Kecenderungan Pemikiran Eropah Dalam Abad Kesembilan Belas
نزعة الفكر الأوروبي في القرن التاسع عشر
Genre-genre
مقدمة
نزعة الفكر الأوروبي في القرن التاسع عشر
مقدمة
نزعة الفكر الأوروبي في القرن التاسع عشر
نزعة الفكر الأوروبي في القرن التاسع عشر
نزعة الفكر الأوروبي في القرن التاسع عشر
تعريب
إسماعيل مظهر
مقدمة
الأستاذ «جون تيودور مرتز» أشهر من أن نعرف به ملما بالأدب الإنكليزي في العصر الحاضر، على أنه إن كان تعريف القراء بمؤلف أوروبي أمرا واجبا، فحسبنا أن نقول في ذلك الأستاذ: إن مؤلفه في تاريخ الفكر الأوروبي في القرن التاسع عشر ينزل من مؤلفات هذا العصر في التأريخ العلمي منزلة كتاب «غيبون» في سقوط الدولة الرومانية، أو مؤلف «مومزن» في تاريخ روما، من حيث الأثر والقيمة، على ما بين التأريخ العلمي والتأريخ العام من الفوارق التي لا تغيب عن المشتغلين بالعلوم الحديثة.
Halaman tidak diketahui
أنفقت وقتا غير قصير في الإكباب على دراسة كتاب «مرتز»: تاريخ الفكر الأوروبي في القرن التاسع عشر، فثبت في يقيني أن نقل هذا الكتاب إلى اللغة العربية يكون بمثابة حلقة وصل بين عهدين: بين العهد القديم، والعهد الحديث في تاريخ العلم والفلسفة، وأيقنت من جهة أخرى، أن وقوف الناشئين من أبناء العربية على آخر ما جادت به عقول النبغاء في أوروبا من ثمرات العلم والفلسفة حتى ختام القرن التاسع عشر تمهيد ضروري لمن يريد أن يتابع حركة النشوء الفكري في القرن العشرين.
فروع العلم الحديثة واسعة النطاق، وهي على تباين مراميها ووجهاتها متحدة الغاية؛ فإن الغاية منها تثقيف العقل الإنساني، فهي مرقاة يتعلق بأسبابها الإنسان لكي يصل إلى أبعد حد مستطاع من الرقي الاجتماعي؛ لهذا رأيت أن لا أقسر القراء على قراءة كتاب في تاريخ الفكر الأوروبي، علميا وفلسفيا، يقع في أربعة مجلدات ضخام، في حين أن كلا منهم قد يعنى بمقال واحد فيه؛ فإن المؤلف قد قسم الكتاب إلى شطرين عظيمين: خص الشطر الأول بالعلم، والثاني بالفلسفة، ولم يترك في كلا الشطرين من علم أو مبحث فلسفي لم يكتب فيه مقالا رائعا يصح أن يكون في ذاته رسالة مستقلة عن الكتاب في مجموعه ؛ لهذا فضلت أن أنشر الكتاب في رسائل ملخصة تلخيصا هو أقرب الأشياء شبها بالترجمة الحرفية، بما تقضيه من أمانة في تحري الألفاظ التي تعبر عن حقيقة الفكرة الخفية في موضوعات العلم والفلسفة.
ولست بمقيد نفسي بترتيب أبواب الكتاب، فقد أنشر رسالة من رسائله الفلسفية لأعقب عليها برسالة في العلم أو أخرى في الأدب، وسوف أبذل جهدي لأجعل ظهور الرسائل متتاليا في فترات تكفي لامتصاص الفكرة المنبثة في تضاعيف كل منها.
إن تلك الملخصات سوف تكون تاريخا ومرجعا لبحث الفكرتين العلمية والفلسفية في القرن الماضي، سوف ترضي مقترح الكثيرين من الأصدقاء الذين طلبوا إلي أن أخرج في العربية رسائل مختصرة توقف الناشئين على ما وصل إليه العلم، وما بلغت إليه الفلسفة في العصور الحديثة، على أني بعد التفكير الطويل قد اقتنعت بأننا في عصر أحوج ما نكون فيه إلى الترجمة والنقل، فإذا أضفنا إلى ذلك أن صوغ المبادئ العلمية والفكرات الفلسفية في قالب تاريخي أدبي، أروح على نفوس الناشئين والطلاب والباحثين من الإكباب على المصطلحات الفنية الصرفة، عرفنا إلى أي حد تذهب الفائدة في نشر هذا الكتاب في رسائل مستقلة تخرج من ثلاث جهات نورا ساطعا: من جهة العلم، ومن جهة الأدب، ومن جهة الفلسفة. •••
كذلك قد حررت نفسي من التقيد بنشر كتاب «مرتز» وحده؛ فإن في عالم المؤلفات الحديثة كتبا قيمة في مختلف الموضوعات العلمية والفلسفية قد أخص الكثير من فصولها بالتلخيص، وإن كان أغلب همنا سوف يصرف إلى كتاب «مرتز» بادئ ذي بدء، على أني سأخص كتاب العلامة «جون ديكسون وايت» في «تاريخ تنازع البقاء بين اللاهوت والعلم في عصور النصرانية» بقسط من العناية لا يضارعه إلا عنايتي بكتاب «مرتز»؛ فإن شباب هذا العصر وباحثيه إن وقفوا على تاريخ تحرير العقل من أسر الأوهام التي سطت عليه في القرون الوسطى، وعرفوا تاريخ الجلاد الذي وقع بين اللاهوت والعلم حتى أواخر القرن الثامن عشر، ووجدوا بين أيديهم تاريخا كاملا في كل ما أنتج العقل والفكر في القرن التاسع عشر. أتموا بذلك رحلة يستقر بهم نواها على منتجات العقل في القرن العشرين.
على أنني إن حررت نفسي من التقيد بموضوعات الكتابين، ومما سوف أنتقي من فصول المؤلفات الحديثة التي آنس فيها إتماما لغرضي هذا؛ فإني سأعمل على أن أحتفظ بأوجه العلاقة الواقعة بين ما أنتقي من موضوع الرسائل؛ ليحدث تسلسلها في ذهن متتبعيها كفاءة خاصة يدركون بها مقدار الفرق بين القديم والحديث.
