مقدمة
كان في الشتاء الأسبق أن نظارة المعارف أحالت ناظرة مدرسة السنية على مجلس التأديب لشذوذها عن حدود قانون النظارة، فكتبت وقتئذ كلمة في الجريدة استعطفت بها مجلس التأديب على تلك السيدة، وكان بعض ما استشفعت به لها أنها من الجنس اللطيف. شق هذا القول على سيدة فرنساوية سائحة في مصر وقتئذ، فأقبلت علي تعاتبني على قلة الحيطة التي اتخذتها في كلامي، وانبرت تقرر أن المرأة والرجل سيان في الحقوق والواجبات فيجب أن يكونا كذلك في المسئولية أيضا، وأن الذي يستشفع للمرأة بجنسها ليسيء إليها من حيث يريد الإحسان.
لم أكن قبل هذا الإلفات مترددا فيما للمرأة من الحقوق، ولا جاهلا بما يستتبع للحقوق من الواجبات، ولم أك ظنينا في دفاعي عن هذا الجنس مهضوم الحقوق في كل زمان وفي كل مكان حيث القوة غالبة على الحق، ولكني مع ذلك في تلك الحادثة، كانت كلمتي تشف عن رأيي في أن المساواة بين الرجل وبين المرأة لا يصح أن تقرر على إطلاقها، بل يجب أن تكون تلك المساواة محدودة في مصر بالحدود الطبيعية والشرعية معا. وشتان ما بين هذه الحدود الواسعة المدى، وبين الحدود الحاضرة التي وقفت عندها المرأة من زمن طويل بحكم قوة الرجل، لا بحكم قوة ضعفها الطبيعي، ولا بحكم الشريعة السمحاء.
لم تجرب إلى الآن المساواة المطلقة في جميع الحقوق والواجبات بين الرجل والمرأة، ولكن المساواة قد جربت في التربية المنزلية، وفي التربية المدرسية، وفي كثير من الحقوق الاجتماعية؛ فأتت بأعظم الفوائد والبركات على العائلة والجمعية الإنسانية معا. وأما التفريط في حق المرأة وعدم استخدام مكانتها على أنماط معلومة لمنفعة النوع الإنساني فقد أتى بالنتائج المحزنة المحسوسة.
إن المساواة المطلقة التي كانت ترمي إليها عاذلتي، ويوافق عليها كثير من النسائيين، إن جاز أن تكون غرض الأغراض ومنتهى الآمال في ترقية المرأة، فإنه لا يجوز الابتداء بها وتقريرها عندنا من اليوم مع أنها لم توجد ولم تجرب في أعلى الأمم حضارة، فإذا كنت قد استعظمت مجلس التأديب على ناظرة المدرسة، وجعلت جنسها اللطيف شفيعا لها في تخفيف المسئولية، فلم أخرج بذلك عن أن أكون مستقيم الإنتاج، ولم أنحرف عن أصول قوانيننا، ولا عن طبائع العمران.
إن قوانيننا الإنسانية لا تزال نصوصها تنم على فروق بين الجنسين، وإن المرأة طول عمرها الجنسي كانت ولا تزال مثال الجمال الإنساني، وموضوع تغني الشعراء ومباراة الرسامين والمصورين، كانت ولا تزال مناط سعادة الرجال، إليها ينتهي الأمل عند بعضهم، وفيها تودع الثقة وترجى المواساة عند الآخرين؛ فهي بجمالها محل للعطف، وهي بضعفها الخلقي أولى بالعطف، وهي بتواضع مركزها الاجتماعي وقلة مكافأتها على القيام بواجباتها أهل للعطف، فمن أي ناحية نظرت إليها وجدتها تستحق الحنان والعطف، فإذا كنت استشفعت لها مجلس التأديب فإنما جريت في ذلك على سنن بني آدم الماضية والحالية، وأخذت ما قلت من المشاهدة لا من الخيال، وإذا كانت السيدات النسائيات (اللاتي يرين تقرير المساواة بين الرجل والمرأة) لا يرضين بالتفريق بينهن وبين الرجال في درجات المسئولية أمام المحاكم والمجالس؛ فإني متفق معهن على الأقل في عدم محاباتهن في انتقاد ما يكتبن من الرسائل وما يهدين إليه من الآراء.
ومهما يكن من وجوه الخلاف في المساواة بين الرجل وبين المرأة في درجات المسئولية، وفي الحقوق والواجبات العامة، فإن من المحقق أن المرأة لم تسترد إلى اليوم شيئا كبيرا من المساواة المنشودة على أقل أقدارها في نظر القائلين بها، بل هي عندنا - على الخصوص - لا تزال مظلومة في حقوقها في العائلة وفي حقوقها في الجمعية المصرية، مظلومة في تقدير واجباتها الخاصة والعامة، لا من حيث ثقل تلك الواجبات في ذاتها، ولكن من حيث كونها أغلبها واجبات تحكمية صرفة، يضعها ولي أمرها لا بالتطبيق للشرع، ولا لقاعدة عامة معروفة، ولكن بالتطبيق لدواعي أهواء وعوامل غيرته.
فإذا كانت حقوق المرأة الطبيعية وحقوقها الشرعية يغمطها الرجال؛ فلا يراعون فيها تقاليد الأسلاف، ولا يراقبون فيها أوامر الدين، فإن النتيجة اللازمة عن ذلك هي تعطيل نصف الإنسانية عن كثير من الخدم المطلوبة منه، وهذا مع الأسف هو الذي كان.
لم تكن هذه النتيجة المحزنة كلها من ظلم الرجل، ولكن قعود المرأة الشرقية عن الأخذ بأسباب رقيها الثاني، ورضاها بالحظ الذي قسمته لها القوة في هذه القرون الأخيرة، وعدم محاولتها تلطيف أحكام القوة القاهرة، كل ذلك يجعل لها شركة بوجه ما في الضرر الذي حاق بها وبالمجموع من إهمال تربيتها.
غير أن مهضوم الحق - مهما سها عن السعي في استرداده - لا يعدم من نصراء الإنسانية مدافعا خالي الغرض ينصره من حيث لا يحتسب؛ فإن النساء عندنا لم يكن ليدور في خلدهن أن المرحوم قاسم بك أمين يقوم بالدفاع عنهن دفاعا أغضب منه كثيرا من الناس، بل أغضب منه بعض النساء اللواتي لا يردن الخروج من الحظيرة الصناعية التي احتظرها لهن رجال البأس لا رجال العلم.
Halaman tidak diketahui