Cahaya dan Rama-rama
النور والفراشة: رؤية جوته للإسلام وللأدبين العربي والفارسي مع النص الكامل للديوان الشرقي
Genre-genre
إهداء
مقدمة الطبعة الثانية
نحن والأدب العالمي
جوته والأدب العربي
جوته
كتاب المغني
كتاب حافظ
كتاب العشق
كتاب التفكير
كتاب الضيق
Halaman tidak diketahui
كتاب الحكم
كتاب تيمور
كتاب زليخا
كتاب الساقي
كتاب الأمثال
كتاب البارسي أو المجوسي
كتاب الفردوس
قصائد نشرت بعد وفاة جوته وضمت للديوان
شروح وهوامش
كتاب المغني
Halaman tidak diketahui
كتاب حافظ
كتاب العشق
كتاب التفكير
كتاب الضيق
كتاب الحكم
كتاب تيمور
كتاب زليخا
كتاب الساقي
كتاب الأمثال
كتاب البارسي أو المجوسي
Halaman tidak diketahui
كتاب الفردوس
قصائد نشرت بعد وفاة جوته وضمت للديوان
أهم المصادر
إهداء
مقدمة الطبعة الثانية
نحن والأدب العالمي
جوته والأدب العربي
جوته
كتاب المغني
كتاب حافظ
Halaman tidak diketahui
كتاب العشق
كتاب التفكير
كتاب الضيق
كتاب الحكم
كتاب تيمور
كتاب زليخا
كتاب الساقي
كتاب الأمثال
كتاب البارسي أو المجوسي
كتاب الفردوس
Halaman tidak diketahui
قصائد نشرت بعد وفاة جوته وضمت للديوان
شروح وهوامش
كتاب المغني
كتاب حافظ
كتاب العشق
كتاب التفكير
كتاب الضيق
كتاب الحكم
كتاب تيمور
كتاب زليخا
Halaman tidak diketahui
كتاب الساقي
كتاب الأمثال
كتاب البارسي أو المجوسي
كتاب الفردوس
قصائد نشرت بعد وفاة جوته وضمت للديوان
أهم المصادر
النور والفراشة
النور والفراشة
رؤية جوته للإسلام وللأدبين العربي والفارسي مع النص الكامل للديوان الشرقي
دراسة وترجمة
Halaman tidak diketahui
عبد الغفار مكاوي
إهداء
إلى أستاذي الدكتور فريتس شتيبات، «معهد الدراسات الإسلامية، جامعة برلين الحرة»،
أحببت بلادي وأحببتني،
علمتني ووقفت دائما بجانبي،
هل تقبل زهرة حب ووفاء من غرس يديك؟
مقدمة الطبعة الثانية
تمهيد
يكاد هذا الكتاب الذي تجده بين يديك أن يكون شبيها بقطرة الماء الصغيرة التي يروي لنا شاعر الديوان الشرقي قصتها في إحدى قصائده (وهي القصيدة الأولى من كتاب الأمثال). فقد حكمت الأقدار وظروف الطقس الجوي وتقلباته بأن تنفصل هذه القطرة عن أمها السحابة، وأن تسقط وهي ترتعش من الخوف وسط الأنواء الثائرة، فتعصف بها أمواج البحر الهادرة. وصمدت القطرة الصغيرة في هذا الصراع غير المتكافئ، ولم تتخل عن إيمانها وثقتها بنفسها، وحرستها عين القدرة وباركتها، فكافأها الله على شجاعتها وتواضعها ووهبها القوة والبقاء، وكان أن ضمتها محارة ساكنة إلى حضنها في هدوء. وأوت القطرة الصابرة إلى مسكنها الجديد وأخذت تنمو فيه على مر السنين حتى تحولت إلى لؤلؤة تنعم بالتكريم والخلود، وتسطع - في تاج أحد الملوك - بنظرة ساحرة سنية البهاء.
ولست أقصد من قصة قطرة الماء التي أصبحت لؤلؤة طيبة سوى أن أقول إن هذا الكتاب قد تقلبت به الظروف والتحولات حتى وصل إلى حالته الراهنة، ولا أضمن بطبيعة الحال أن يحظى بأي نوع من التقدير، دع عنك التكريم والخلود اللذين كانا من حظ القطرة الصامدة.
Halaman tidak diketahui
ولا يخالجني الظن ولا الطموح ولا حتى الأمل بأن يسطع بأي ضوء، ناهيك أن يكون نورا بهي السناء، لذا يكفيني ويرضيني أن يتلقاه القراء بنفس الحب الذي كتبته به، وأن يعفوا عن جوانب القصور أو التقصير التي يمكن أن يجدوها فيه ولا يسلم منها أي جهد بشري. ولهذا أستأذنكم في عرض قصته والتحولات التي مر بها عرضا مختصرا.
ظهر هذا الكتاب في طبعته الأولى في شكل كتيب رقيق أنيق، وذلك بفضل دار المعارف التي تكرمت بإصداره في سلسلة اقرأ (عدد فبراير سنة 1979م)، وبفضل الغلاف الجميل الذي رسمه الفنان الكبير جودة خليفة بريشته المبدعة التي صورت وجه «جوته» الرزين الحكيم وهو يتطلع إلى الأفق بنظرته العميقة النافذة، وتشع منه نفس الطمأنينة والثقة والحب الذي كتب به أعماله الباقية، واحتضن به العالم والإنسان والآداب العالمية في وحدة واحدة. وما زلت أذكر كيف كانت الأيام والليالي التي قضيتها في تأليفه من أمتع الأوقات التي عشتها في حياتي، بحيث تبدو لي اليوم أشبه بلحظة طويلة ممتدة أحب أن أسميها باللحظة الخالدة أو لحظة الأبدية، وهي تلك التي يشعر فيها الإنسان بأنه وجد نفسه وارتفع فوقها في نفس الوقت إلى نوع من الحضور النادر الذي يكاد أن يكون نعمة إلهية أو قطعة من الجنة السماوية التي يتاح لنا في حياتنا الأرضية الشقية أن نعيش فيها لحظات خاطفة تعدل العمر كله.
كنت قد اكتفيت في ذلك الكتيب بتعريف القارئ «بالديوان الشرقي-الغربي» تعريفا قصيرا يجذبه إليه ويعينه على تذوق بعض قصائده التي فاجأت صاحبه وانهمرت عليه انهمار المطر المبارك في فترة عصيبة ومتأخرة من حياته، فترة تلبدت فيها سماء بلاده بدخان حروب التحرير من قبضة نابليون وجيوشه، وعصفت بقلبه الكهل تجربة حب رائع وفاجع لشاعرة رقيقة وفاتنة من عمر ابنه الوحيد، وهي «مريانة فون فيلمر» التي أطلق عليها في الديوان اسم زليخا، وقدمت للكتيب بفصل قصير عن استلهام التراث العالمي كما فعل جوته عندما استلهم بعض الأصول العربية والفارسية والتركية في عدد كبير من قصائد ديوانه، وبلغ بي الوهم أو بلغت بي النية الطيبة في ذلك الحين أن تصورت هذا الاستلهام في صورة المنقذ أو طوق النجاة للإبداع العربي الراكد المياه، وعلى الرغم من تأكيدي المستمر بأن روافد الاستلهام عديدة ومتنوعة، وأن الأمر فيه يرجع في البداية والنهاية لتقدير المبدع وذوقه واختياره وموهبته، فيبدو لي اليوم أنني كنت أحاول أن أشجع نفسي على العودة للكتابة القصصية والمسرحية التي كانت أوراق شجرتها قد بدأت تجف وتتساقط ورقة بعد ورقة في هجير حالة الحصار التي كانت تطوقني - وأظن أنها تطوق بأشكال مختلفة كل من يحاول في بلادنا العربية أن يعكف على التفكير الحر والبحث والكتابة الحقيقية - بمتاعب التعليم الجامعي المتخلف، وألوان الإحباط العام والخاص، وضجيج السوق الثقافية الكاسدة بالأصوات المرتفعة من حناجر السماسرة والحواة والثوريين المزيفين، كما يبدو لي أن الموضوع كله لا يخلو من السذاجة إذا قيس بما يقال ويكتب ويترجم في هذه الأيام عن نظريات «التلقي» التي أصبحت فرعا هاما من فروع النقد الأدبي الحديث.