إسماعيل مظهر
القاهرة، أغسطس سنة 1923
نزعة الفكر الأوروبي في القرن التاسع عشر
1
Halaman tidak diketahui
هنالك وراء المشاهد التي تتمثل أمامنا في الحوادث الخارجية، والتقلبات التي يكشف لنا التاريخ عنها جلية أمام حواسنا، يقع العالم الخفي، عالم الرغبات والبواعث، ومحركات الفكر، متبوعا بالانفعالات النفسية وقوى الحياة التي تنتج تلك الظاهرات أو تصحبها.
هنالك وراء مظاهر الحياة، نجد العالم الخفي، عالم الفكر، وما كان للتاريخ - حسب ما يفهم اليوم من معناه في اللغات الحديثة - أن يكون تاريخا حقا حتى يتناول الحقائق والحوادث متتابعة متلاحقة، متواصلة غير مفصومة الحلقات، فيظهرها لنا مترابطة الأسباب، جماعها عائد إلى قصد أو غرض ما، فيرجع بنا إلى الماضي سعيا إلى علة جوهرية، أو يسوقنا إلى الأمام ابتغاء غاية محدودة، كذلك الحال في محركات الفكر وبواعثه، والرغبات وقوى الحياة التي تقع وراء الحوادث الظاهرة؛ فإنها تحتاج للاتصال، وأن تظهر على حال من النظام والتتابع حتى نستطيع أن نبلغ منها بفهم، أو نتقصاها بتأريخ ووضع.
على أن ذلك العنصر الخفي، عنصر الفكر، لهو الذي جمع بين شتاتها، ووصل بين أطرافها، وهو الذي يجب على المؤرخ - إذ يتصدى للكشف عن هذه الحقائق - أن يستوعب شارده ووارده. والفكر وحده، مهما تعددت مظاهره، وتنوعت مشاهده، سواء أكان مبدأ للعمل وبذل الجهد، أو واسطة يتلوها التأمل والاستبصار، في مستطاعه أن ينظم المتفرقات المبددة، ويربط بين فروعها، ويجمع بين شتاتها، وفي طوق استطاعته أن يحرك ما ليس بمتحرك، وأن يدفع بالحركة إلى الأمام ما هو ثابت، لا متقدم له ولا متأخر. ولا جرم أنك إن استطعت أن تذهب إلى الدنيا بعالم الفكر؛ فإنك لا تلبث أن تجد أن اطراد النسق، ووحدة الوتيرة، والتجانس التام قد أصبح المبدأ في نظام الطبيعة.
وهذا القول قد يظهر للسواد الأعظم من الناس غريبا، وفيه كثير من التطرف والجرأة. أما أولئك فهم الذين يتدبرون ظاهرة الطبيعة العظمى أكثر من تدبرهم تلك الحدود الضيقة التي ينحصر فيها عمل الإنسان ونشاطه ودائرة تبصره، على أن بضعة ملاحظات لتكفي للدلالة على أن ما أوقن به لا ينافي وجهة النظر التي ينظرون؛ فقد يقول البعض: إننا نجد، بعيدا عن عالم الفكر الإنساني برمته، أن للأرض تاريخا، وأن للنظام الشمسي تدرجا ونشوءا، وأن النشوء على نظريات العلم الحديث هو المبدأ الأوحد الذي يخضع له العالمان: الحي، وغير الحي، وأن السكون والتجانس لا وجود لهما في الكون، وأنك أينما وليت وجهك باحثا في نواحي الطبيعة لا تقع إلا على ضروب من التغير، وأوجه من الحركة.
ولكن ألا يعرفون أن التغيير والحركة وحدهما لا يبعثان على وضع التاريخ وتكوينه؟ فإن التغيير والحركة ليصبحان من الاطراد والثبات على نمط معين، بحيث يكون حكمهما في الطبيعة حكم السكون التام، إذا تكرر وقوعهما متعاقبا على وتيرة واحدة، وشكل غير متناه، أو إذا لم تحدث الحركة شيئا زائدا على ماهيتها، بأن يكون ذلك الشيء الزائد على ماهية الحركة أكبر خطرا، أو أحسن صفة من نقطة الابتداء، ولكن مصطلحات الكلام إذ نستعملها لتدل على ذلك الشيء الذي نخصه «بعظم الخطر» و«حسن الصفة»، تلك التي تحتاج في المقارنة والقياس إلى كائن مفكر يجعل لشيء من الخطر والعظم ما ليس لغيره، ويحكم على الأشياء بالقياس على أمثال عليا يتخذها قاعدة لأحكامه. جماع هذه المعاني ليست بكائنة في تضاعيف الموجودات أو ظاهرات الطبيعة ذاتها، بل إنك لا تجد لها من أثر إلا في ثنيات العقل المفكر وحده. وقد يصح أن يكون في مقدور سلسلة من التغيرات الآلية - الميكانيكية - غير العاقلة، أن تستحدث أعدادا لا نهاية لها، أو صورا لا نهاية لتنوعها.
غير أن النهج الطبعي لا يمكن أن يصبح تاريخا إلا إذا بلغ حدا عنده يستطيع عقل مفكر أن يفقه منه طريقة الانتقال من حالة الوحدة إلى حالة التضاعيف والكثرة، أو أن يستوعب منه طريقة إبراز تلك الصور التنوعية الشتى، أو أن يكشف عما إذا كان من شأن تلك الظاهرة الطبعية أن تنتج شيئا ماديا ذا قيمة، أو أن تنتج اتصالا بفائدة معينة، أو أن يستشف منها ضررا يسبب خسارة، أو نفعا يحدث كسبا.
فالرقاص إذ يمضي في الحركة يمنة ويسرة على نمط واحد غير ذي انتهاء، والسيار إذ يتحرك حول الشمس مكررا حركته إلى لا آخر ولا قصد، والجوهر الفرد إذ يهتز متراوحا في مكان معين؛ جماع هذه الأشياء لا تبعث فينا شيئا من حب العناية بها لأبعد من معرفة القانون الرياضي الذي يضبط حركاتها، ويحملنا دائما على أن نستوعبها عقليا؛ أي نفكر فيها.
فاتحاد عدد غير متناه من هذه الحركات الأولية لا يبعث فينا شيئا من العناية به، ما لم نعتقد أن من اتحاد مثل هذا العدد قد ينتج شيء جديد غير مرئي؛ شيء ينبه فينا الشعور بحس من الجمال أو الفائدة إذا عرفناه وملكناه، شيء ذو قيمة غالية في نظر العقل المفكر، مهما كان المعنى الذي يؤديه لنا اصطلاح «العقل المفكر» كبيرا أم صغيرا، عظيما أم حقيرا.
