1
ولو أدرك الإنسان عن وعي أنه هو خالق هذا البناء الشامخ من القيم، لعمل على تحقيق هذه الغايات التي يريدها لنفسه تحقيقا واقعيا، ولازدادت ثقته بنفسه، وبقدرته المبدعة ... ولكنه في واقع الأمر ينكر ذلك، ويوهم نفسه أنه قد «وجد» هذه القيم فحسب، وأنها هناك، مفروضة على الأشياء بالرغم عنه. فإذا ما أحس بأنها في وجودها مستقلة عنه، فلن يحاول أن يغير منها شيئا، بل سيبقيها على حالها، وسيقبل الأمور على ما هي عليه.
وهكذا يتبين لنا أن إرجاع القيم إلى الإنسان عند نيتشه لا يعبر عن نزعة ذاتية أو صوفية، بل هو في واقع الأمر دعوة صريحة للإنسان كي يمارس فاعليته على أوسع نطاق ممكن. فلن يقف في وجه هذه الفاعلية شيء إذا تبين أن العالم لا يحمل معنى ثابتا، وأن في وسع الإنسان أن يضفي عليه بمجهوده الخاص من المعاني ما يشاء، مثلما أضفى عليه من قبل معناه القديم، دون وعي منه، ثم ثبته وقدسه.
والقوة التي تدفع الإنسان إلى إضفاء قيم معينة على الأشياء، هي الحياة، فكل تقويم إنساني إنما يستهدف نفع الحياة في آخر الأمر. ولن يستطيع المرء أن يستقر في آخر الأمر على معنى معين لكلمة «الحياة» عند نيتشه، وهل يعني بها النفع الحيوي للنوع، أم امتلاء الحياة الفردية، والحق أن لكل من الرأيين أنصاره الذين يمكنهم أن يجدوا لرأيهم شواهد تؤيده من نصوص نيتشه في كلتا الحالتين. وعلى أية حال فليس يعنينا هنا أن تفهم آراء نيتشه في هذا الصدد بمعنى تطوري أو بمعنى وجودي، وحسبنا أنه أرجع القيم إلى الأرض، وإلى الإنسان، وإلى القوة الفعالة في الإنسان؛ أعني الحياة.
وارتباط القيم بالحياة هي أوضح شاهد على نسبيتها؛ ذلك لأن للحياة مطالب متجددة، وهي لا تخضع لصيغ منطقية جامدة حتى يقال إنها تثبت على اتجاه واحد، وإنما هي تلقائية في سيرها، تتخذ لنفسها من القيم ما تشاء حتى يمكنها أن تعلو على ذاتها دواما. والحق أن نيتشه في تأكيده نسبية القيم وارتباطها بالنفع الحيوي، يبرهن على رأيه أحيانا بشواهد تشبه إلى حد بعيد تلك التي ظهرت فيما بعد عند أصحاب الاتجاهات الأنثروبولوجية والاجتماعية بوجه عام. فهو مثلهم يحرص على أن يربط القيم السائدة في كل عصر وبيئة بنوع الظروف التي تسود هذا العصر والبيئة، وكثيرا ما تتخذ لهجته شكل نزعة علمية واضحة، استبق بها بعض الاتجاهات العلمية التالية له. وليس معنى ذلك أنه هو الآخر قد اتبع المنهج العلمي في إثباته نسبية القيم؛ فمن المسلم به أنه لم يدرس مثل هذه الموضوعات أية دراسة تجريبية كتلك التي قامت بها المدارس العلمية التالية، وكل ما يمكن أن يقال عنه هنا إنه قد اهتدى نظريا إلى نتائج تأيدت فيما بعد تأييدا تجريبيا لا سبيل إلى الشك فيه.