وانتقلت بعد ذلك إلى فصلين قصيرين عن جوته والعالم العربي وجوته والإسلام، اقتصرت فيهما على عرض الحقائق والمعلومات الضرورية دون الدخول في تفصيلات تحتاج لبحوث مستقلة. وكنت قد رجعت في ذلك الحين إلى كتيبين جميلين أصدرتهما الباحثة الكبيرة «كاترينا مومزن» عن «جوته والمعلقات» و«جوته والإسلام»، وذلك قبل أن تصدر كتابها الضخم «جوته والعالم العربي» الذي ضمت فيه هذين الكتيبين وأضافت إليهما بحوثا أخرى وتفصيلات دقيقة تتبعت فيها تطور علاقة جوته بالإسلام وبالأدب العربي تتبعا مرهقا كما سنرى بعد قليل، وكان آخر فصول الكتيب المذكور فصل أطول قليلا عن قصة الديوان الشرقي وارتباطه بتجارب حياة جوته وحبه في المرحلة الخصبة النادرة التي استرد فيها ربيع شبابه البيولوجي والإبداعي، بعد أن كاد يخنق أنفاسه خريف اليأس والملل والضيق من صغار الخصوم، والخوف من الشيخوخة الزاحفة. ثم ألحقت بالفصول الأربعة مختارات من قصائد الديوان التي هزتني في ذلك الحين وجعلتني أصوغ عددا منها في أشكال إيقاعية منظومة مع توخي الحذر من التصرف في معانيها وصورها الأصلية إلا في أضيق الحدود.
هكذا نمت القطرة الصغيرة المتواضعة في محارتها الساكنة حتى خرجت للنور على هيئة «الخرزة» الصغيرة التي حكيت لك عن قصتها ومحتوياتها. ولكن القطرة لم تقتنع منذ ذلك الحين بذلك المصير المتواضع، وظل الشوق يشتعل في قلبها بأن تصبح لؤلؤة ناصعة أو على الأقل خرزة كبيرة يمكن أن تنظر للناس «نظرة ساحرة بهية السناء». ولبثت قصائد الديوان تعمل عملها في عالمي الباطن وتلح علي أن أظهرها إلى النور في ثوب عربي ملائم وخال من البقع والخروق التي أساءت إليه.
وتفسير ذلك معناه السير على طريق شائك يحفه الحرج والخجل من كل ناحية. ولكنني سأحاول أن أخطو عليه الخطوات الضرورية التي تحتمها الأمانة ويفرضها حب الحقيقة وعدم السكوت عن الحق.
وقد علمنا أرسطو أن نحب الحقيقة أكثر من حبنا لأفلاطون وأصحاب الأكاديمية، كما علمتنا الروح الإسلامية أن نعرف الرجال بالحق ولا نعرف الحق بالرجال. ولا بد إذن من وقفة عاجلة أقدم فيها باقات التقدير الواجب - مع كل الحب والعرفان - لأستاذ جليل ورائد عملاق، لولاه ما عرف جيلي شيئا يذكر عن جوته أو غيره من المفكرين والفلاسفة والشعراء الذين يصعب حصر أسمائهم، مع بعض الأشواك القليلة التي تلازم قول الحق وإبداء الرأي النقدي حتى ولو صدر عن تلميذ متواضع يعلم تمام العلم مدى ما يدين به لأستاذه، كما يشعر أيضا بأن ذلك لن يغضبه، بل ربما أسعده؛ لأن من تمام أستاذية المعلم أن يكون تلاميذه خطوة بعده ، وحتى إذا لم يستطيعوا ذلك فلا أقل من أن لا يكونوا نسخة منه؛ وبيان ذلك كله أنني قمت أثناء العمل في ذلك الكتيب بمراجعة الترجمة العربية للديوان الشرقي التي أصدرها الأستاذ الكبير عن دار النهضة العربية في عام 1967م. وقد أذهلني الجهد الجبار الذي بذله أستاذي «عبد الرحمن بدوي» في هذا العمل - شأنه شأن سائر أعماله التي أربى عددها على المائتين - كما أعجبت أشد الإعجاب بالشروح الدقيقة المستفيضة التي ألحقها بكل قصيدة من قصائد الديوان التي زادت بدورها على الثلاثمائة، ولكنني ذهلت أيضا وصدمت لكثرة الأخطاء الجسيمة والمعاظلات الشنيعة في الترجمات الشعرية لبعض القصائد، كما أحسست بأن معظمها يلفه ضباب الغموض ويعكر صفوه سحاب التعقيد غير الضروري، على الرغم من سهولة الأصل وبساطته إلا في حالات استثنائية نادرة. دع عنك عذوبة النص الأصلي وحلاوة إيقاعه وأنغام قوافيه التي يقف أمامها بطبيعة الحال أي مترجم في أية لغة موقف العاجز القليل الحيلة. وربما زاد من دهشتي وحزني أن شاعر الديوان نفسه قد جعل السهولة والبساطة والإفهام هي القاعدة التي سار عليها في كل إنتاجه، ولا يقلل من ذلك ولا ينفيه أن يتلبس شعره شيء من الغموض الشفاف أو «السر المكشوف» على حد تعبيره، وأن نشعر بذلك في الديوان نفسه وإن اقتصر الأمر على قصائد معدودة بحكم ارتفاعها إلى آفاق صوفية ودينية وكونية شاملة (كما سنلمس ذلك في قصائد مثل «حنين مبارك» و«لقاء من جديد» و«أعلى والأعلى» التي أرجو أن تقربك إليها الشروح المفصلة في هذا الكتاب).
مهما يكن الأمر، فقد صممت القطرة الصغيرة المتواضعة - حتى بعد صدور الطبعة الأولى لهذا الكتاب قبل ما يقرب من العشرين عاما - على الرجوع إلى محارتها الساكنة، لعلها أن تنمو وتكتمل في شكل جديد، ولا أقول في صورة لؤلؤة ناصعة البريق؛ لأن مرجع الحكم في ذلك إلى القراء والنقاد. وشجعني على هذا القرار - برغم حالة الحصار التي استمر اختناقي فيها كما أشرت من قبل حتى بلغ حد الغدر والتطاول والإهانة من بعض الزملاء والأبناء - سامحهم الله - أقول شجعني عليه أن بعض الأصدقاء باركوه واستحثوني عليه، ويطيب لي أن أذكر منهم صفوة أصدقاء العمر مثل الشاعر الكبير «عبد العزيز المقالح» الذي كان أول من بشرني بصدوره وإعلان فرحته به أثناء وجودي بصنعاء وعملي بجامعتها، والشاعر الكبير المرحوم «صلاح عبد الصبور»، والكاتب القصصي والمسرحي والإذاعي «عبد الرحمن فهمي». ولكن القطرة بقيت حبيسة محارتها القلقة المضطربة مع غيرها من القطرات المحرومة من نور الشمس، إلى أن اتخذت قراري الخطر بالتفرغ الكامل للقراءة والكتابة فيما بقي من العمر، واستطعت أن أنتزع نفسي من عالم المنغصات والتفاهات اليومية لأجذبها إلى عالم هذا الديوان وأعكف على ترجمته وشرحه خلال العام الأخير، أي بعد أن جاوزت الخامسة والستين، وأصبحت - مع الفارق الشاسع بطبيعة الحال - في نفس السن التي عكف فيها صاحب الديوان على تجربته الفريدة.
ومن أهم العوامل التي دفعتني للإقبال على هذا العمل أن سلسلة «عالم المعرفة» المرموقة عهدت إلي قبل حوالي ثلاثة أعوام بالقيام بمراجعة ترجمة كتاب «جوته والعالم العربي» للسيدة «كاترينا مومزن»، وهي الترجمة التي قام بها الزميل الدكتور «عدنان عباس علي» المقيم بمدينة فرانكفورت. وقد أتاحت لي المراجعة الدقيقة للكتاب والتعليق عليه أن أعايش قصائد الديوان الشرقي مرة أخرى، وأجدد في نفسي العزم على إخراج القطرة من محارتها مهما كان الأمر، ومع أن الكتاب الأخير يحتوي (كما قلت) على تفصيلات بلغت الغاية من الدقة والاستقصاء، فقد أبقيت على فصول الطبعة الأولى كما هي عليه، باستثناء بعض التصويبات والإضافات الطفيفة التي لم تغير منها تغييرا يذكر. ومن شاء أن يستزيد من الموضوعات التي عالجتها في فصول الطبعة السابقة - مثل علاقة جوته بالأدب العربي وبالإسلام وبالظروف التي نشأت في ظلها بعض قصائد الديوان - فليرجع مشكورا إلى هذا الكتاب (الذي ظهر في شهر رمضان سنة 1415ه/فبراير سنة 1995م، في العدد 194 من السلسلة المذكورة).
بقي أن أقول إنني اعتمدت في ترجمة النص الأصلي للديوان وفي الشروح المستفيضة التي ألحقتها به اعتمادا أساسيا على طبعة هامبورج المشهورة لأعمال جوته، المجلد الثاني بإشراف الأستاذ «إريش ترونس»،
Halaman tidak diketahui
1
مع الاستعانة بطبعتي أرنست بويتلر (بريمن، 1956م، العدد 125 من سلسلة ديتريش)،
2
وهانز فايتس (مجموعة كتب الجيب لدار النشر إنزل، طبعة 1988م، مع ثلاث مقالات قيمة ملحقة بها للشاعر النمسوي «هوجو فون هوفمنستال»، والشاعرين الألمانيين «أوسكار لوركه» و«كارل كرولوف»).