غير أننا إذ ننظر في العالم غير الحي، فنجد أن نهج الطبيعة في التغير وعدم الثبات يبعث فينا شيئا من اللذة والعناية به، ونلحظ أن لذلك العالم تاريخا ترجع معرفته كما يعود استكناهه إلى عقل مفكر يدونه ويتفهمه وينميه ويقدره، فإلى أي حد تتضاعف تلك اللذة، وتذهب هذه العناية، إذا ما نظرنا في أعمال العالم الإنساني؛ حيث يصبح الإنسان أول مصدر للعمل، فضلا عن أنه القوة المفكرة وينبوعها، ما دام ذاك مبلغ لذتنا وعنايتنا من النظر في العالم غير الحي!
فإذا لم يكن في مستطاع السنين وتعاقبها، والعصور وتلاحقها، أن تحدث تغيرا ما، وإذا لم يكن في مقدور سنن الوجود ونظام الحياة إلا أن يتكرر وقوعها على نمط واحد غير متناه؛ فلا جرم أن هنالك يتعطل التاريخ، ويمسك عنه أن يبعث فينا من اللذة ما يسوقنا إلى العناية به؛ فإن لقبائل أفريقية المستوحشة تاريخا، ولكن تاريخها قد يصبح معروفا برمته إذا وقفنا على نظام حياتهم اليومية أو السنوية على الأقل، أو نظام حياتهم خلال جيل على الأكثر.
Halaman tidak diketahui
كذلك الحال في بلاد الصين، فإن ما في الحياة الصينية من مظاهر السكون وعدم التقدم تجعل تاريخهم مقتضبا ضئيلا على الرغم مما فيه من التعقيد والاختلاط؛ فإن ألوفا من الأعوام تمضي على بلاد الصين لا تسد من فراغ التاريخ أكثر مما تسده أيام معدودة في تاريخ أوروبا الحديث، أو كما يقولون شعرا:
خمسون عاما من حياة أوروبا خير من دورة شمسية في غيرها.
لذلك نرى أن الفكر من طريقين اثنين ذو فائدة كبيرة وشأن عظيم للمؤرخين؛ فإننا إذ ننظر في كل تغير يحدث في الطبيعة، أو تبديل يقع في عالم الحياة الإنسانية نتساءل: أي أثر أحدث ذلك التغير في عالم الفكر؟ وأية فائدة أو ضرر أو تقدم قد أحدث في عقول الناس الذين هم كاشفو خباياه وملاحظو آثاره؟ وهل ضاعف من معلوماتنا؟ وهل زاد إلى مجموعة أفكارنا وآرائنا؟ وهل زادنا بعدا في النظر، وإمعانا في التغلغل إلى صميم الحقائق؟ وهل أوسع من آمالنا وقوى من عواطفنا؟ وبالجملة: هل أضاف جديدا إلى مصالحنا ولذاتنا؟ وهل أوسع من حياتنا الداخلية؛ حياة الفكر، فجعلها أكثر امتلاء وأقل فراغا؟
أما إذا نظرنا في التغير واقعا في الأعمال الإنسانية ونتائجها؛ فإنا نتساءل: ماذا كان أثر الفكر، عالم الحياة الداخلي، في إحداث ذلك التغير؟ وفي هذين السؤالين وحدهما ينحصر واجب المؤرخ إذا ما أراد أن يؤرخ في عالم الفكر الخفي.
ولا أظن أن هنالك ضرورة تقضي علي في هذا المقام أن أبين عن هذا الاصطلاح - اصطلاح الفكر - محيطا بمعناه من كل أطرافه، وفضلا عن بعد ذلك عن الضرورة، فإني أعتقد أن ذلك خارج عن طوق تجاريبنا. وقد يساق الكثيرون إلى المطالبة بتعريف للفكر، أو بيان أكثر من التعريف دقة في إظهار الصلة الواقعة بين الطبيعة والحياة والفكر، على أن أمثال هذه التعاريف يجب أن تترك للقارئ ذاته، إذا ما شعر بأن هناك حاجة تقضي عليه بأن يضع - خلال تفهمه هذا الكتاب
1
وما انطوى عليه - نظريات ذاتية يستخلصها من هذه المسائل في مجموعها.
فوضع أي تعريف في مثل هذه الحال قد يحوطنا بكثير من أسباب التناقض غالبا ما تفضي بنا إلى التهوش والفوضى. وإني لأعتمد في ذلك على ما تؤدي كلمة «الفكر» ذاتها من المعنى عامة غير محدودة بتعريف، على اعتبار أنها تنقل إلى كل من الناس معنى ذاتيا يدركه بنفسه، معنى يؤهل به إلى فهم هذه القضية العامة التي بدأنا البحث بالنظر فيها، أو يسوقه إلى الاعتقاد بوجود عالم خفي يقع وراء عالم الحوادث والحقائق البارزة، حتى يستيقن من أن لذلك العالم الخفي طبيعة دائمة التغير، مستمرة الحركة، أو يدفع به إلى الإيمان بأن هنالك علاقة وصلة بين هذين العالمين، وأن كلا منهما يحدث في نظيره أثرا هو نتيجة عكسية لفعل أحدهما في الآخر.
والعالم الخفي، سواء أكان من ناحية الوجود الزماني، أم من ناحية الخطورة والشأن، هو المقدم على العالم الظاهر، وسواء أكان ما ننسب من المكانة والشأن لحيز الاستدلال والاستنتاج في عالم الفكر، على ما في ذلك الحيز من الجلاء والوضوح، مساويا أو غير مساو لما ننسبه إلى حيز الإحساس والتصور، مشفوعا بحيز الانفعالات غير المدركة، على ما فيه من الغموض والإبهام، فعامة ذا مسائل ليس من الضروري أن نجيب عليها في هذا الموطن؛ إذ يكفي أن نشير إلى وجود عالمي الحياة والفكر؛ ليعرف بذلك الباحثون أننا لا نعني بعالم الفكر تلك الآراء ذوات التعاريف المحدودة الجلية المنظومة في سلسلة ما فحسب، بل نشفعها بعالم الرغبات والانفعالات والإحساس والتصور، تلك التي تؤثر في حياتنا الداخلية، حياة النفس الخالدة، تأثيرها في العالم الخارجي.
