كانت شهيرة تجد متعة في نطق كلمة باشا، وتحس لها مذاقا في فمها وموسيقى في أذنها، وتكاد تشم لها رائحة فواحة العبير في خياشيم أنفها. ونفس هذا الشعور من النشوة كان يلفها إذا ذكرت اسما من أسماء المشاهير في أي متجه تحققت له الشهرة فيه. وإني لأعجب لها ولا شك أنك ستعجب معي أن النساء الشهيرات في عالم الليل وفي غير ما يشرف المرأة أن تشتهر به كن يثرن في نفسها نوعا من التوفز، حتى إذا تعرفت بواحدة منهن اتخذت منها صديقة مقربة توشك لا تفلت يوما لا تزورها فيه أو تتصل بها.
رحبت خديجة بصداقة ابنة عمها الجديدة. والحقيقة أن شهيرة أنيسة الجلسة، طيبة الحديث، يمر معها الوقت لا تكاد جليستها تحس به. وقد سعدت شهيرة أن توثق صلتها بجلفدان هانم والدة راشد باشا، وقد كان الجميع يناديها هانم أفندي، كما سمعت ابنها يناديها في أول هذا الحديث الذي أسوقه إليك.
فكلمة هانم أفندي ذات رنين عند شهيرة، بل إنها تجد في نطقها أنها تختلف عن الأخريات اللواتي لا يعرفن سيدة يقلن لها هانم أفندي. ولا يهمها أن سبب هذه التسمية آت من أن السيدة جلفدان كانت ابنة لإحدى حريم السلطان عبد الحميد وزوجها لواحد من أتباعه، وقد خطبها زوجها والد راشد من تركيا، وشفع له غناه، فنسي أصهاره أو أرادوا أن ينسوا أنه ليس إلا فلاحا لا يرقى إلى سمواتهم.
ليس شيء من هذا يقع موقع الأهمية عند شهيرة، المهم أن تقول هانم أفندي، والمهم أن هانم أفندي أحبتها، وتجمع الجلسة ثلاثتهن. - ألا ترين طريقة لقريبتك هذه؛ شهيرة هانم؟ - ما لها، هانم أفندي؟ - لا تريد أن تأتي لنا بمولود.
وكانت خديجة تحب حماتها حبا طاغيا، فهي قد تركت لها شئون المنزل تصنع فيه ما تشاء، وقد قدرت لها خديجة هذا، فجعلت إشارتها أمرا؛ فهي تنفذ لها أوامرها قبل أن تنفذها لزوجها؛ ولهذا لم تكن أحاديث حماتها عن الإنجاب تثير في نفسها شيئا مما يغضب له النساء عادة إذا طالعتهن الحموات بمثله. وعلى كل حال فقد كان لها مع حماتها في يومها ذاك شأن آخر. - وهل بيدي هانم أفندي؟ - كل شيء بأمر الله هانم أفندي. - ولكن يا ابنتي يا شهيرة إنها لا تريد أن تسمع كلاما في هذا الشأن. علينا أن نحاول . - نعم في هذا أنت محقة هانم أفندي، ماذا جرى لك يا خديجة؟ لا بد أن نحاول، أعرف داية. - اسكتي يا شهيرة. - ألا تريدين حتى أن تسمعي؟ - هانم أفندي، إني حامل، وأنا أخبرك الآن قبل أن أخبر الباشا. وسقط الصمت على الحديث المتحمس، وارتسمت ابتسامة على فم خديجة، واندلعت دهشة وفرحة في عيني جلفدان، وانعقد لسان شهيرة. لحظات بدت بطيئة، ولكنها لحظات، ثم انتفضت هانم أفندي إلى دولاب نقودها، وقبضت منه قبضة وصاحت: يا بنات، يا فهيمة يا وهيبة يا سنية يا حبيبة.
وتقاطرت الخادمات إلى السيدة الكبيرة. - خذن، خذي أنت وأنت وأنت، زغردن زغردن جميعا، افتحن الشبابيك، افتحن الشبابيك أنا آمر بهذا، افتحن الشبابيك وزغردن ولا تتوقف منكن الزغاريد حتى يأتي الباشا ويسمعها منكن.
وأخذ الضحك السعيد بمجامع خديجة، وأحست شهيرة لأول مرة أنها لا تجد شيئا تقوله أو تفعله.
وخرجت جلفدان هانم من الحجرة، وراحت تصدر الأوامر أن يبلوا الشربات، وطلبت محمدين وأمرته أن يفرق عيشا ولحما عند مقام السيدة زينب وسيدنا الحسين.
وقالت شهيرة لخديجة في اهتمام: جاءني عريس. - من؟ - سامي حسنين. - ابن خالتك؟ متى جاء من أوروبا؟ - منذ شهر. - أخذ الشهادة؟ - في الهندسة. - وأنت ما رأيك؟ - تريدين الحق؟ - أريد الحق. - هو بلا شخصية. - بالنسبة لك ليس هذا عيبا. - ماذا تعنين؟ - أنت لا تحبين أن يكون هناك رأي بجانب رأيك. - وهو أيضا فقير. - وهذا أيضا أحسن لك. - أعوذ بالله منك. - أنت غنية، وغناك وفقره سيجعل كلمتك دائما هي النافذة. - دمه ثقيل. - يخف. - يعني؟ - توكلي على الله.
وارتفعت الزغاريد فعرفتا أنها تستقبل الباشا بالبشرى.
Halaman tidak diketahui