3
ثم رأيت أخيرا أن أضيف عددا من الفصول أو الفقرات القصيرة التي تناول بعض الموضوعات والأسماء التي لم يتح لي أن أوفيها حقها لا في فصول الطبعة الأولى ولا في الشروح الملحقة بالديوان، مثل «ابن عربشاه» مؤرخ العصر المملوكي، و«مجنون بني عامر» (قيس بن ذريح)، و«المتنبي» و«أبي إسماعيل الطغرائي»، وقد تناولتهم السيدة «مومزن» في فصل مستقل من كتابها السابق لم يتيسر ضمه إلى الترجمة التي صدرت كما سبق القول في سلسلة عالم المعرفة، ولذلك أوجه بالشكر والتقدير والعرفان للأخ الدكتور «عدنان» الذي تفضل بإهدائي نسخة مخطوطة من ترجمته لهذا الفصل الذي لم يبلغ إلى علمي أن ظروف النشر المستعصية في بلادنا العربية قد سمحت بظهوره حتى الآن، كما أضفت في النهاية ثلاث فقرات حاولت فيها أن ألقي شيئا من الضوء على عالم الديوان، وعلى «الشعار» الشعري الذي استهل به جوته ديوانه كله وشرحته السيدة «مومزن» شرحا مدهشا في أحد فصول كتابها عن جوته وألف ليلة وليلة، وأخيرا بعض الأضواء على الطريقة التي اتبعتها في ترجمة قصائد الديوان، لا سيما تلك القصائد التي فرضت علي أن أنظمها شعرا أو على الأقل أن أضعها في قالب إيقاعي حر دون الخروج عن الأصل أو التصرف فيه إلا في أضيق الحدود.
وأخيرا فهذه هي القطرة الصابرة بين يديك، والأمر متروك لك في الحكم عليها، وسواء رأيت مثلي أنها خرزة متواضعة الحال أو شاء كرم نفسك أن تعتبرها لؤلؤة متواضعة البريق أيضا، فإنني أتمنى أن تحبها كما أحببتها، وأن تصادق هذا الكتاب كما صادقته سنوات طويلة وتعايشه وتعيش معه. والحمد لله أولا وأخيرا، فمنه وحده ألتمس العفو عن التقصير، وإليه وحده ألجأ، وإليه المصير. (1) بعض الأدباء والشعراء العرب والإسلاميين في الديوان
عرضنا في الفصل الثاني من هذا الكتاب مدى تأثر جوته بالشعر الجاهلي وشعراء المعلقات بوجه خاص، ومن أهمهم «زهير بن أبي سلمى»، الذي استوحاه الشاعر الألماني بعض حكمه التي توصف بالحكم الأليفة أو المدجنة. كما وقفنا أيضا - في الفصل الخاص بجوته والإسلام - على مدى إعجاب الشاعر بالروح الإسلامية واستلهامه للعديد من الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة التي انعكست على بعض قصائد الديوان «وجوه» الإسلامي بوجه عام، وقد ذكر الشاعر أسماء عدد من الشعراء العرب والمسلمين بشكل عابر في عدد من كتب الديوان، وتكرر بعض هذه الأسماء أكثر من مرة (مثل اسم مجنون بني عامر، واسم كثير عزة في سياق حديثه عن العشق والعشاق).
وعلينا الآن أن نقف وقفة أطول عند أصحاب هذه الأسماء، والمصادر التي تعرف منها الشاعر إليهم، ومدى علمه بهم، وانعكاس ذلك كله على القصائد التي ذكر فيها أسماءهم، أو على ملاحظاته وتعليقاته الملحقة بالديوان التي تطرقت للكلام عن نفر منهم. (1-1) ونبدأ بأبي العباس أحمد بن عربشاه (1389-1450م)
المؤرخ الذي عاش في العصر المملوكي، ووضع كتابه المعروف الذي استهزأ فيه بتيمورلنك استهزاء مرا وهو «عجائب المقدور في نوائب تيمور». وقد وقع جوته على فقرة مسجوعة من هذا الكتاب في ترجمة لاتينية قام بها مترجم المعلقات المشهور «وليم جونز» في كتابه «أشعار آسيوية» (1774م)، فألهمت شاعرنا قصيدته القصصية أو قصته الشعرية المطولة التي تشغل الحيز الأكبر من كتاب تيمور، وهي قصيدة «الشتاء وتيمور» التي لا تخلو من مسحة درامية؛ إذ يقوم فيها الشتاء بزجر «تيمور» على وحشيته وقسوته دون أن ينبس الطاغية المغولي بحرف واحد.
Halaman tidak diketahui
ونحن نعلم من مذكرات جوته اليومية أنه نظم هذه القصيدة في مدينة «يينا» في اليوم الحادي عشر من شهر ديسمبر سنة 1814م، كما أن ملاحظاته التالية التي دونها عن «ابن عربشاه» لا تزال موجودة بخط يده إلى الآن (توفي عام 1450م، ابن عربشاه، عربي، قصة تيمورلنك في جزأين، الأول يتناول قصة تيمورلنك، والثاني قصة ابن أخيه خليل سلطان، عجائب المقدور في أخبار تيمور، الأفعال الإلهية العجيبة في قصة أعمال تيمور ).
التزم جوته بالنص اللاتيني، واستقى منه البداية الملحمية والنهاية الدرامية لقصيدته المذكورة بصورة مباشرة. ولعل هذا النص أن يكون قد أثر أيضا بصورة غير مباشرة على مرونة الإيقاع وسيولته، والبعد عن المجاز والرموز، وطول النفس والجيشان الانفعالي «للخطاب». وإليك النص العربي الأصلي الذي رجع إليه الشاعر في ترجمته اللاتينية، وذلك لإمكان المقارنة بينه وبين القصيدة التي يمكنك الاطلاع عليها في كتاب تيمور، وهو الكتاب السابع في ترتيب كتب الديوان:
فجال بينهم الشتاء بجفاف عواصفه، وبث فيهم حواصب قواصفه، وأقام عليهم نايحات صراصره، وحاكم فيهم زعازع صنابره، وحل بناديه وطفق يناديه مهلا يا مشئوم، رويدا أيها الظلام الغشوم، فإلى متى تحرق القلب بنارك، وتلهب الأكباد بأوامك وأوارك، فإن كنت أحد نفسي جهنم فإني أنا ثاني النفسين، ونحن شبحان اقترنا في استيصال البلاد والعباد، فانحبس بقران النحسين، وإن كنت بردت النفوس وبردت الأنفاس فنفحات زمهريري منك أبرد، أو كان في جرايدك من جرد المسلمين بالعذاب فأصماهم وأصمهم ففي أيامي، بعون الله، ما هو أصم وأجرد، فوالله لا حابيتك، فخذ ما أتيتك، والله لا يحميك يا شيخ من برد المنون لواعج جمر محمرة ولا واهج لهيب في كانون.
