وفي هذه العبارة الأخيرة يتضح لنا أن ما يرمي إليه نيتشه من فكرة الإنسان الأرقى يختلف عن مجرد التقدم التطوري؛ إذ إن التطور لا يقول أبدا إن الإنسان لا يزال إلى اليوم قردا أكثر من القرد، أو أن فيه من الدودة الكثير. ولكن ما يعنيه نيتشه بكلمة القرد، أو الحيوانية بوجه عام، هو نزعتها إلى الثبات. فهو يحمل على خضوع الحياة الحيوانية لإيقاع ثابت، وسيرها على وتيرة واحدة، ويؤكد ضمنا أن «الأخلاقية» بما فيها من قواعد تنظيمية يخضع لها المرء آليا، دون أن يشعر بالمخاطرة أو الابتكار، تعني أن الإنسان لم يتقدم عن مستوى الجمود الحيواني كثيرا، فليست فكرة الإنسان الأرقى بهذا المعنى إلا دعوة إلى التقدم الحيوي المطرد، واستبدال تجدد الحياة بتجانس الأخلاقية.
فإذا نظرنا إلى فكرة إرادة القوة،
13
على أنها هي بدورها تعبير عن دعوة نيتشه إلى إحلال تحقيق الحياة محل الأخلاقية، لصادفنا من أول الأمر إشكالا غير هين؛ ذلك لأن قدرا كبيرا من جهد نيتشه قد وجه إلى نقد فكرة «إرادة الحياة» عند شوبنهور، بحيث يبدو أن إرادة القوة وإرادة الحياة في طرفي نقيض؛ ذلك لأن إرادة القوة لا تسعى إلى مجرد الحياة ولا تكتفي بها، بل تسعى إلى القوة أيضا. على أن في وسعنا أن نحل هذا الإشكال إذا قلنا إن القوة عند نيتشه لا تعني أكثر من امتلاء الحياة وتركيزها فحسب. وما كان نقده لشوبنهور راجعا إلى وجود كلمة «الحياة» عند هذا الأخير، بل لأن شوبنهور قد نظر إلى الحياة نظرة سلبية أولا؛ أي إنه لم يتجاوز نطاق «الاكتفاء بالحياة »، لا طلب المزيد منها، ولأنه قد حمل على إرادة الحياة هذه - مع اعترافه بأنها هي المبدأ الكوني الشامل - وعدها مصدر الشرور جميعا. وإذن، فإرادة القوة عند نيتشه ما هي إلا تعبير آخر عن مبدأ تحقق الحياة وامتلائها.
ولسنا في حاجة إلى جهد كبير حتى نستبعد بقية المعاني الباطلة التي ارتبطت بفكرة إرادة القوة هذه. وأكثر هذه المعاني الباطلة شيوعا، ذلك المعنى الذي ذاع خلال الحرب العالمية الأولى، وخلال فترة الحكم النازي في ألمانيا، واتخذ وسيلة لتقوية الروح العسكرية الألمانية؛ وأعني به إعطاء مدلول سياسي لكلمة «القوة»، وتفسير إرادة القوة بأنها دعوة إلى اتخاذ الحرب وسيلة حاسمة لفض الخلافات بين البشر. وإن نيتشه ذاته ليرد على هذه التفسيرات الباطلة حين يقول عن كتاب إرادة القوة: «وددت لو كتبته بالفرنسية، حتى لا يبدو عاملا مؤديا إلى تقوية أي طموح دولي ألماني.» وينفي عن كتابه أية دعوة إلى العدوان فيقول: «إنه كتاب للتفكير فحسب، ينتمي إلى أولئك الذين يجدون في التفكير متعة فحسب.» فتكراره لكلمة «فحسب» مرتين، يدل على شعوره بأنه كان سيجد من الشراح من يسيئون فهم إرادة القوة، بإضفاء مدلول سياسي عليها.
والحق أن مجرد إضفاء مدلول محدد على فكرة إرادة القوة، يؤدي حتما إلى الوقوع في تناقض داخلي؛ إذ إن إرادة شيء معين تكف عن السعي حين تصل إلى هذا الشيء، كما هو الحال في القوة السياسية مثلا، بينما تتصف الإرادة بأنها حركة دائما لا تعرف حدا تقف عنده، فإرادة القوة ينبغي أن تفهم على أنها سعي متواصل إلى مزيد من الامتلاء في الحياة فحسب. ومن أوضح الدلائل على أن إرادة القوة لا يمكن أن يكون لها عند نيتشه مدلول اجتماعي أو سياسي، إنه يتحدث عنها لأول مرة بوضوح في كتاب زرادشت، في فصل عنوانه «العلو على الذات
Von der Selbstüberwindung »
14
فالفكرة إذن متعلقة بالذات الإنسانية، لا بالدولة أو المجتمع.
والحق أن المقصود في نهاية الأمر بإرادة القوة هو أن تحل محل الأخلاقية، فحين يأبى الإنسان أن ينحصر في نطاق نظام من الأوامر والنواهي ، وأن يقيد نفسه بقيم ثابتة، أيا كانت، فعندئذ سيتخذ لنفسه هدفا آخر، هو المزيد من العلاء بحياته، والسعي إلى إثرائها وتركيزها سعيا لا يقف عند حد، وهذا السعي هو إرادة القوة. فللفكرة بهذا المعنى من المرونة والقابلية للتشكل ما يجعلها في نظر نيتشه بديلا صالحا للروح الأخلاقية بوجه عام، وما يجعلها تعبيرا عن رغبته في إحلال التوجيه الحيوي الحركي للسلوك محل التوجيه الأخلاقي السكوني له، واستبدال النظرة الكمية الموحدة إلى الأخلاق بالنظرة الكيفية المتضاربة إليها.
Halaman tidak diketahui