وسوف أسوق البحث متحديا هذا المعنى في كل ما سوف أسطر في هذه العجالة من الكلام في تاريخ الفكر، مقصورا على عصر من عصوره وليس في تاريخ الفكر عامة ، سأقصر البحث في تاريخ الفكر الإنساني على هذا العصر
Halaman tidak diketahui
2
الذي نعيش فيه، مشفوعا بلمحة في العصر الذي سبقه مباشرة، وهو العصر الذي يعيش فيه كاتب هذه الكلمات وقراؤه، عصر لهم به إلمام وعلم مباشر، وذكريات قد تكون صحيحة، وقد تكون غير ذلك. كان هذا الاعتبار أكبر سبب حملني على أن أفرغ قصارى جهدي في بحث تاريخ هذا العصر دون غيره من تاريخ الفكر الإنساني، مقتنعا بأنني وقرائي أكثر معرفة بهذا العهد على ما يظهر لي من أي عهد آخر، إذا تسنى لي أن أمضي في بحثه على الطريقة المثلى. ولما كان كل شخص هو أقدر الناس على كتابة تاريخ حياته، كذلك يغلب علي الظن أن أبناء كل عصر من العصور - على اعتبار ما - هم أثبت من يحيطون بتاريخ الفكر فيه.
ولقد قام الكثيرون يناهضون هذه النظرية مناهضة كان مقدارها في كل الحالات رهنا على ما هو واقع بين الحوادث الخارجية من الأثر، تلك الحوادث التي يلحقها كثير من الكتاب بالتاريخ اعتباطا وإسرافا، ويقال: إن المعاصرين من الكتاب إذ يؤرخون في عصورهم لا يتخطون من التاريخ حد تدوين الحوادث ناظرين فيها من ناحية واحدة، فتخرج من بين أيديهم ناقصة بتراء. والحقيقة أن المؤرخ أحوج ما يكون إلى استيراد أكبر عدد ممكن من المدونات المتنوعة؛ لأن أصح المدونات التاريخية وأقربها إلى الحقيقة هي التي تخرج من فكر أكثر الناس قدرة على الجمع بين شتات هذه المدونات، فيجعلها كما واحدا، فيستطيع بذلك أن يتجنب مواضع الزلل التي كثيرا ما تتغلغل إلى صميم الأبحاث من الإكباب على ناحية واحدة من نواحي النظر الفكري يعكف عليها الكاتبون، ويمكنه أن يتنكب بذلك سبيل العماية في استقصاء نواحي الاستبصار، وأن يبعد جهد البعد عن الجهل الشخصي والتخبط، والحكم على الأشياء بمجرد اللذة والهوى.
على الرغم من هذه النقائص وأمثالها، فإن مدونات المعاصرين قد ظلت طوال الأعصر - وستظل - أثمن مصدر، وأوثق منهل يعتل منه مؤرخو العصور المستقبلة، الذين هم من الجائز أن يصلوا إلى تمحيص براهينها، والفحص عن أسانيدها، فيجمعون بين شتاتها، ويظهرون مواضع النفع فيها، فتتمخض عن صورة من التاريخ أكثر ثباتا، وأبعد دقة، من صور العصور التي تتقدمها، بيد أن مدونات اللاحقين إذ تكون قيمتها محدودة بعصر ما، فإن تاريخ المعاصرين، أهل الشهادة لما وقع في عصورهم، على ما يكون فيها من السذاجة والإطناب، بل ومن التناقض، سوف تبز - بعد مضي المئات والألوف من السنين من حيث البقاء والثبات والقيمة - مدونات اللاحقين على ما سيكون فيها من آثار الجد والجهد الفتي؛ لأن مدوناتهم سوف تكون نتاجا لما يبعثه فيهم وحي عصر غير عصرهم، واقتناع بضروب من الأحكام العامة ليست من نتاج أفكارهم، أو كما لاحظ جوته إذ قال:
إن التاريخ يجب أن يعاد تدوينه من حين إلى حين، لا لأن حقائق كثيرة تكون قد عرفت على مر الأيام، بل لأن أوجها من النظر قد تظهر في أفق البحث العقلي، ولأن المعاصرين الذين هم ذوو ضلع كبير في تقدم عصورهم وارتقائها، يساقون دائما إلى غايات ينتهون بها إلى حيث تصبح ذات صبغة يقتدر بها على تدبر الماضي والحكم عليه بصورة لم تكن معروفة من قبل.
إن كثيرا من كتاب التاريخ، الذين أنبتهم هذا العصر، سوف يظلون قرونا عديدة موضع الفائدة ومرجع الجاذبية العامة، كمؤرخين أبرزوا للعالم من العدم أساليب جديدة من البحث، وانتحوا من النظر نواحي مبتكرة في السياسة والاجتماع والرقي الأدبي أكثر منهم مقرري حوادث ومدوني وقائع يمكن الاعتماد عليها، والثقة بها، وإن طريقة النظر الموضوعي
Objective Method
التي يعكف عليها البعض منهم، سوف ينظر إليها لا كطريقة ابتغوا بها التحرر من آثار التقيد والتقليد، ولكن كطريقة لم يشعروا لدى إكبابهم عليها بما أوحي لهم من قبل تخيلهم ووهمهم الذي يتحكم فيهم التحكم كله.
غير أن الحقائق التاريخية التي يرجع تدوينها ونقدها إلى عقول عاصرت وقوع تلك الحوادث لها فائدة مزدوجة في الكشف عن حقائق العصر الذي وقعت فيه، فإن الحوادث والعقول التي تنصرف إلى التأمل فيها، كلاهما يكمل نقائص الآخر في إخراج صورة أكثر كمالا، وأقرب إلى التمام رحما. وشأن الحوادث والعقول في ذلك كشأن المادة والوجهة التي ينظر إلى المادة من ناحيتها في تبعيتها لزمان واحد.
من هنا نسلم بأن المؤرخين أمثال «ثيوسيديد» و«تاسيتوس» و«ماكيافيلي» عبارة عن نماذج كاملة في فن كتابة التاريخ، وأن المذكرات التي يخلفها سياسيو العصور الحديثة عادة أثمن قيمة، وأبعد فائدة، وأطول بقاء من تلك القصص الموصولة الحوادث، المحبوكة الأطراف التي يكتبها مؤرخون لا صلة لهم بالزمان الذي يؤرخون فيه، رغم ما يصرفون فيها من الجهد والعناء.