والنظرة الخاطفة إلى هذا النص تبين للقارئ منذ سطوره الأولى مدى تأثر جوته به إلى حد الترجمة عنه. صحيح أن قول ابن عربشاه «وحل بناديه وطفق يناديه ...» قد حولته فطرة جوته القصصية والمسرحية إلى حوار ينذر فيه الشتاء المخاطب الذي لا تخرج من فمه كلمة واحدة، وهو تيمور الذي يبدو أنه تجمد من برده ومن زجره وتوعده، ولكن حتى هذا الحوار نفسه كامن على سبيل القوة أو الإمكان - إذا جاز هنا أن نستخدم لغة أرسطو! - في نص ابن عربشاه، ولم يكن على شاعر الديوان الشرقي إلى أن يحققه بالفعل ويبرزه إلى العلن، ولا بد أن التناظر العجيب بين «تيمور» و«نابليون» قد خطر على ذهن القارئ بعد قراءته لنص ابن عربشاه ولقصيدة جوته. فقد قضى الشتاء على تيمور أثناء إعداده لحملته على الصين، وجمد جيوش نابليون على أبواب موسكو. ولا بد أيضا أن تكون هزيمة نابليون قد هزت وجدان جوته وجعلته يفكر في المصير الفاجع الذي آل إليه طغيان البطل العبقري الذي طالما أعجب به. وأخيرا فلا بد أن نسأل أنفسنا لماذا لم يكتب هذه القصيدة إلا في وقت متأخر، أي في شهر ديسمبر سنة 1814م؟ لقد شهدت أوروبا كلها على هزيمة نابليون، وعرف جوته بغير شك أن المتجمد العظيم من البرد قد مرت عربته في خفية عن الأعين بمدينة «فيمار» بعد فشل حملته الروسية، كما عرف بالرسالة التي بعث بها أميره كارل أوجست إلى صديقتهما المشتركة الدوقة أدونيل (التي كانت وصيفة إمبراطورة النمسا ماريا لودفيكا التي عبدها في صمت!) وقال فيها: «لقد مر من هنا بعربة الخزي والعار ذلك المتجمد من البرد والذي لا أريد ذكر اسمه ها هنا.» ثم إنه قد قرأ تلك الدعوة التي وجهتها الصحيفة الأدبية العامة التي كانت تصدر في مدينة «يينا» إلى القراء والأدباء في شهر مارس عام 1814م، وأهابت بهم أن يأخذوا من الحدث الكبير مادة ملحمة تعبر عن المشاعر القومية الألمانية، وأن يلاحظوا أن الإرادة الإلهية قد مهدت في روسيا لهذه الملحمة. والجواب عن السؤال السابق هو أن جوته لم يكن على استعداد لتلبية هذه الدعوة «القومية»، إما بسبب إعجابه القديم بنابليون، وإما بسبب نفوره الطبيعي من الأعمال الأدبية ذات اللهجة الطنانة التي ظهر منها الكثير أثناء حروب التحرير، بجانب معالجته لمثل هذه الملاحم القومية بطريقته الخاصة (كما فعل في ملحمته الشعبية هرمان ودورثيا التي ترجمها للعربية المرحوم الدكتور محمد عوض محمد). لا يبقى إذن إلا القول بأن قراءته لنص ابن عربشاه في شهر ديسمبر عام 1814م هي التي حركته لكتابة قصيدته الملحمية عن الشتاء وتيمور، بعد اطلاعه على البيان الرائع عن حملة تيمور، ولا شك في أن هزيمة جيوش نابليون على أبواب موسكو سنة 1812م كانت تطوف في ذهن الشاعر وخياله عندما شخص الشتاء في صورة قاض صارم ينذر بإنزال العقاب الرادع على تيمور الذي عاجله الموت - كما سبق القول - أثناء إعداده لحملته الشتوية على الصين، بينما كان البرد القارص يداهم جيوشه ويفتك بها. وهكذا يكون الشاعر - كما قال عن كتاب تيمور ضمن إعلانه عن ظهور الديوان سنة 1816م - قد نظر إلى الأحداث العالمية التي كانت تدور حوله - وهي الهزائم التي لحقت بنابليون - كما نظر إلى كتاب تيمور في ديوانه كما لو كانا «مرآة نرى فيها، لعزائنا أو لبلائنا، انعكاس مصائرنا نحن.»
ويذكرنا هذا التناظر بين مصير نابليون (1769-1821م) ومصير تيمورلنك (1336-1405م) بشيء آخر ربما يكون قد طاف أيضا بذهن جوته وخياله أثناء كتابة قصيدته المطولة، ذلك هو التناظر بينه وبين توءم روحه حافظ الشيرازي الذي كان ديوان شعره - إلى جانب تجربة الحب العارم - هما أكبر حافز له على تأليف ديوانه الشرقي. فقد قرأ ما كتبه «فون همر» عن حافظ وكيف اقترنت حياته بالصراعات الصاخبة بين الأسر الحاكمة في بلاده، حتى هبت عاصفة تيمور المدمرة على بلاد فارس في أواخر حياته، وقدم هو نفسه إلى هذا الفاتح ونال بركته واستحسانه (والمعروف أن جوته نفسه قد قابل نابليون في سنة 1808م مقابلة قصيرة، وأن هذا الطاغية العبقري قد هتف عندما رآه قائلا لقواده المحيطين به: هاكم رجلا). ثم أخذ يتحدث معه بمودة وإعجاب عن روايته «آلام فيرتر»، ويبدي عليها بعض الملاحظات - فيا له من تناظر بين أقدار القائدين والشاعرين! وكم يزيد من إعجابنا بهذين الشاعرين أنهما لم ينتظرا حتى يحل السلام والهدوء لينشدا أغانيهما الشجية الألحان، بل راح كلاهما يشدو بشعره رغم قصف الرعود وتدفق أنهار الدماء والأحزان. وها هي أغانيهما تتردد حتى الآن بينما لا تذكر أسماء تيمور ونابليون وغيرهما من جبابرة الطغاة إلا وتصب على رءوسهم اللعنات، وربما يتذكر الذاكرون اسمي حافظ وجوته وغيرهما من عظام الشعراء فتنبض قلوبهم بالحب والعرفان، وتعرف أن الشعر لا يموت أبدا ولا يتخلى عن دوره في تحدي القهر والظلم بالنغم والغناء، وإنقاذ العالم والبشر من الموت والخراب والضلال بهمساته الحيية العذبة بلسان الحياة والحرية والحب والحق والجمال. (1-2) المتنبي
تدل جميع السياقات التي ورد فيها اسم شاعر العربية الأشهر في كتابات جوته على أنه أكبر شخصيته إكبارا عظيما، حتى لقد عبر في إحدى قصائد كتاب زليخا - كما سنرى بعد قليل - عن رغبته في تقمص روح المتنبي الذي قدم اسمه في نفس البيت على اسم أشهر شاعرين فارسيين، وهما حافظ وسعدي. ولم يمنعه من ذلك أن المتنبي كان في ذلك الوقت شبه مجهول في أوروبا، ولعل المستشرقين لم ينتبهوا بصورة جادة إلى مكانته في الأدب العربي إلا بعد أن عرفوا مدى تقدير جوته له في ديوانه الشرقي، إذ لم تكن المختارات القليلة التي قدمها «يوسف فون همر» في سنة 1816م - ولم تزد على تسع قصائد من شعر الصبا - كافية لتسليط الضوء عليه، ولهذا لا نعجب إذا رأينا هذا المترجم نفسه ينشر ترجمته الكاملة لديوان المتنبي بعد سنوات قليلة من صدور «الديوان الشرقي». وترجح الباحثة الكبيرة «كاترينا مومزن» أن يكون جوته قد سمع عن المتنبي وقرأ له وهو بعد طالب لا يتعدى السادسة عشرة من عمره في ليبزيج. ففي عام 1765م، كانت ليبزيج تحتفل بإقامة معرض الكتاب بها، وكان «يوهان يعقوب رايسكه» - وهو من أكبر المستعربين في ذلك الحين - قد نشر كتابه «مختارات غزلية وحزينة من ديوان المتنبي بالعربية والألمانية مع شروحها»، وربما تكون هذه المختارات قد أوحت «لهردر» ببعض الخواطر التي ضمنها كتابه عن الشعر الوجداني الذي لا يستبعد أيضا أن يكون جوته قد اطلع عليها.
وتتتبع السيدة مومزن آثار هذه المعلومات القليلة عن المتنبي عن إنتاج جوته اللاحق، سواء في القسم الثاني من فاوست (في كلام مفيستوفيلس عن نموذج الجمال الأنثوي في مشهد ليلة الفالبرج الكلاسيكية) أو في الديوان الشرقي. فقد رجع في مرحلة عكوفه على الديوان إلى كتاب رايسكه السابق الذكر، وأفاد منه في كتابة السطور القليلة في «تعليقاته وأبحاثه الملحقة بالديوان» عن صفات المتنبي وخصائصه، كما ألهمته القصائد الغزلية المنتخبة فيه بقصيدته الحوارية البديعة وهي «سماح» من كتاب الفردوس (وقد كتبها في أبريل سنة 1820م، أي بعد صدور الطبعة الأولى للديوان سنة 1819م، لكي تضم مع غيرها للطبعة اللاحقة في سنة 1827م) والقارئ الذي يطالع هذه القصيدة مع قصيدة سابقة لها، وهي «رجال موعودون» سيجد أن مضمونهما واحد مع شيء من الاختلاف؛ ألا وهي الصفات التي تؤهل أصحابها للإذن لهم بدخول جنة الفردوس. ففي القصيدة الأخيرة «رجال موعودون» كان البطل المسموح له بالدخول هو الذي «يحمل الجرح الذي أصيب به في سبيل الإيمان». أما في هذه القصيدة «سماح»، فإن الحورية تمنع «حاتم» من الدخول لأنه خال من الجراح التي أصابت شهداء العقيدة، ثم تقتنع بصدق كلامه عن «جراح الحياة والحب» التي عاناها وتعطيه الحق في الدخول، ولا بد أن الفكرة التي تقول إن قتيل الحب شهيد عند المسلمين، قد استوحاها شاعر الديوان من بيتين للمتنبي ترجمهما رايسكه فيما ترجم من قصائد في الغزل وأثرت على قصيدته. ويكفي أن نورد البيتين الأصليين لنعلم أن التأثر هنا غير مستبعد:
كم قتيل كما قتلت شهيد
لبياض الطلى وورد الخدود
وعيون المها ولا كعيون
Halaman tidak diketahui
فتكت بالمتيم المعمود
وسواء أكان شاعر الديوان قد تأثر أساسا بهذين البيتين أم عرف من قراءاته الواسعة عن الإسلام وعن حياة الرسول الكريم أن المحب الذي يعف في حبه يموت شهيدا، مصداقا للحديث النبوي المشهور، فإن دور المتنبي في تنبيهه إلى الاستشهاد في سبيل الحب لن يكون في الحالين دورا هامشيا ولا بعيدا عن التصور، أضف إلى هذا أن العشق الطاهر الصادق في إنتاجه السابق - كما تمثل في شخصيات فيرتر وتوركواتو تاسو وأتيليه في رواية الأنساب المختارة وفي جريتشن في القسم الأول من فاوست - قد انتهى بأصحابه إلى الموت أو الجنون أو الزهد الذي يقترب من القداسة.
