المدن باعثة على الفساد، من كان عنده ميل إليه، أو كان ضعيف الإرادة يجره أولو السوء إلى مساوئهم كما يجر الجزار الشاة، ويجذبه زخرف المدينة الباطل فلا يقوى على رد هجمته، لا تصلح المدن لتربية الأطفال على قواعد الصحة والاستقلال، وكذلك لا توافق المرأة كثيرا. والمتصفح لكتاب (التربية الاستقلالية، أو إميل القرن التاسع عشر) لا يسعه إلا التأمين على ما قاله مؤلفه من وجوب تربية الأطفال في القرى، وقد ضرب لذلك مثلا أن الطفل في المدينة تجتهد أمه في تزويقه وتحسين بزته ليفتن كل من رآه، فإذا مشى يريد الفسحة حمله هذا وقبله وأطراه ذاك، وإذا أراد اللعب أو تتبع حشرة أو جرى تنشيطا لرجليه، منعته مربيته لئلا يلوث ثيابه الجميلة، فينشأ الطفل ضعيف الجسم؛ لأنه لم تترك له الحرية ليستعمل حواسه وأعضاءه كيف شاء، ولا غرو فإن استعمال الشيء يقويه ويصلحه ويشب ضعيف الإدارة مغلوبا على أمره؛ لأنه يجبر على الخضوع لمربيته خضوعا مزريا، حتى إنه ليستشيرها فيما يقول أو يفعل، ويشب كذلك مغرورا بنفسه لتعوده سماع الثناء عليه والإطراء، ثم يظل جاهلا لكثير من الأمور؛ لأنه في القرية يستغني عن كثير من «دروس الأشياء» والجغرافية الأولية يتعلمها بنفسه، والعلم المكتسب من النفس والتجارب ثابت بخلاف ما يحشى به الرأس قسرا فإنه سريع الزوال غير مؤثر. فبدلا من تلقينه أن الشمس تبزغ من الشرق وتغيب في الغرب، وترديده تلك الألفاظ كالببغاء وقد لا يرى شروقها وغروبها لعلو المساكن الملتصق بعضها ببعض وحجبها الأفق، بدلا من ذلك يمكنه في القرية أن يلاحظ الشروق والغروب بنفسه لسعة الفضاء حوله.
يضحكني في دروس الأشياء وكتبها أن يقال: الجمل من ذوات الأربع وله سنام، والقط وله عينان وشاربان، والسمكة لها ذيل وحرافيش، فإن ذلك يجب أن يراه الطفل بنفسه، أما ذكره له فأراه حطا من كرامته وتضييعا لوقته، وتعويدا له أن يتكل على غيره، وعندي أن تركه يلعب ويمرح خير له من تلك الدروس العقيمة، ولكن قد لا ينتبه أطفال المدن لتلك الحيوانات لقلتها عندهم، ولعدم تعودهم البحث وإجالة النظر من تلقاء أنفسهم، وهم لو تربوا في القرى لعلموا كل ما يتعلق بها أو جله، ولأمكنهم معرفة خصائص النباتات، ومتى وبأي وسيلة تنمو، وماذا يصنع بها في أدوار نموها وبعد نضجها، وغير ذلك مما يفيدهم ويسليهم في آن واحد.
ترى الطفل في القرية يستيقظ مع الشمس وينام معها ويأكل متى جاع، فلا ينتظر وليمة يأخذ منها فطيرة قد تفسد معدته، ولا يجبر نفسه على السهر ليحضر الملاعب، وهو في كل أوقاته بعيد عن السكارى والمهوسين وصرعى العجلات (الترام) فتمتلئ نفسه ثقة وإيمانا واطمئنانا، ويكون أبعد انفعالا وحمقا من مثله في المدينة، ويؤيد قولي هذا أن أعظم النوابغ في مصر وأشرف الرجال مبادئ أصلهم كلهم تقريبا من أولاد أولئك القرويين الأصحاء البنية والعقول، أثرت فيهم تربيتهم الاستقلالية فنشأوا ذوي عزيمة صادقة وحب غريزي للعمل، أما أولاد (الذوات)، وهم العريقون في سكنى المدن، فلا حاجة لوصفهم، ويكفي القول بأنهم لا يصلحون لشيء ما، ولا ينبغ منهم إلا النزر القليل.