Halaman tidak diketahui
أما وقد انتهى بنا البحث إلى أن مدونات المعاصرين للحوادث ذات قيمة خاصة بها مهما كان في تلك المدونات في منازع النقص، فلا نخال أن يكون تدوين الأفكار إلا أبلغ من تدوين الحوادث خطرا، وأبعد نفعا، وأعمق فائدة، لا سيما إذا أخذ «الفكر» على أنه الحياة الداخلية الكامنة لعصر من العصور، ولم يقتصر معناه على ذلك الجزء الذي يدل على الفكر المحدود القاصر في الدلالة على منتجات الأقلام خلال زمان ما من الأزمان؛ ذلك لأن جزءا عظيما من تلك الحياة الداخلية الكامنة لا يمكن أن يبلغ منه أحد بفهم أو معرفة، إلا شخصا اشترك في تكوينها ومثل فيها من أوجه الحياة دورا.
الآمال الغامضة المبهمة التي تجيش في صدور الآلاف المؤلفة من أبناء آدم وهم عاجزون عن إقناع شهوتها، أو التعبير عن حقيقتها، والسقطات والهزائم التي تمر في عالم الحياة من غير أن يعرفها أحد، أو يهتم بها إنسان، والرغبات التي تعيش في صدور الناس ممتدة في سلسلة من التواصل والتتابع غير متناهية، أو تتشكل بصورة ما من صور حياتهم، والمحاولات التي يتشبث بها الناس ابتغاء الوصول إلى حل المشكلات العلمية التي يمليها الطمع عليهم، أو تبعث بها الحاجة في النفوس، وتلك الساعات الطويلة التي ينفقها محبو العلم سدى؛ طمعا في الوقوف على أسرار الطبيعة - جماع هذه المجهودات المخبوءة في نواحي النسيان تكون ذلك الهيكل الذي نسميه «فكر الأمة»، ولا يطفو منه على سطح الحياة إلا جزء ضئيل بارز في صورة من الأدب ، أو العلم، أو الشعر، أو الفن، أو المنتجات المادية الخاصة بفترة ما من فترات الزمان.
وإن لدينا شيئا آخر لا يقل عما سبق القول فيه قدرا، وإن كان أقل منه ظهورا للناس؛ فإن ذلك القدر العظيم من الفكر «الكامن» لهو الذي أتم النضج، وهو الذي استجمع مواد الإشعاع الفكري وجعلها على أهبة الإضاءة إن أشعل فتيلها شرارة من الانبعاث في التأمل والعمل. إن «الفكر الكامن» عبارة عن القوة الدافعة العظيمة التي تستخزنها الأزمان، وتظل مستخزنة حتى تفك عقالها العبقرية والكفاءات الفردية، فتنبعث في سبيل الحرية والنشاط.
لقد عرفنا الفلاسفة عند مقدار ما في الحياة العضوية من أوجه الإسراف، خبرونا عن الآلاف المؤلفة من الجراثيم التي تولد وتتلاشى عبثا، وعن مقدار ما ينثر من الحب سدى. والظاهر أن للمجهود العقلي والأدبي حظا من الإسراف والعبث لا يقل عن حظ الحياة العضوية، غير أننا إذا تأملنا في الحياة العقلية همس في روعنا اعتقاد يقنعنا بأن مبدأ تعاون الأكثرية، لا مبدأ التضحية الفردية، هو السر في نجاح الأقلية، وأن الإتقان وليد الجهد المشترك، وأن الكثيرين لا بد من أن تتبدد حياتهم ليصل واحد إلى الغرض.
أي شعور آخر غير هذا في مكنته أن يصبح سلوى أولئك الأمناء الشجعان، الذين أنفقوا أعمارهم ابتغاء الوصول إلى حل مجموعة المشكلات الاجتماعية، على ما فيها من مظاهر الاستعصاء، وعلى ما يحف بها من المشكلات؟ أي سلوى غير هذه لأولئك الذين يعملون على استئصال جذور الرذائل والتعاسة التي تفيض بها الحياة في المدن العظمى؟ أو للذين يقومون صارخين في وجه المستبدين منادين بحرية الشعوب المستعبدة؟ أو للذين يبشرون بالسلام عاملين على قتل روح الحرب والعسكرية؟ أي شيء في العالم أكثر ترويحا على نفس مؤلف ينفق نصف عمره في تأليف كتاب يخرج من آلة الطباعة ميتا منبوذا، أكثر من اعتقاده بأن كاتبا آخر غيره قد ينجح في المستقبل فيما أخفق فيه اليوم، وأن إخفاقه ليس إلا جزءا من الجهد الكامن الذي سوف يكون حجرا في بناء التعاون في سبيل إبراز غرض نافع؟
غير أنه يحق لنا أن نتساءل في مستطاع من من الناس أن يكتب تاريخ ذلك الجهد الكامن المخبوء في ثنايا الفكر العام لأمة من الأمم؟ من من الباحثين قد خص بقدر من الحساسية النفسية يمكنه من أن يدرك بشعوره وبصيرته الخفية، في أية ناحية من نواحي الحياة كان ضغط الحوادث أشد أثرا، وفي أيها كان الجهد الإنساني أطول مدى، قبل أن ينبثق فجر الحياة الجديدة؟ من من المفكرين قد يبلغ خياله وتصوره مبلغا يمكنه من تتبع تلك الخيوط المشعة في عقل الأمم، والتي تتجمع في عقليتها الكامنة حالا بعد حال، بعد أن تسطع أضواء الحياة بنتائج الجهد المشترك؟
نحن الذين نعيش مترقبين إشعاع الضوء محوطين بما يغشاه من العقبات والمتاعب، نحن الجنود المحاربون في سبيل الحق، المنفقون حياتنا وجهودنا في جوف المعركة، لا بعد انتهائها، نحن الذين يحق لنا أن نفخر بأن في قدرتنا أن نروي من منازع الآمال الجائشة في الصدور، ومن أوجه الجهود التي قام بها كثير من أبطال الحياة الفكرية، ومن تشعب نواحي الفكر، رواية أقرب إلى الحق رحما، وأصدق قولا، وأثبت تأويلا.