وربما يكون جوته قد تأثر في قصائد أخرى في كتاب الفردوس أو غيره من كتب الديوان ببعض المعاني التي توحي بها بقية أبيات القصيدة السابقة للمتنبي، كصورة المحب المتأرجح بين السقم والعافية، أو كلامه عن المسك الذي تحمله الريح من غدائر المحبوبة، أو تحريم كل شيء من الدماء ما خلا ابنة العنقود، أو الشعور بالتعاظم والتفوق والفخر بالنفس:
لا بقومي شرفت بل شرفوا بي
وبنفسي فخرت لا بجدودي
الذي يتردد - كما بينا في الشروح - في كثير جدا من قصائد الديوان، ثم الإحساس بأن الشاعر العربي متجول مثله، وأنه غريب وعظيم كتب عليه أن يعيش وسط الصغار والأوساط، كل ذلك وغيره قد جعل من المرجح أن يكون شاعر الديوان قد أحس بمدى التعاطف الذي يجمعه بشخصية المتنبي وبشعره الذي لم يتح له الاطلاع إلا على القليل منه.
4 (1-3) مجنون بني عامر
ورد اسم المجنون - أي مجنون بني عامر والشاعر العذري قيس بن ذريح - بنطقه العربي ورسمه الأجنبي مقترنا بحبيبته ليلى أكثر من مرة في الديوان الشرقي. ويبدو أن اهتمام جوته بشخصية المجنون يرجع إلى فترة زمنية أسبق من فترة انشغاله بالديوان؛ إذ نجده يدون عبارة «المجنون وليلى» في دفتر مذكراته اليومية بتاريخ 26 / 5 / 1808م، كما يبدو أنه دونها أثناء إقامتها للاستشفاء في كارلزباد وسماعه عن قصة الشاعر الفارسي نور الدين عبد الرحمن جامي (1414-1492م) التي كانت ترجمتها الألمانية للمستشرق هارتمان قد ظهرت في ذلك الحين وهي «ليلى والمجنون»، والمؤكد أنه وجد في المجنون وليلاه، المثل الأعلى للحب الذي تغنى به من خلال نماذج المحبين الصادقين الذين يشيد بهم في أول قصائد كتاب العشق، يدل على هذا أن اهتمامه بهما تجدد مرة أخرى إبان مغامرة حبه السعيد اليائس ل «مريانة» وتدفق قصائد الديوان على قلبه وخياله، إذ رجع في اليوم الأول من شهر مارس لعام 1815م - وهو اليوم الذي قرأ فيه قصة جامي «ليلى والمجنون» - إلى مذكراته اليومية السابقة وخط فيها هذه العبارة الدالة: «استحوذ المجنون وليلى، كمثال لحب لا يعرف الحدود، على المشاعر ونالا العطف والود من جديد.»
والأمر المؤكد أيضا أن الشاعر والعاشق الكهل قد اقترب من المجنون اقترابا حميما منذ بدأت ترجمة «همر» لديوان حافظ الشيرازي (من حوالي 726ه/1326م إلى حوالي 972ه/1390م) تشد إليها بصره وقلبه وتأسر لبه، أي منذ شهور مايو عام 1814م. ولعل أكثر ما جذبه إلى المجنون وحببه فيه بعض رباعيات حافظ التي يتقمص فيها شخص المجنون ويقول فيها: «أنا المجنون الذي لم يستبدل بليلى كل بلاد العرب وفارس.» أو قوله في غزلية أخرى: «في درب ليلى المليء بالمخاطر، والمحفوف بالمشاق، أقسى ما تلقى هو أن تكون المجنون.»
ولا شك أن النموذج المثالي للحب الطاهر العنيف، وللمحب الذي يموت شهيدا في سبيله، هو الذي استأثر باهتمام جوته كلما وقع في ديوان حافظ على اسم المجنون، بل كلما أغفل ذكر اسمه كما نجد في هذه الرباعية: (أيا نسيم الصبا من ديار ليلى، أقسم عليك بالله أن تقول لي: إلى متى يتعين علي أن أروي الصحاري بالدموع؟)
Halaman tidak diketahui
مهما يكن الأمر، فقد ظلت صورة العاشق العذري - الذي ذكرت مقدمة هارتمان المستفيضة لترجمته لقصة جامي السابقة أنه كان كذلك شاعرا رقيقا ومرموقا - ظلت حية في عقل ووجدان شاعر الديوان الغارق في نعيم حبه عندما كتب في أحد أيام شهر مايو سنة 1815م القصيدة التي استهل بها كتاب العشق - كما ذكرنا من قبل - ووضع فيها ثنائي ليلى والمجنون بين الأزواج الستة من العشاق الذين رسموا في رأيه أمثلة خالدة للحب الطاهر الذي هوى بمعظمهم إلى الجحيم وسمح لبعضهم، وهم كثير وعزة وسليمان وبلقيس، بالدخول من أبواب النعيم: «أنصت واحفظ (في ذاكرتك) قصص العشاق الستة، الكلمة تطلق شررا يشعله الحب رستم مع روذابه، مجهولان لبعضهما، لكن أحدهما بجوار الآخر: يوسف وزليخا، والحب مع الحرمان، فرهاد مع شيرين، ما عرفا إلا الحب: ليلى والمجنون ... إلخ» (راجع القصيدة وشرحها ضمن كتاب العشق).
ومع أن جوته قد ذكر اسم المجنون في أكثر من موضع من قصائد الديوان،
5
فقد بقي عنده - على حد تعبير عالم النفس الشهير كارل جوستاف يونج - أشبه بنموذج أولي أو نمط أصلي للحب المثالي - تشهد على هذا الأبيات القليلة من قصيدة اتهام، ثانية قصائد كتاب حافظ، التي تصف بعض أطوار ونوادر الشاعر العاشق المشهور دون أن تذكر اسمه ولا وصفه:
وهل يعرف من يتصرف دائما تصرف المجانين من الذي يسير معه أو يرافقه التجوال؟ إن حبه العنيد الذي يجعله يتخطى الحدود، يدفعه إلى القفار (يهيم فيها كالشريد)، وقوافي شكاواه التي يسطرها على الرمال، تذروها على الفور الرياح، إنه لا يفهم ولا يعي ما يقول، وما يقوله لا يتمسك به (ولا يحافظ عليه)، ومع ذلك فإنهم يتركون أغنيته تسيطر على القلوب ... إلخ.
ومن الواضح أن هذا الذي يجعل حبه العنيد يتخطى كل الحدود، ويدفعه إلى الفيافي يهيم فيها كالشريد، ويسطر قوافي شكاواه على الرمال فتذروها الرياح - من الواضح أنه ليس شخصا ولا شاعرا آخر غير مجنون بني عامر الذي اضطروا رغم ما نسج حوله من أساطير، بل رغم إنكار بعض مؤرخي الأدب، مثل أبي الفرج الأصفهاني مثلا لوجوده التاريخي أصلا! - اضطروا لأن يتركوا أغنيته تسيطر على القلوب، وربما يعزي روح العاشق المسكين والشاعر العذري الرقيق عما أصابه في حياته على يد الأهل والسلطة، وربما على يد ليلى العامرية نفسها، أن يعلي شاعر الديوان من شأنه ويتخذه صاحبا ورفيقا في الدنيا وفي جنة الفردوس، بل وأن يتعرف فيه على ملامح شخصيته هو نفسه، سواء كما تجلت في الديوان، أو في بعض أعماله السابقة التي أود فيها العشق بأصحابه، إلى الموت أو الجنون أو الزهادة في الدنيا والناس. (1-4) أبو إسماعيل الطغرائي
في إحدى قصائد الديوان، وهي القصيدة الثالثة من كتاب زليخا، يختار الشاعر لنفسه اسم حاتم، ولكنه يسارع إلى القول بأنه لا يملك في فقره أن يكون حاتم الطائي أكرم الكرماء، ولا يطمح أن يكون «حاتم الطغرائي» أغنى شعراء عصره، وإن كان يضع كليهما «نصب عينيه» ولا يجد في ذلك عيبا ولا حرجا، وقد تحير الشراح طويلا أمام وضع اسم حاتم مع اسم الطغرائي، وأجمعت الطبعات المختلفة للديوان على أن ذلك كان مجرد سهو من جوته الذي سمى الطغرائي باسم حاتم بدلا من أبي إسماعيل صاحب «لامية العجم» الشهير. وبقي الشراح على هذا الرأي حتى تبين في عام 1951م لأحد الباحثين في أدب جوته (وهو الأستاذ فايتس) أن شاعر الديوان كان قد اطلع على ترجمة ألمانية كاملة عن اللاتينية لهذه القصيدة أرسلها إليه أحد أصدقائه الأعزاء (ونسختها محفوظة إلى اليوم في أرشيف جوته وشيلر بمدينة فيمار) فلنبدأ بقراءة القصيدة التي ذكرناها من كتاب زليخا قبل أن نحللها، لنرى مدى تأثرها بلامية الطغرائي، ونتحقق مما إذا كانت تسميته بحاتم مجرد سهو وقع فيه شاعر الديوان أم كانت مقصودة ولها أسبابها العميقة ومراميها البعيدة:
لما كنت تسمين زليخا،
فعلي كذلك أن أحمل اسما.