والمرأة ليست أقل سعادة من الطفل في سكنى القرى، بأنها فضلا عما تجد من جودة الصحة والراحة، تراها تتفرغ لبيتها أكثر وتزاول بعض الأعمال مما يشغل عضلاتها، أو على الأقل يستدعي انتباهها وملاحظتها، فبدلا من أن تنام وتنتظر بائع الخبز يحضره لها، تراها في القرية تشتغل بتحضيره، أو تلاحظ خدمها عند اشتغالهم بالقمح وتجهيزه، كذلك تجد نفسها في المدينة كسولا؛ لأنها ببذل بعض الدراهم يمكنها استجلاب جميع لوازمها، فلا تخيط والخياطات كثيرات، ولا تلاحظ نظافة البيت وترتيبه، كما تفعل لو كانت في القرية؛ لأن خادمات المدن أرقى بالطبع من الفلاحات في مثل هذه الشؤون؛ فتتكل ربة البيت عليهن ولكنهن لا يقمن بما عهد إليهن تمام القيام، أما سوق التنافس فرائجة جدا في المدن لكثرة الاختلاط، وقد يجر تنافس النساء إلى تحميل الرجال فوق طاقتهم ومضايقتهم إذا لم يكونوا في سعة من الغنى.
ماذا تعمل نساء المدن عندنا؟ لا شيء اللهم إلا كنس الشوارع بذيول حبراتهن، وإثارة ترابها وجراثيم الأمراض المنتشرة، ووقتهن ضائع بين استقبال الزائرات وزيارتهن، وبعضهن يحضرن التمثيل ولكنهن مع الأسف لا يخرجن منه بفائدة ما، ولا يتعلمن من مزاياه والتاريخ المنطوي تحته والمعاني السامية التي يحتويها إلا ألفاظ العشق والتهتك ووسائل الهرب والفجور، مثل هؤلاء تفسدهن المدن وتدعوهن للتبذير والابتذال.
قارن بين المرأتين المدنية والقروية تجد فرقا هائلا في الصحة والأخلاق؛ فبينا تنشأ الأولى خمولا عليلة تجد الثانية مفتولة الذراعين طاهرة السيرة والسريرة، تمشي الأولى في الطريق محتجبة، ولكنها غير محتجبة عن أعين السفلة وألسنتهم فيغازلونها على قارعة الطريق، وهي تمشي الهوينى متبخترة، أما القروية فإنها تلوح عليها دائما ملامح الجد والنشاط، فإذا مشت خارج بيتها تجدها تسرع الخطى لا تلوي على شيء، وهي لا تغطي وجهها، ولكن هل يجسر أحد على «معاكستها»؟
رأيت سيدات كثيرات لا يستطعن العيش في القرى أسبوعا واحدا فعجبت من ذلك، هؤلاء من يسميهن الإنكليز
Society Women
أي: نساء المجتمعات، وهن اللاتي لا يهمهن إلا أن يظهرن في كل حفلة ويذكرن بالحسن والتأنق في الملبس ونفاسة المصوغات، ويطربهن أن يكن موضع الإعجاب وأن يشار إليهن بالبنان، ولو فيما لا يستحق الذكر، مثاله أن إحداهن رهنت أملاكها واشترت سيارة وأوصت أن تدهن تلك السيارة بلون ليس له مثل في البلد، وأن يجعل لصفارتها صوت خصوصي تعرف به، فإذا مرت وسمعت قولهم: هذه سيارة فلانة؛ هزها الفرح ونسيت أن أملاكها مرهونة، وأنها خير من السيارة وأبقى، فهذه السيدة ومثيلاتها ممن يرصعن أحذيتهن بحجارة الماس الكريم ويتركن الفقراء يتضورون جوعا، لو نشأن في القرى أو لو سكنها لوجدن أنفسهن بعيدات عن مثل هذا الترف الباذخ ولواسين الملتفات حولهن من الفلاحات البائسات.
السيدة الفاضلة هي التي ينال غيرها نفعها، لا التي ترفل في الدمقس وفي الحرير، وفي القرى يمكن بث التعاليم المناسبة لأهلها فتستفيد منها كثير من النساء الجاهلات، كتشويقهن للنظافة، وإلقاء بعض النصائح الصحية عليهن، وحثهن على إرسال بعض أولادهن للكتاب، وتعويدهن الاطمئنان لتحوطات الأطباء أيام الأوبئة، وتشجيعهن عند أخذ أولادهن للجندية وغيره كثير، وقد جربت ذلك بنفسي ويسرني أنه ناجح والحمد لله، إلا أن هذه القلوب الطيبة والنفوس المطمئنة لتجعل الملتفات حولها تشعر كأنها ملكة في مملكة صغيرة ويلذها أن تنفعها وترقيها، فليتدبر ذلك نساؤنا اللاتي يكرهن زيارة القرى لا لذنب إلا لأنها بلد الفلاحين. (17) جمال السيدات
Halaman tidak diketahui