على أن لدينا مسألة أخرى نجد في بحثها لذة وخطرا: قد نتساءل إلى أي عصر من العصور الماضية نستطيع نحن - الذين عشنا خلال النصف الأخير من القرن التاسع عشر - أن نرجع بتاريخ عهدنا الذي نفخر بأننا أوقف الناس على خباياه، وأعلمهم بما فيه؟ لا مرية في أننا نعرف أن آباءنا وأجدادنا الأقربين هم الذين شاهدوا الحملة الإنسانية التي قامت للقضاء على تجارة الرقيق واقتناء العبيد، بل اشتركوا فيها. هم رجال الأجيال الذين قاموا بأكبر قسط من الإصلاح الحديث، هم الذين عركوا ذلك الانقلاب المبين الذي أحدثه استخدام البخار والغاز، كما أنهم من الذين أخذوا بضلع في حركة التعليم ونشره في أنحاء الأرض.
هم الذين شهدوا ثورة ألمانيا ضد الاستبداد البونابارتي، وأدركهم «جوته» في عنفوان رجولته، فهزت عبقريته أعماق نفوسهم، وأخذوا بضلع في إحداث طور الانتقال الذي أدرك الأدب، فأطلقوا من قيود العصور الأولى واحتذاء أمثلة القدماء إلى سلاسة الذوق الحديث، ومسهم من شعر «بيرون» ما يمس القلوب فيصهرها حره، أو يثلجها قره، وأنصتوا لمفوهي الخطباء الذي أنبتتهم الثورة الفرنسوية الثالثة، ورووا لنا ما كان من سحر نابوليون الأول على الملايين الذين مضوا به معجبين، وله خاضعين.
إن الشطر الأعظم من تلك الصور الشتى لا تعيش بيننا اليوم إلا في قالب من القصص يرويه الذين عاصروها، أو في صدور الذين شهدوها وامتد بهم أجلهم ليرووا بأنفسهم أخبارها، ولم يتم إلا لبعض منهم أن يخلدوا بأقلامهم في بطون الأوراق، أو بريشتهم على لوحة التصوير، ذكرها ... ليتركوها ذخرا للأجيال القادمة. لم نسعد بسماع كلماتهم فحسب، بل سعدنا بما استقرأنا في ملامح وجوههم من آثار الشدائد التي عانوها، والصعاب التي شهدوها، ورأينا في البريق الذي تبعثه عيونهم موحيات الحمية، ومطاوعات الأمل، وشهدنا في نظراتهم وفي أصواتهم المرتجة ذكرى ما وقعوا عليه من شهوات الصبا، ومسرات الشباب والفتوة.
Halaman tidak diketahui
على أننا لم نسعد بهذا وحده، فإنهم قد حملوا إلينا شهادة ناطقة، وأورثونا تراثا حيا دائما، غير أنه يخرج عن طوق مستطاعنا أن نورث أولادنا ذلك التراث كما تسلمناه من يد آبائنا؛ فإنه لن يمر من بين أيدينا غير مدخول بتحوير أو تغيير.
إن هذا التراث لهو «اللغة» التي علمنا إياها آباؤنا مذ كنا في المهد أطفالا، على أنهم قد نالوا من اللغة، على غير علم منهم، بالتغيير والتبديل، غيروا اللهجة والكلمات والجمل التي تلقوها عمن سبقهم؛ إذ ركزوا في تلك الكلمات والجمل طرق الكلام التي شاعت خلال سنيهم، وأدمجوا فيها روح عصرهم، ومزجوها بفكراته وخيالياته. وتلك الجمل الممسوسة بأثر الطرق الكلامية الخاصة بهم قد ورثناها منذ الطفولة، فكانت المادة التي تكونت منها عقولنا، وكأنها صدفة محبوكة الأطراف لا بد من أن تسبك أفكارنا على نموذجها، أو هي الأداة التي نعدم بدونها طرقا للتعبير عما يخالج أنفسنا من الفكر أو الخيال.
من لغتهم، ومن جملهم المركبة، وأمثالهم الجارية على ألسنتهم، عرفنا كيف نفرق بين ما هو خطير مفيد ، وبين ما هو تافه حقير، ومنها استمدت عقولنا مختلف الموضوعات التي تشغل أفكارنا، والآمال التي تجيش في صدورنا، والمبادئ التي نعكف عليها، والوسائل التي نتخذها في الحياة هاديا ومرشدا. ولا ريبة في أن مجمل هذه الأشياء قد ورثوها هم عن غيرهم، غير أن ما أمدتهم به قواهم العاقلة من ضروب الفوارق العقلية الدقيقة، ورفاهة إحساساتهم، وعريض آمالهم، جماعها أثر تأثيرا عظيما في جوهر اللغة؛ إذ إنهم بما أضافوا وما بدلوا، قد استغلوا ما في عنصر اللغة من مطاوعات اللين والمرونة، وما زالوا يعالجونها حتى جعلوها أكثر تكافؤا مع ما تتطلب حاجاتهم، ومقتضيات حياتهم.
لقد ورثنا اللغة مدخولة بما حور فيها آباؤنا، فورثنا معها روح الجيل الماضي؛ تلك الروح التي تسوقنا كرها إلى مناحي من التفكير بعينها، وترغمنا على أن نلزمها، وتضع في طريقنا من الصعاب ما يجعل جنوحنا إلى غيرها متعذرا، اللهم إلا إذا تدرجنا في تنكبها تدرجا، وابتعدنا عنها متخطين حواجزها خفية متسللين، حتى نستطيع أن ننبه في كامن نفوسنا نزعة إلى فكرات لم تكن لتدر في خلدنا، وأذواق لم نألفها، وإحساسات لم تعتدها مشاعرنا.
يعكف الكثير منا على الأفكار الموروثة، وعلى مناحي التفكير المفطورين عليها، الرسيسة في أخلاقهم منذ الطفولة. وقد يستعين البعض بتعلم اللغات الأجنبية أو بالهجرة ابتغاء العيش في ممالك قاصية عن موطنهم، على بلوغ درجة من الرقي يسهل معها أن يستوعبوا أساليب جديدة للبحث والتفكير، على أن القليل منا هم الذين يفوزون بإبراز شيء من الفكرات المبتكرة المخدرة، فيكسرون بذلك صدفة اللغة المحبوكة أطرافها على التعبيرات المتداولة، فينحتون كلمات جديدة وتعبيرات مستحدثة لأنفسهم، يصوغون فيها فكرات أزمانهم المندفعة في سماء العقول اندفاع السيارات في الفلك المرسوم، ويحددون بها روح زمانهم ليبرزوها في صورة تكاد تتخيلها أمامك تمثالا منحوتا.