وعندما تتغنين بحبيبك،
Halaman tidak diketahui
فليكن حاتم هو اسمه،
كي يعرفني الناس به،
وليس في ذلك أي ادعاء:
فمن يدعو نفسه فارس القديس جرجس،
لا يتبادر إلى ذهنه أنه هو هذا القديس.
وأنا في فقري لا أملك أن أكون
حاتم الطائي أكرم الكرماء،
لا ولا أطمع أن أكون حاتم الطغرائي
أغنى الشعراء الأحياء في زمانه،
لكن وضع الاثنين نصب عيني
Halaman tidak diketahui
لن يكون بالأمر المعيب:
فأخذ هدايا السعادة وإعطاؤها
سيبقى على الدهر متعة عظيمة،
وإسعاد حبيب لحبيبه،
سيكون نعيم الفردوس.
ويرجع تاريخ نظم هذه القصيدة إلى اليوم الرابع والعشرين من شهر مايو سنة 1815م؛ إذ كتبها الشاعر في «أيزناخ» وهو في طريقة لزيارة أصدقائه وأسرة حبيبته في منطقة نهري الراين والماين. وقد أسعده الحظ قبل قيامه بهذه الرحلة بأسابيع قليلة بوصول رسالة من صديقه «كنيبل» (وهو كارل لودفيج من 1744م إلى 1834م الذي ترجم بعض الأعمال من الأدب الروماني، لبربيرز ولوكريس، وتبادل رسائل هامة مع جوته. وكان مثله مولعا بالآداب الشرقية) تحمل معها نسخة من ترجمته لقصيدة عربية طويلة عن اللاتينية سبق أن نشرها في عام 1800م في مجلة عطارد الألمانية.
6
وشدت القصيدة العربية الطويلة - وهي لامية العجم كما سبق القول - اهتمام جوته، وربما وجد في ذلك المزيج الغريب الذي تحتوي عليه أبياتها المعبرة بصدق وقوة وغضب عن شخصية صاحبها الممتحن في حياته، ما أشعره بقربه الحميم من شخصيته هو نفسه، ففيها الشكوى المرة من قسوة الزمن عليه، ومحاصرة معاصريه له بالكراهية والحسد والكيد والغدر، وفيها التحدي الرائع لقدره ولأعدائه والتصميم على تحقيق طموحه إلى المنصب (الوزارة) والمجد وملء حياته بالأعمال والإنجازات التي تخلد ذكره وتليق بهمته العالية، وفيها كذلك التفاخر بالنفس والتغني بالفضيلة والعظمة وسط العالم الصغير المحيط في دولة «الأوغاد والسفل»، وفيها حكمة اليائس العنيد الذي يتحسر على عمره الضائع ويصر مع ذلك على صدقه مع نفسه وترفعه عن أن «ترعى مع الهمل». وطلب جوته من مكتبة فيمار معجم هيبرلو «المكتبة الشرقية» - كما هي عادته في الرجوع إليه في الأمور المتعلقة بالشرق - ليعرف منه شيئا عن الطغرائي، فوجد في الجزء الثاني منه، ص488، عبارات شحيحة تقول إنه شاعر عربي من أصل فارسي، وأنه كان غنيا في الفضائل والخصال الحميدة التي يسمي الإيطاليون من يتحلى بها باسم المتميز أو المتفرد النابغة (الفيرتووزو).
7
ولعل من أهم ما لفت انتباه جوته إلى الطغرائي أنه شغل مثله الوزارة لدى أحد ملوك السلاجقة ولم ينج طوال حياته من خيانة الصغار المحيطين به وحسدهم وافترائهم عليه، وربما أعجبه أيضا أن قصيدته تصور مسيرة حياته بصورة مأخوذة من الحياة البدوية التي تنعكس أيضا على بنائها الذي يشبه بناء القصيدة الجاهلية التي طالما أعجب بها عندما عكف على قراءة المعلقات وترجم جزءا من معلقة امرئ القيس، فضلا عن ترجمته لقصيدة تأبط شرا كما ستعرف ذلك من الفصل الخاص بجوته والأدب العربي. وأخيرا، فإن تفاخر الشاعر بنفسه، واعتزازه بخلقه ومواهبه وحكمته وخبرته واطلاعه على أسرار الحياة والناس، جعله شديد القرب منه إلى الحد الذي حفزه على التوحد بشخصيته وتسمية نفسه حاتم الطغرائي ليجمع في هذا الاسم بين أكرم الكرماء، وهو حاتم الطائي، وبين أغنى الأحياء بين الشعراء، وهو الطغرائي الذي عاش بعد حاتم بخمسمائة عام، ولم يكن من قبيل الصدفة أن يذكر اسم القديس جورج أو جرجس بينهما (وهو القديس المحلي لمدينة أيزناخ التي كتبت فيها القصيدة)؛ إذ يرمي من وراء ذلك إلى أن كليهما يتمتع بسجايا القديسين، سواء في السخاء والعطاء المادي غير المحدود أو في الغنى الباطني بالفضائل والقيم الرفيعة والعطاء الشعري والعملي بغير حدود أيضا.
