وإذن فنيتشه يدرك جيدا مدى الشقاء الذي كان يعانيه العامل الحديث في عصره، بدليل أنه حكم على حياته بأنها أكثر بؤسا من حياة الرقيق، ومع ذلك فقد ظل يدعو إلى بقاء «الطبقات الدنيا» على حالها، حتى لا تتنبه إلى بؤسها إذا رفعنا مستواها، وكأن الأمر سوف يقتصر على رفع ضئيل لمستواها بحيث تصبح واعية لما هي فيه من بؤس فحسب، دون أية محاولة للقضاء على هذا البؤس أصلا! ... (2)
وتحقيق الهدف الاشتراكي يؤدي في رأي نيتشه إلى خلق إنسانية خاملة: «فالاشتراكيون يتوقون إلى أن يكفلوا حياة هانئة لأكبر عدد ممكن من الناس. ولو تحقق ذلك بالفعل في مقر دائم للحياة الهانئة؛ أعني في الدولة الفاضلة، لقضى ذلك العيش الهانئ على التربة التي تنبت فيها العقول الكبيرة، والأفراد العظام بوجه عام؛ وأعني بهذه التربة الفاعلية الزائدة. فعندما تتحقق تلك الدولة، تكون الإنسانية قد أصبحت أكثر خمولا من أن تنجب العبقرية.»
4
وحجة نيتشه هذه تتردد لدى الكثيرين غيره من المفكرين؛ فمن الآراء التي نصادفها في الفلسفة الاجتماعية بين آن وآخر، ذلك الرأي القائل إن التقدم لا يتحقق إلا عن طريق الحاجة الدائمة، وإن الإنسانية إذا وصلت إلى حد الاكتفاء فلن تتقدم بعد ذلك خطوة واحدة، بل تغدو خاملة متخمة، وتفتقر إلى كل حوافز النهوض. ونسي مرددو هذه الحجة أن الاكتفاء الذي يقال به هنا إنما هو اكتفاء نسبي فحسب؛ فكلما وصل الإنسان إلى حد الاكتفاء في مجال معين، ظهرت له مطالب جديدة في مجالات أخرى، وكلما ارتفع مستوى حياته تشعبت مقتضيات هذه الحياة، وأصبح ما كان يعد ترفا من قبل، ضرورة من الضروريات. وبهذا يمكننا أن نقول، بوجه عام، إن أي نظام لا يمكنه أن يحقق للناس الاكتفاء التام؛ إذ إن هذا الاكتفاء التام مستحيل التحقيق. وعلى ذلك، فليس مما يعيب نظام الحكم الكامل - إذا تحقق - أن يضمن للناس قدرا كبيرا من الاكتفاء، ولن يؤدي ذلك إلى بث الخمول فيهم، بل سيزيدهم حماسة للعمل؛ لأن مطالبهم تزداد وتتسع دائما بنسبة تعادل - إن لم تتجاوز - نسبة ما يحققه لهم المجتمع من الاكتفاء.
أما عن الشطر الآخر من هذا النقد؛ وأعني به عجز الاشتراكية عن خلق أفراد أقوياء، فهو موضوع بحثنا التالي مباشرة. (3)
من الظواهر التي تباعد بين نيتشه وبين التفكير السياسي السائد في عصره بوجه عام، أن هذا التفكير يتملق مشاعر العامة؛ فالأحزاب السياسية مهما اختلفت اتجاهاتها، تحاول أن تظهر العامة بمظهر القادرين على التحكم في شئونهم بأنفسهم. والنتيجة الوحيدة لذلك، في رأيه، هي أن تبتعد القلة الممتازة عن مسرح السياسة، إرضاء لكبريائها. وعلى ذلك، فالاتجاه إلى تملق العامة هو أمر يعيبه نيتشه على الفلسفة السياسية الحديثة بأسرها، ولكنه يختص الاشتراكية بأعنف حملاته في هذا الصدد. فليست للاشتراكية سوى أهداف جماعية، بينما الهدف الأعلى في نظره هو خلق أفراد عظماء؛ وهؤلاء الأفراد العظماء لا يخلقون بخطة مدبرة مرسومة، بل يظهرون تلقائيا.