والمصطلحات اللغوية لا تلبث أن تستعمل مرة حتى تذيع، حتى إنك لا ترجع النظر كرة إلى الماضي جيلا واحدا إلا لترى مقدار ارتقاء الفكرات والأذواق، ممثلا فيما دخل على اللغة وأساليبها من التغير البين.
من هنا نجد أن كاتب هذه السطور وقارئيها، الذين يرجعون بذاكرتهم إلى أواسط القرن التاسع عشر، والذين أمدهم تعليمهم وتثقيفهم بتلك الفكرات التي ذاعت منذ جيل من الزمان، هم وحدهم الذين في طوقهم أن يفخروا بأن لهم أكبر قسط من العلم بما وقع في الشطر الأعظم من هذا القرن، وبالمستحدثات التي أنتجها، والفكرات التي مهد لها سبيل الذيوع والانتشار.
وما غرضي من كتابي هذا إلا الوصول إلى هذه النتيجة؛ أريد أن أنتشل به من هوة النسيان السحيقة تلك الأشياء التي يلوح لي أنها ميراثنا الخفي، وأن ألقي شعاعا من النور على تلك الحياة الفكرية التي تكاد تختتم صفحتها باختتام عصر من أزهر عصور الدنيا بالعلم، وأكثرها نصرة له. سوف أبذل جهدي في أن أتعقب خطى تلك الحياة الفكرية، وأن أستعين بكل ضروب المعلومات التي أقع عليها في مدونات غيري من الكتاب والباحثين على إبرازها في صورة أكثر تلاؤما، وأشد تكافؤا، بحيث تعطي الذين يتبعون رأيا ما من الآراء الخاصة بوجهة النظر التي نظر بها في ذلك العصر إلى عالم المادة والحياة، فكرة عامة تريهم كيف كان أثر القرن التاسع عشر في تبديلهم عقليا وروحيا.
كذلك لم يكن من قصدي أن أكتب تاريخا ألم فيه بمختلف التغيرات السياسية الظاهرة، أو تقدم الإنتاجية الصناعية. أما التغيرات السياسية الظاهرة فقد تصبح أطوع قيادا لأولادنا منا. وأما الإنتاجية الصناعية فتلك أشياء سرعان ما تنسى، وقد تندمج وتنمحي فيما سوف ينتج المستقبل من مخترعات ووسائل، فلا يكون ما نرى منها في زماننا إلا ممهدات لما سوف يعقبها.
كذلك لست أريد أن أكتب تاريخا للمعرفة والعلم، ولا قصة الأدب والفن؛ فإن هذه الأشياء إن كانت بذاتها نتاج الحياة الكامنة، بل إن كانت تلك الحياة تتضمنها، فإنا لن نلجأ إلى بحثها إلا كوسائل لتمحيص النتائج التي قد نصل إليها. أما ما سوف يستغرق أكبر قسط من عنايتي، فتلك الآمال والغايات الحية الشاعرة التي تحدث أية حركة ارتقائية، سواء أفي السياسة أم في الاجتماع، إن وقعت عليها. أما إذا لم أقع عليها فأنصرف إلى الكلام في النتائج التي أبرزتها حياتنا الداخلية الكامنة، والأساليب التي انتشرت بها المعرفة، أو طبق بها العلم، والمبادئ التي تختفي وراء صور الأدب والنقد، أو ذلك الكنز الروحي الدفين الذي يعمد الشعر والفن والحركات الدينية إلى كشف خفياته والإبانة عن أسراره.
Halaman tidak diketahui
وفي الواقع أريد أن أبحث ذلك الدور الذي لعبته حياتنا الداخلية الخفية؛ حياة الفكر، في تاريخ القرن التاسع عشر، مشفوعا ذلك بأوجه التقدم والارتقاء وضروب الكسب، التي كانت نتاجا لوقوع الحوادث والتغيرات الظاهرة في عالم الحياة العامة.
أما وقد سلمنا بأن العلم الذاتي والتجربة كليهما ذو خطر كبير في القيام بعبء ما خططت لنفسي، وما دام علمنا قد دلنا على أن عدم الاندماج في الحياة الكامنة لعصر من العصور لن ينتج إلا تاريخا يقتصر على ذكر الأسماء، أو يتناول بعض الآراء بالنقد، فإنا لا محالة نسلم مع هذا بأن هذه الأمور عامة بواعث تحدد في وجهنا مجال الانبعاث إلى ما وراءها؛ ولذا أشعر بأني مقسور على أن أقصر بحثي على الفكر الأوروبي وحده.
لم تكن فكرة الاقتصار في التأريخ على ناحية بعينها من نواحي الفكر موجودة منذ قرن من الزمان؛ لأن ذلك كان محتوما علينا. أما وقد أخذت صورة من صور المدنية الحديثة تتكون حول الشاطئ الآخر من المحيط الأطلانطيقي، يزجيها شعب فتي موفور القوة والنشاط بكل مهيئات النماء والتطور، فلا يسعني مع هذا إلا أن أسلم بأمرين: الأول: أن هنالك عالما جديدا يزداد كل يوم خطره، ويتضاعف شأنه، في حين أني لست على علم بشيء من خصائصه وحياته، ولن أشعر إذا ما أردت أن أؤرخ في حياته الداخلية الكامنة إلا بالعجز والقصور، والثاني: أن عجزي عن التأريخ فيه لا يضارعه إلا عجزي عن أن أصور لنفسي ما يكون من شبح التثقيف الأوروبي في عين باحث بعيد عنه، مبتوت الصلة به، غير ناظر إليه إلا بعين الدنيا الجديدة.
إن الدنيا الجديدة لتنمو وتتكثر، لا من جهة العدد والثروة الأهلية فحسب، بل من جهة الاستعماق الفكري، كلما زادت إمعانا في النشوء العقلي والتطور الروحي؛ لذلك لا نشك في أنها سوف تعاني مشقة الرغبة في التأريخ في حياتها الكامنة وعناصر تثقيفها؛ لتعثر في درج ذلك البحث على الخصائص التي تفرق بين مدنيتها ومدنيتنا، غير أن الميول التي يتجه فيها ذلك التثقيف الحديث غامضة علي، بل تكتنفها ظلمة موحشة، وليس لدي ما يحول دون اعترافي بالعجز عن أن أقضي فيها بحكم ثابت محدود.