Halaman tidak diketahui
ولا شك في أن جوته قد نظر إلى الوراء بمنظار الشيخوخة إلى مسيرة حياته كما فعل الطغرائي في لاميته، فرأى العوامل المشتركة التي تجمع بينهما، فكلاهما كان شاعرا ورجل دولة، وكلاهما وجد نفسه محاطا بالحقد والغدر والصغار، وشعر بالإحباط وخيبة الأمل والرغبة في الاعتزال والصمت، ولعل هذا هو الذي دفعه لاستنساخ بعض أبيات القصيدة وتوزيعها على بعض أصدقائه في فراكفورت، وهي أكثر أبيات اللامية تعبيرا عن الحياة الخصبة العريضة التي ملأها صاحبها بالعمل والنشاط والخبرة، وملأها الصغار من حوله بالإحباط والمرارة وخيبة الأمل التي لم تقلل أبدا من طموحه إلى المجد والشرف. ولا بد أن يكون قد رأى نفسه في مرآة أبيات كهذه من لامية الشاعر العربي الفارسي الأصل:
حب السلامة يثني هم صاحبه
عن المعالي ويغري المرء بالكسل
فإن جنحت إليه فاتخذ نفقا
في الأرض أو سلما في الجو فاعتزل
ودع غمار العلى للمقدمين على
ركوبها واقتنع منهن بالبلل
إن العلى حدثتني وهي صادقة
فيما تحدث أن العز في النقل
لو أن في شرف المأوى بلوغ منى
Halaman tidak diketahui
لم تبرح الشمس يوما دارة الحمل
وربما وجد نفسه أيضا ووجد حياته التي قضاها في التنقل والترحال طلبا للمعرفة والمزيد من الخبرة والتجربة، ما فعل بطلاه فاوست وفيلهلم ميستر، في أبيات كهذه التي تذكرنا بمغامرات جلجاميش أو برحلات أوديسيوس بين المدن والجزر والبحار:
يا واردا سؤر عيش كله كدر
أنفقت صفوك في أيامك الأول
فيم اقتحامك لج البحر تركبه
وأنت تكفيك منه مصة الوشل
لقد عرف كلاهما الكثير وجرب الكثير، وبقدر ما أوغلا في بحار المعرفة والتجربة، بقدر ما عانى كلاهما من قسوة خيبة الأمل ومن عيش كان حصاده هو الكدر والملل، وربما كانت الحكمة الأخيرة فيه هي الصمت:
ويا خبيرا على الأسرار مطلعا
اصمت ففي الصمت منجاة من الزلل
قد رشحوك لأمر إن فطنت له
Halaman tidak diketahui
فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
ومن الطبيعي أن ينتهي تأمل جوته للامية وإعجابه بثرائها النادر بالتجارب المتنوعة والصور القوية الحية إلى أن يصف صاحبها بأنه «أغنى الأحياء من الشعراء»، وأن يبلغ به الأمر أن يوحد شخصه به، فيقرن اسمه باسم حاتم الذي اختاره لنفسه، كأنما أراد أن يؤكد بذلك أن الثراء المادي والروحي مع البذل والعطاء بغير حدود قد اجتمعا في هذا الشاعر الذي لا يطمع أن يكون مثله ولا أن يقيس نفسه به، وإنما يكتفي بأن يضعه نصب عينيه دون أن يلومه أحد؛ لأن أخذ هدايا السعادة وإعطاءها - كما يوحي بذلك اسم الحاتمين وغناهما الظاهري والباطني - سيبقى على الدهر متعة عظيمة، كما أن إسعاده لحبيبته، التي نسخت منه قصيدة الطغرائي وأشارت لبعض أبياتها في رسائلها المتأخرة إليه بعد فراقهما بسنوات طويلة،
8
قد جعله يستحق في عينيها وفي عيوننا أن يسمى حاتم، وأن يضاف لهذا الاسم اسم الطغرائي. (2) ألف ليلة وليلة في الديوان
صحب جوته ألف ليلة وليلة وصحبته من صباه الباكر إلى شيخوخته المتأخرة، وأثرت حكاياتها الساحرة تأثيرا واضحا وصريحا على الكثير من أعماله، ومضمرا وغير مباشر على القليل منها. ومع أن هذا المجال ليس هو الموضع المناسب لتتبع ذلك التأثير، فيكفي على الأقل أن نذكر عناوين بعض أعماله التي تجلت فيها صوره المختلفة واتحدت بطبيعته «الشهرزادية» في الشغف بالحكي والقص: نزوة العاشق، أحاديث المهاجرين الألمان، الابنة الطبيعية، الأنساب المختارة وسنوات تجوال فيلهلم ميستر، مشاهد عديدة في القسم الثاني من فاوست والفصل المعروف عن استدعاء هلينا وزواج فاوست، منها الأقصوصة والحكاية وسيرة حياته
9 «شعر وحقيقة»، بالإضافة إلى مذكراته وأحاديثه العديدة التي عبر فيها لمحدثيه - وبالأخص المستشار فون مولر - عن مدى تأثره شكلا ومضمونا وروحا بقص شهرزاد وكنوز حكاياتها البديعة التي وجد فيها «الحق والجمال» والحكمة والمتعة، واعتبرها من أبرز الأعمال التي عززت إيمانه بوحدة الأدب العالمي، وأهم عمل شرقي بهر الغرب منذ أوائل القرن الثامن عشر (منذ ظهور الترجمة الفرنسية الشهيرة لأنطوان جالان بين عامي 1704م و1717م، والترجمات المختلفة اللاحقة لها وزحفها المنتصر
10
على الآداب الأوروبية وعلى أعمال كبار الكتاب والشعراء والمفكرين طوال القرن الثامن عشر حتى العقود الأولى من القرن التاسع عشر، أي طوال عصر جوته نفسه) والآن نسأل السؤال الذي يهمنا في هذا المقام: هل كان لألف ليلة وليلة تأثير على قصائد الديوان الشرقي أو على التعليقات والبحوث التي ألحقها به؟
والسؤال مشروع لأن المعروف أن ترجمة ديوان حافظ الشيرازي إلى الألمانية هي التي كانت - مع تجربة الحب بطبيعة الحال! - المنبع الحقيقي الذي استقى منه إلهامه. فهل كان لكنوز شهرزاد بعض التأثير عليه؟ ترجع آخر مرة استعار فيها جوته ترجمة جالان الفرنسية (طبعة 1747م)
11
Halaman tidak diketahui
من مكتبة فيمار إلى اليوم الخامس من شهر فبراير سنة 1813م، أي قبل عكوفه بصورة جادة على العمل في الديوان الشرقي والاطلاع على كل ما أمكنه التوصل إليه عن الشرق. ويحتمل أن يكون رجوعه لليالي في هذه الفترة بالذات مرتبطا بالكلمة التي كان يعدها «للذكرى الأخوية» لصديقه الأديب كريستوف مارتن فيلاند (1733-1813م) الذي كان قد توفي قبل ذلك بفترة تقل عن الشهر، والذي استلهم الليالي في كثير من حكاياته الخرافية وطالما تحدث عنها مع جوته. ويحتمل أن تكون هذه المناسبة الحزينة قد جددت فيه الشوق للتقليب في الحكايات التي لم تفارق نظره وقلبه أبدا؛ إذ تؤكد الباحثة الكبيرة السيدة كاترينا مومزن أنه أبقى الكتاب لديه - وذلك على غير عادته! - ما يقرب من تسعة شهور قبل أن يعيده إلى المكتبة،
12
كما أنه لم يفكر في استعارته مرة أخرى في الفترة الواقعة بين عامي 1814م و1819م، أي الفترة التي شغل فيها بالديوان حتى صدور طبعته الأولى سنة 1819م.
وليس من المستبعد أيضا أن يكون جوته قد أعاد قراءته لألف ليلة وليلة في غمرة انشغاله بدراسة الآداب الشرقية (لا سيما في مرحلة الذروة بين ربيع 1815م وربيع 1816م) تدل على ذلك إشارته الصريحة إلى شهرزاد في بعض رسائله إلى أصدقائه في تلك الفترة، وبالأخص إلى صديقه المقيم في منطقة الراين الحبيبة إلى قلبه وهو سولبيس ببواسريه، وإلى صديقه تسلتر وناشره كوتا. وقد كان من الطبيعي أيضا أن يتابع الجهود التي يبذلها كثير من المستشرقين والمترجمين لاستكمال طبعة جالان أو تصحيحها على أساس النسخ والمخطوطات التي تم الكشف عنها، فضلا عن الدراسات المتتابعة عن ترتيب الحكايات وأصولها الهندية والفارسية والعربية والعصور التي دونت فيها ومؤلفيها المجهولين، وغير ذلك من المسائل المتعلقة بالكنز الشرقي الثمين والاختلافات الحادة التي اشتعلت حوله بين عدد من المستشرقين في تلك السنوات (مثل فون همر النمسوي ومترجم ديوان حافظ الشيرازي، وسيلفستر دي ساسي عميد المستشرقين في ذلك الحين - وسيدنا الأعز - كما سماه جوته الذي أهدى إليه ديوانه الشرقي عرفانا بفضله، وجوناثان سكوت الإنجليزي الذي أعلن اكتشافه لجزء من مخطوطة بنغالية لليالي تحتوي على حكاية الوزراء السبعة التي لم تظهر في طبعة كالكوتا المشهورة فيما بعد) ولا بأس من أن نذكر هنا أيضا أن الحكاية التي نشرها سكوت ضمن المجموعات الشرقية التي توضح تاريخ آسيا وآثارها القديمة من سنة 1797م إلى سنة 1799م واستعارها جوته من مكتبة فيمار في الفترة من يناير إلى أبريل سنة 1815م، قد ألهمته موضوع «أوبرا شرقية» ملكت عليه عقله وخياله في ذلك الوقت، ولكن «عوامل خارجية» حالت بينه وبين إنجازها، ومن أهمها كما قال جوته نفسه عدم التفاهم مع الملحن «فيبر» وعدم الاقتناع باستعداد الجمهور لتذوقها.
والغريب حقا أن جوته لم يشر إلى ألف ليلة وليلة في تعليقاته وأبحاثه المتأخرة عن الديوان إلا مرة واحدة، وأن هذه المرة الوحيدة لم تكن ضمن الفقرة التي خصصها فيها للكلام عن العرب.
ولعل السبب في ذلك أنه كان بصدد اكتشاف أشياء جديدة عن الشرق لم يتسن لقارئه الألماني أو الغربي أن يعرفها معرفة وثيقة، فانصرف إلى تقديم المعلقات السبع وقصيدة تأبط شرا، بالإضافة إلى عدد كبير من شعراء الفرس الكبار الذين يحمل توءم روحه «حافظ الشيرازي» المسئولية عن شغفه بمعرفتهم عن قرب والاطلاع على ما تيسر له الاطلاع عليه من أعمالهم (مثل سعدي وعبد الرحمن جامي وأنوري ونظامي الكنجوي وغيرهم) ومن ثم نجده يقول هذه العبارة الوحيدة عن الليالي التي اشتهر أمرها منذ زمن بعيد عند الجمهور في فقرة بعنوان «شكوك» لم يجد فيها ما يدعوه لذكر الليالي صراحة بالاسم: «لقد ألفنا منذ وقت طويل حكايات تلك المنطقة.»
