر ولاتها.
- الباب الثالث: فيما وقع لأهل صفاقس من الجهاد في الأعصار المتأخرة ويتناول فيه خاصة المعارك التي خاضتها صفاقس مع مالطة والبندقية.
- الباب الرابع: في ذكر أهل الخير والصلاح والأولياء المتقدمين بصفاقس ووطنها، وهو أطول الأبواب.
واعتمد المؤلف في خاتمته على رحلة التجاني، ومعالم الإيمان للدباغ، ومناقب سيدي أبي إسحاق الجبنياني للبيدي، ومناقب سيدي أبي الحسن الكراي، ويعتمد خاصة في الباب الأخير على معلوماته، والخاتمة - كما سنبينه فيما بعد - أهم ما جاء بالكتاب.
ت - أهميتها:
ضبط المؤلف لنفسه وصف المغرب ورواية تاريخه ثم التركيز على مدينته صفاقس، والمتتبع لحلقات الكتاب يشعر وكأن المؤلف يتردد فيما ضبطه لنفسه لأنه يتأرجح بين المغرب والمشرق وتاريخ المغرب وتاريخ الإسلام عامة، ويرجع ذلك إلى غاية منهجية جعلته يبدأ بالأصل وينتقل منه إلى الفرع قصد الإيضاح، وفسر ذلك أحمد عبد السلام بقوله: «والحقيقية أن التمييز بين التاريخ الإسلامي والتاريخ المغربي ليس في متناول محمود مقديش ومعاصريه إذ أن تاريخ المغرب جزء من تاريخ العالم الإسلامي، وهذا التاريخ هو في نظر مقديش التاريخ كله، والمغرب يدخله عن طريق الفتح الإسلامي» (٢٦).
وباستثناء الفقرات والأجزاء التي حررها المؤلف، فإن الكتاب يغلب عليه طابع النقل والتجميع وقد أشار إلى ذلك نالينو، وكراتشكوفسكي اعتمادا عليه، وأحمد عبد السلام في أطروحته، والنقل والتجميع أشمل في الجزء الأول من الكتاب، وقال في ذلك أحمد عبد السلام: «إن المقالات التي خصصها المؤلف للتاريخ تعتمد على النقل، ولكنها أقل شمولا، وأقل غموضا من العمل الذي قام به الوزير السّرّاج في نفس الإتجاه، وإن استعمل نفس مراجعه، ولعله استوحاها من سلفه الجاد هذا، فمقديش لا يعطينا في هذه المقالات معلومات طريقة خاصة به، ولا بد أن نرى في رأيه الذي اقتضته
_________
(٢٦) أحمد عبد السلام، Les historiens، ص: ٢٧٥.
مقدمة / 23
منه المجادلات خاصة بأحداث سبقت صدى للآراء التقليدية المسلم بها عامة، ولا أن نرى فيها نتيجة لاختياره الشخصي» (٢٧).
ولا بد أن نستثني - في القسم التاريخي هذا - المعلومات الخاصة به التي أفادنا بها عن المدن الإفريقية، تونس والمهدية والقيروان، وسوسة، والجم، وجربة وصفاقس خاصة، وكذلك عن الجزائر والإسكندرية وطرابلس، وهذه المعلومات هامة ومفيدة وإن كانت مختصرة في بعض الأحيان، وتعطينا فكرة واضحة عن بعض الأحوال خلال القرن الثامن عشر، وفي محاولاته للمقارنة بين مصادره القديمة، ومعلوماته ومشاهداته، أعطى للتأثير الزمني حقه، فمثلا لما عقد كلامه عن الإسكندرية ومعالمها كالمجلس الذي بجنوبها، والاسطوانة المفردة الكائنة في الركن الشمالي من هذا المجلس قال تصحيحا للإدريسي الذي نقل عنه «ولقد وقفت عليها سنة إحدى ومائتين وألف، فلم يبق من هذا المجلس أثر، وإن هذه الإسطوانة المفردة نحتها أصحاب الطمع رجاء أن يجدوا تحتها بعض الكنوز، فلما لم يجدوا شيئا ردموا ما احتفروه» (٢٨). وبرأ أهل جربة من الأقوال المشينة التي وردت في نزهة المشتاق «والصفحات التي يتحدث فيها عن جربة تمثل مدخلا ممتازا لدراسة انتشار المالكية داخل هذه الجزيرة، وحركتها المفوقة ضد نظام الخوارج بها بفضل دعم المراديين لها» (٢٩).
وتصحيح المؤلف لمصادره واكمال معلوماته فيما يتعلق ببعض المدن، المدن التي تعرف عليها مباشرة وألفها، فيه خطر، فاكتفاؤه بالنسبة للمدن الأخرى بنقل الإدريسي وغيره نقلا حرفيا دون أن يعطي لتأثير الزمن حقه فيها كما أعطاه لغيرها قد يوهم القارئ أن الحالة بقيت في عصره على ما كانت عليه في الماضي.
ولا بد أن نشير إلى خطر آخر تنبيها للقارئ، فالمؤلف - كما أشرنا - له ميوله الدينية والسياسية، والثانية امتدادا للأولى، فهو سنيّ راسخ العقيدة، فاختار ما يلائم هذا الإتجاه، وصنف كتابه على أساسه، فهو يتحيز للإسلام في معاركه ضد الكفار، والنرمان، فأسقط من نزهة المشتاق جل ما يتعلق باحتلال النرمان لبلاد الإسلام، ومالطة التي يرفق ذكرها بدعائه عليها «دمرها الله»، والصليبيين في الشرق، ويأخذ كذلك موقفا مماثلا تجاه الحركات المضادة للحكومات التي يراها شرعية، ومنها حركة أبي يزيد الخارجي، والحركة الشيعية الفاطمية، وحركة التتر، وفي آخر المطاف يتشيع للدولة العثمانية التي يرى فيها منقذ بلاده «من أهل الكفر والضلال»، فيمجد رجالها وأعمالها، كما يتشيع لعلي باشا الأول ويشيد بالجزائر العثمانية في بعض أوقاتها، ويغض الطرف عن تدخلاتها الحربية في تونس، وإن قبلنا تشيعه كرجل مؤمن مساير لتقاليد عصره فمن المتأكد علينا، إن بقينا في حيز التاريخ، أن نعتبر موقفه هذا من الأحداث موقف المتحذر.
_________
(٢٧) نفس المرجع ص: ٢٨٣.
(٢٨) النزهة ص: ١٤٨.
(٢٩) أحمد عبد السّلام، المصدر السابق، ص: ٢٨٣.
مقدمة / 24