ونستشهد التاريخ في إثبات هذا الرأي؛ فنجد أن أول ما وقع هذا الاستبداد في دولة الإمام إدريس، حيث يتحدث المؤرخون أنه في سنة ١٨٩ هـ وفدت عليه وفود العرب من بلاد إفريقية والأندلس، في نحو خمسمائة فارس من القيسية والأزد ومذحج وبني يحصب والصدف وغيرهم. فسر بوفادتهم وأجزل صلاتهم وقربهم، ورفع منازلهم وجعلهم بطانته دون المغاربة. فاعتز بهم لأنه كان فريدًا بين هؤلاء، ليس معه عرب، فاستوزر عمير بن مصعب الأزدي، واستقضى منهم عامر بن محمد بن سعيد القيسي قيس عيلان الخ كما في القرطاس. ولكنا نلاحظ أنه لم يظهر أثر سيء لهذه السياسة الإستئثارية، كما يحسن أن تسمي؛ في ذلك الحين على عهد الإمام إدريس، ولعل ذلك يرجع لما كان له ولهم من عظيم المنزلة عندهم، وصدق المحبة فيه. فلم يكونوا ينظرون إلى أعماله بعين الشك والريبة، كما نظروا إلى أعمال أولاده من بعده. ولأن الأمر في أوائله فلا ينتبه إليه، فلا يظهر ما يكون نتيجة له أو أثرًا عنه. وكل ما نريد أن نقوله، هو أن هذا السلوك كان مبدأ الاستبداد على المغاربة ومنشأ الخلاف على العرب؛ وإن لم يظهر أثر ذلك إلا بعد أن تدهورت سياسة الأدارسة واختلت إدارتهم، فقويت الهمم وشدت العزائم على مقاومتهم والسعي في مناوأتهم.
فظهر على مسرح التاريخ موسى بن أبي العافية فجد في أثر الدولة الفتية يصلي رجالها نيرانًا مستعرة، ويشن عليهم كل غارة شعواء، حتي قوض أركانها المتينة وهد بنيانها الشامخ وكاد يستأصلهم، لولا أن أخذت الناس الشفقة عليهم، فمنعوه منهم، فأقلع عنهم خزيان حقيرًا. وما كاد يستريح ويأخذ في تدبير شؤونه حتى انبرى له بنو عبيد فساقوه بعصاهم. ومن هنا تعلم أن المغاربة لم يكونوا يريدون الانفراد بالسلطة أول الأمر، وإنما كانوا مغلوبين على أمرهم ومضروبًا على أيديهم؛ فأرادوا الدفاع عن أنفسهم ونيل حقوقهم المهضومة؛ وإلا فان أبا عبد الله الشيعي كان يدعوهم إلى بيعة الفاطميين العلويين. وهل كانوا بالمغرب إلا داخلين في دعوة مماثلة ومبايعين للأدارسة العلويين؟ فلا يخلو هؤلاء الخارجون معه إما أن يكونوا مغرورين أو منتهزين الفرصة للحصول على مطامعهم في ظل الدولة الجديدة على حد قول الشاعر:
إذا لم يكن للمرء في دولة أمرئ ... نصيب ولا حظ تمنى زوالها
1 / 44