بيد أنه يعود فيذكر «المجموعة العربية للحكايات الخرافية» في الفقرة التي تحمل عنوان «محمد»، وذلك لتوضيح الاختلاف بين طبيعة النبي وطبيعة الشاعر، وتفسير نهي القرآن الكريم عن تصديق أساطير الأولين والانسياق وراء الشعراء الذين يهيمون في كل واد، حتى يحتفظ المسلمون بقدرتهم على الجهاد في سبيل الله ولا يستسلموا للانبهار بالحكايات والأساطير كالفرس والهنود (راجع طبعة بدوي للديوان الشرقي، ص395، وص421 من التعليقات والأبحاث). وفي هذه الفقرة يذكر ألف ليلة وليلة في معرض حديثه العابر عن مفهوم الحكاية الخرافية، أو بالأحرى عن جوانبها السلبية التي تجعلها مجرد «ألعاب» نحيلة نزقة تتأرجح بين الواقع والمستحيل، وتقدم غير المحتمل وكأنه هو الأمر الواقع الذي لا ريب فيه، وبذلك تتلاءم مع النزعة الحسية الشرقية في ميلها للراحة والتسلية، بل إنه ليصفها من هذه الناحية بأنها بناءات مشيدة في الهواء، وأنها تكاثرت على عهد الساسانيين الذي قدمت فيه ألف ليلة وليلة على شكل أمثلة غير مترابطة في خيط واحد، بل يصل به الأمر في هذا النص إلى حد القول - بما يخالف اعتقاده العميق بغير شك! - بأنها تتميز «بخلوها من أي هدف أخلاقي، ولذلك لا تعيد الإنسان إلى ذاته، وإنما تبعده عنها وتلقي به في الفضاء المطلق، وقد كان محمد يريد العكس من ذلك تماما.» ويبدو أن جوته في غمرة انشغاله «العلمي والموضوعي» بكتابة تعليقاته، لم تتح له الفرصة الكافية لتناول مفهومه عن الحكاية بصورة أكثر دقة وتحديدا؛ إذ يصعب علينا تصور صدور العبارات السابقة عن شاعر طالما وصف نفسه بأنه حكاء أو راوي حكايات، كما أن «حكايته» - التي أشرنا إليها في هامش سابق - واستلهامه لحكايات ألف ليلة وليلة في العديد من أعماله كما سبق القول، كفيلان بتصحيح كلامه الأخير أو على أقل تقدير بمحاولة فهمه في سياقه المحدد لتبرير نهي القرآن الكريم والرسول العظيم عن الارتداد لأساطير الأولين والانشغال بها عن واجبات الدعوة ومسئوليات الجهاد.
مهما يكن الأمر، فإن ألف ليلة وليلة لم تكن من بين المصادر التي اعتمد عليها جوته في ديوانه الشرقي، وأقرب الأسباب لتبرير غيابها أنه أراد - كما سبق القول - أن يفتح لقرائه آفاقا شرقية لم يألفوها من قبل، ومع ذلك، فهناك حالة واحدة على الأقل ترجح أنه أشار فيها ضمنا إلى الليالي، ونقصد بها «الشعار» الذي استهل به الديوان كله و«كتاب المغني» بقصيدة من أربع أبيات قيل إنه أهداها إلى راعيه وصديقه كارل أوجست أمير فيمار:
أمضيت من عمري عشرين عاما
تمتعت فيها بما قسم لي،
Halaman tidak diketahui
تتابعت أيامها الحسان،
شبيهة بأيام البرامكة.
وقد حيرت القصيدة شراح الديوان
13
واختلفت اجتهاداتهم في تفسير المقصود بالعشرين عاما التي أمضاها أو بالأحرى تركها تمضي من عمره، هل كانت الأعوام التي ساد فيها السلام منذ انتهاء حرب السنوات السبع وحتى اندلاع نيران الثورة الفرنسية، مع أن تلك الفترة الزمنية كانت أطول من ذلك الرقم بكثير؟ أم هي الفترة التي توثقت فيها عرى الصداقة بينه وبين الشاعر شيلر (1759-1805م) واستمرت بعد رحيل هذا الشاعر الكبير حتى عام 1814م؟ أم هي أخيرا تلك الفترة (من 1786-1806م) التي تقع بين رحلته إلى إيطاليا ومعركة يينا المشهورة التي دارت رحاها بين نابليون والجيوش المتحالفة ضده، وكانت فترة ثرية بالسعادة في حياته الشخصية والنضج الفني في أعماله الأدبية والازدهار الثقافي في حياته الشخصية في إمارة فيمار الصغيرة - التي شبهها بالازدهار الحضاري والعلمي على عهد الرشيد والبرامكة - حتى هبت عاصفة نابليون على أوروبا مثلما وقعت محنة البرامكة في بغداد فاحترق الربيع الرائع في الحالين؟
ولكن هذه التفسيرات كلها غير مقنعة ولا صحيحة لأسباب تاريخية وموضوعية عديدة يمكن أن يستنتجها القارئ بنفسه، وقد قدمت السيدة «مومزن» حلا للغز العشرين عاما المذكورة في البيت الأول، واقترحت فيه أن يكون جوته قد كتب الأبيات الأربعة وفي ذهنه حكايات محددة من حكايات ألف ليلة وليلة (التي عرفت جمهور قرائها الغربيين تعريفا كافيا بالبرامكة وروت فيها شهرزاد عددا كبيرا من الحكايات عن جعفر وزير الرشيد وأمين سره ورفيق جولاته، لا سيما في ترجمة جالان وشروحه التي أشاد فيها بنبل البرامكة وسماحتهم ونزاهة حكمهم، وبوجه خاص في تعليقه على الحكاية رقم 91 في ترتيب جالان، وهي حكاية شاك باك والبرمكي).
والظاهر أن شاعر الديوان الشرقي قد أحس من هذه الحكاية بوجود تناظر بينها وبين قصة حياته وقدره الذي ساقه إلى العمل مع أمير فيمار والحياة في ظله. وقد كان من رأيه - كما روى ذلك على طريقة شهرزاد في فقرات طويلة من شعر وحقيقة - أن حياته العجيبة كانت نوعا من الحكاية الخرافية التي تداخل فيها الواقع مع مصادقات القدر التي تلاعبت بمصيره تلاعب القوى السحرية والشيطانية بأبطال الحكايات في ألف ليلة وليلة. كذلك بدت له السنوات العشر الأولى التي قضاها في فيمار في صحبة الأمير أشبه بحكاية خرافية، وذلك كما قال قبل وفاته بقليل للمستشار فون مولر.
والمهم أنه كتب الأبيات التي قدمناها وأطياف ذكريات شبابه الذي يشبه الحكاية الخرافية العجيبة تحوم حوله، والأهم من ذلك أن الحكاية السالفة الذكر تروي قصة بطلها شاك باك الذي ساقه القدر لدخول قصر البرمكي القوي - كما دخل هو في حياة البرمكي كارل أوجست! - فكسب عطفه إلى الحد الذي جعله يصفه بأنه أعز صديق له وأقرب الناس إلى قلبه، بل عهد إليه بإدارة أملاكه وتدبير شئون خدمه وخلع عليه ثوب رضاه، والأغرب من ذلك أن الشاكي الباكي قد تمتع بهذه الحظوة عشرين سنة كاملة تنعم فيها بكرم البرمكي ونبله وحبه.
14
فإذا رجعنا إلى الأبيات السابقة وقرأناها على ضوء الحكاية التي قدمنا فكرة سريعة عنها، وجدنا نوعا من التشابه بين البطل الشاكي (الذي أغدق عليه البرمكي عطاياه وقلده أرفع المناصب في الدولة بعد اجتيازه للامتحان الذي أوقعه فيه، وهو دعوته له على وليمة وهمية ختمها بخمر وهمية فصبر المسكين الجائع الظامئ على شطحته الخيالية وشخص الأكل والشرب كأنهما حقيقة، وبذلك أثبت نجاحه في الامتحان وصلاحيته للتمتع بالحظوة والجاه!) وبين جوته الذي أكرمه أمير فيمار وصادقه ووثق في مواهبه الفائقة وأشركه - أيام شبابهما الأول! - في نزوات مجونه وطيشه ونزقه التي طالما تحملها الشاعر على مضض، كما كلفه بعد ذلك بتسيير بعض أمور الدولة وإدارة مسرح فيمار والإشراف عليه، فنهض بالمسئوليات المرهقة بحكمة وحزم ونشاط لا نظير له. كل ذلك قد جعل شاعر الديوان يقول عن سنوات شبابه التي قضاها في ظل صديقه وراعيه إنها كانت «جميلة كعهد البرامكة.»
Halaman tidak diketahui