وليس لنا أن نطيل في شرح آراء نيتشه التي ينعي فيها على الاشتراكية اتجاهها إلى العامة، وافتقارها إلى كل ما يحفز على خلق الفرد الممتاز؛ فتلك الآراء قد رددت كثيرا من بعده، حتى غدت جزءا لا يتجزأ من التفكير الاجتماعي والسياسي لعدد هائل من الناس. وهي في أساسها تنطوي على الاعتقاد بأن تدخل التنظيم الاجتماعي - ممثلا في الحكومة - يتعارض مع نمو القوي والملكات الفردية؛ فالاشتراكية مذهب يضع في أيدي المجتمع في كليته - أعني في يد الحكومة - ما كان متروكا للأفراد؛ أي إن التنظيم يصبح فيها جماعيا لا فرديا، وتتدخل الدولة في شون الأفراد بالتدريج، وتسيطر على مجالات لم تكن تترك قديما إلا للإدارة الفردية. وهكذا يرى نيتشه، ومن سايره من المفكرين، أن مثل هذا التدخل المتزايد للدولة يقضي على كل أمل في خلق أفراد ممتازين، ويصبغ الكل بصبغة متماثلة متجانسة لا تمايز فيها ولا تنوع.
ولنناقش الأخطاء العديدة التي ينطوي عليها نقد نيتشه هذا؛ فالاشتراكية لا تسير نحو تقوية نفوذ الدولة دائما، بل إن دعاتها الأولين يحلمون بمرحلة تالية تعلو على الدولة، ولا يعود المجتمع الإنساني فيها بحاجة إلى هذا التنظيم المركزي الدقيق، وسواء كان هذا الحلم قابلا للتحقيق أم لم يكن، فلا شك في أن نيتشه لم يكن دقيقا حين أغفل هذا الهدف البعيد للاشتراكية إغفالا تاما.
والقول بأن تدخل الدولة يقضي على ملكات الأفراد، ينطوي ضمنا على الإيمان بالتعارض بينهما، كما لو كانت الدولة هيئة تقوم بالرغم عن الأفراد، ولا تعبر إلا عن نفسها فحسب. ولا شك في أن النظام السياسي للإنسانية بأسرها لم يصل بعد، في مجموعه، إلى المرحلة التي تعد فيها الدولة مجرد تعبير دقيق عن أماني الأفراد؛ غير أن الدعوة الاشتراكية إلى تقوية سلطة الدولة تقترن - بداهة - بفرض أولي آخر، هو أن الدولة إنما تلخص مطالب الأفراد وأمانيهم، ومن الغريب حقا أن نيتشه ذاته قد تنبه إلى هذا التطور، ودعا إليه، حين قال: «إن التفرقة بين الحكومة والشعب، كما لو كانا يمثلان مجالين منفصلين من مجالات القوى، يتعامل أحدهما، وهو الأقوى والأرفع، ويتحد مع الآخر، وهو الأضعف والأحط، هذه التفرقة هي جزء من فهم سياسي موروث، لا يزال يمثل النظرة التاريخية الثابتة للعلاقات بين القوى في معظم الدول تمثيلا صادقا ... وعلى العكس من ذلك ينبغي أن يعلم الناس الآن - وفقا لمبدأ يصدر عن الذهن وحده، ولا يزال عليه أن يشق طريقه في التاريخ - أن الحكومة ليست إلا أداة للشعب. وليست شيئا عاليا، رشيدا، مبجلا، بالقياس إلى شيء أدنى قد اعتاد الضعة والانحطاط.»
5
Halaman tidak diketahui