والحق أن هذا التأرجح بين الفهم العلمي والفهم الفردي من أخص الصفات التي يتميز بها تفكير نيتشه؛ فهو أحيانا يبني نسبية القيم على أسس بيولوجية واضحة، فيقول: «إن التمييز بين ما هو رفيع وما هو وضيع في جسمنا وفي أعضائه ليس من خصائص الروح العلمية في شيء؛ فنحن نجعل لأحد الأعضاء مكانة رفيعة طالما أننا لا نرى فعله وأثره، أو لا نحس بهما (عن طريق الأنف أو حاسة اللمس)! فالتقزز، لا «القيمة» هو الذي يتحكم في التمييز بين الرفيع والوضيع، وهذه إحدى نقط بداية ما تضعه المذاهب الأخلاقية من تفرقات.» وفي نفس الوقت الذي يصرح فيه بمثل هذه التفسيرات العضوية لما هو رفيع ووضيع في الإنسان، نراه يلجأ إلى بناء القيم على أسس نفسية فردية خالصة، ويجعل من إرادة الفرد مصدرا خالقا لكل المعايير، ولا يعترف بأمر عام يسن قاعدة شاملة، وإنما يؤمن بالأوامر الفردية التي توجهها الذات إلى نفسها فحسب. وليس يكفي لتعليل هذا الازدواج في تفكيره أن ننسب كلا من الفكرتين إلى فترة معينة، فنقول إن الفهم الطبيعي والعضوي كان يسود الفترة الوضعية الثانية، والفهم الفردي كان يسود الفترة الصوفية الأخيرة؛ إذ إن النظرتين كانتا قائمتين معا في الفترة الثالثة مثلا، بل وفي كتاب واحد ينتمي إليها، مثل كتاب إرادة القوة. وفي هذا ما يشهد بأن نيتشه لم يعترف بالحدود الفاصلة بين أنواع التفسير المختلفة، ولم يجد تعارضا بين التعليل الطبيعي أو العضوي، وبين التعليل الفردي أو الصوفي لظاهرة ما، وأيا ما كان حكمنا على هذا التوفيق، فهو على أية حال مظهر من مظاهر اتساع الأفق. وفي وسعنا أن نهتدي إلى سبيل لإدماج التعليلين، العضوي والفردي، أو العلمي والصوفي عند نيتشه، إذا أدركنا أنه ينظر إلى القيم نظرة واقعية تماما. فهي ليست مثلا عليا بعيدة، وإنما هي كامنة في الواقع، وفي الحياة ذاتها؛ ومن هنا كانت نظرته إلى القيم فردية، وبيولوجية في نفس الآن.
فما هو الهدف الذي كان نيتشه يرمي إليه من دعوته إلى انقلاب شامل في القيم
Umwertung aller Werte ؟ نستطيع أن نقول إن دعوته هذه كانت هي الخطوة الأساسية الأولى، التي لا يمكن أن تقوم ثورة عقلية أو علمية بدونها؛ فالقول بنسبية القيم يفتح أمامنا السبيل إلى محاولة تغييرها، ولا يجعل هذا التغيير أمرا مستحيلا، كما كان الحال في النظرة القديمة المطلقة، وأن أي سعي إلى تغيير الأوضاع التي يحيا عليها الناس، سواء في المجال الفكري وفي المجال الاجتماعي، إنما يفترض مقدما إيمانهم بأن المعايير التي يقيسون بها الأمور ليست معايير أزلية ثابتة، فرضت عليهم بقوة لا سلطان لهم عليها، وإنما هي معايير صنعها الإنسان لهدف معين، وفي وسعه أن يبدلها إذا شاء أن يضع لنفسه هدفا آخر.
وهذه الدلالة السلبية لنظرية نيتشه في القيم هي في رأينا أقوى من أية دلالة إيجابية؛ ذلك لأنه حين ينتقل إلى الجانب الإيجابي، وحين يوضح الهدف الذي يرمي إلى تحقيقه من انقلابه في القيم، ينادي بآراء يرفضها اليوم كثير من الناس، ولا يستطيع باحث منصف أن يقبلها على علاتها. ومع ذلك، فإذا كان نيتشه قد أخطأ طريق الإصلاح، فحسبه أنه مهد هذا الطريق من قبل، ووضع الأسس التي لا يكون الإصلاح بدونها ممكنا؛ أعني أنه نبهنا إلى أن معاييرنا إنسانية. فلنرفض معاييره الجديدة إذا شئنا، ولكن لنذكر له دائما هذا الفضل، وهو أنه فتح أمامنا سبل التجديد في فهمنا العقلي للعالم وسلوكنا الفعلي فيه، وذلك حين مجد قدرتنا الإنسانية على الخلق والإبداع، وأزاح كل ما كان يقف أمام فاعلية الإنسان من عقبات.
الفصل الثالث
Halaman tidak diketahui