أراني مقتنعا تمام الاقتناع بأن الحياة الظاهرة المرئية في حياة البشر رأي العين والحس ليست سوى وعاء يتضمن مادة خفية لا تصل إليها الحواس، أو هي صدفة يتكون في صميمها جنين المستقبل؛ لذلك لا آنس من نفسي قدرة على الإفصاح عن ماهيتها؛ ولهذا لا أريد أن أتناول من حركة التثقيف العام التي ولدها القرن التاسع عشر إلا ما احتك منها بالفكر الأوروبي احتكاكا مباشرا، وكان فيه من الحياة الأوروبية أثر بين.
على أنني سوف أقصر بحثي في الفكر الأوروبي على مرتكزه ومحوره، سأقصره على الآداب الفرنسوية والألمانية والإنكليزية. ولست أنكر أن الآداب الإيطالية والسيكانديناوية والروسية محيطة بذلك المرتكز، بل كثر ما أثرت فيه تأثيرا ما، غير أني فيها أقع على لغات لم آلفها، ونزعات لم أتبين ماهيتها وحقيقتها، فكنت أشعر بأنه يستحيل علي أن أتميز شيئا من صبغة الحياة الجديدة الكامنة فيها، وكانت مسئوليتي تزيد في نظرية كلما زدت اقتناعا بأنني إن تناولت تلك الآداب ببحث اضطررت إلى أن ألزم نفسي عنت السعي وراء الكشف عن أسباب وبواعث لم تتهيأ لي سبل الإبانة عن خفياتها، لأبلغ منها بدرس يرضي الحق والضمير.
يقتصر بحثنا على الفكر الأوروبي - أي على الفكر في فرنسا وألمانيا وإنكلترا - خلال الشطر الأعظم من القرن التاسع عشر. ومهما أحاط بهذا البحث من حدود الزمان والمكان، فإنه لا يزال شاقا متشعب الأطراف أشعر منه باستيحاش وخوف. ومع هذا فقد جعلت رائدي في كل مباحثي التي سوف أسوق بنفسي في غمراتها، وفي كل الصور والملخصات التي سوف أبرزها، أن لا أهمل في بحث كل منها فكرة الوحدة التي تجمع بينها.
وما تلك الوحدة في نظري سوى ذلك الشيء الذي ألزمتنا إياه روح التقدم الذي وقع في عصرنا، وهي في ماهيتها نتيجة ما بذل من الجهد خلال القرن التاسع عشر؛ فلقد كان يتعذر عليك منذ قرن واحد، لا بل منذ خمسين عاما فقط، أن تتكلم في «الفكر الأوروبي» على الوجه الذي أتكلم به الآن، فإن القرنين السابع عشر والثامن عشر، هما القرنان اللذان صبغ فيهما العلم بصبغة الوطنية؛ لأن فيهما حلت اللغات الوطنية الخاصة بكل أمة من الأمم محل اللغة اللاتينية العامة في تواليف الآداب والعلم، وفيهما بدأت تتميز الآداب بمميزات الشعوب وتصبغ بصبغتها، وفيهما بدأ الفكر يستقل باستقلال الأمم القاطنة في غربي أوروبا استقلالا معنويا.
لهذا تجد أن الناس في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر قد بدءوا بأسفار طويلة قضوها في التأمل والدرس، متنقلين من مملكة إلى أخرى؛ ليخصوا أوطانهم بما ينقلون من فكرات مبتكرة، أو أساليب للبحث غير مألوفة، على أن هذه الأسفار قد عقبها ذيوع الأفكار الحديثة، فوفد إلى إنكلترا «فولتير»
Voltaire
Halaman tidak diketahui
عام 1726؛ حيث نشأت فلسفتا «نيوتن»
Newton
و«لوك»
Locke ، ولم يكن قد وصل إلى فرنسا علم بهما، وساح «آدم سميث»
Adam Smith
في فرنسا عام 1765؛ حيث درس طريقة «كوينسي»
Quensay
الاقتصادية، وأكب على مباحث «الفيزيوقراطيين»
يدرسها الدرس الوافر، ومنها كون فكرته التي بنى عليها فلسفته الاقتصادية التي أخرج فيها كتابه «ثروة الأمم»
The Wealth Of Nations .
Halaman tidak diketahui
وخلال الربع الأخير من القرن الثامن عشر، أسس «أ. ج. فرنر»
A. G. Werner
أكاديمية التعدين، التي كانت قد وجدت في صورة معهد قروي عام 1766، فأصبحت مركزا من أعظم مراكز العلم والتنوير العقلي في أوروبا، وإليها اليوم يسعى طلاب العلم من أقطار الأرض قاطبة ليتلقوا تعاليم أساتذتها العظام، وفي أواخر القرن التاسع عشر هبط «وارد سوورث»
Word Sworth
و«كوليردج»
Coleridge
ألمانيا، ولم يعد «كوليردج» إلى إنكلترا إلا مزودا بفلسفة «كانت»
Kant
وفلسفة «شيلنج»
Schelling .
Halaman tidak diketahui
ولا ننسى مدام «دي ستايل»
M. de Stael ؛ فإنها لم تكد تسمع أن في ألمانيا حركة أدبية حديثة، تناقل أخبارها بعض مهاجري الثورة الفرنسوية، حتى عمدت إلى دراسة اللغة الألمانية بأقصى ما وصل إليه الجد والنشاط، مقتنعة بأن صورة حديثة من صور الفكر قد أنبتها العقل الألماني، ثم زارت ألمانيا من بعد ذلك مستصحبة«بنيامين كونستان»
Benjamin Constant
في أواخر عام 1803، وكرة ثانية عام 1807، ومن ثم كان كتابها الذي أسمته «عن ألمانيا»
De L’allimagne
نتيجة سياحتيها. وبينما كان «كوليردج» ومدام «دي ستايل» يستنزلان وحي تلك الحياة الجديدة التي بعثتها عبقرية «جوته»
Goethe ، و«شيللر»
Schiller
في «فيمر»
Weimer ، كان طلاب العلم في أنحاء القارة الأوروبية يولون وجوههم شطر باريس؛ حيث ظلت تلك المدينة بضعة عشرات من السنين محور البحث العلمي، ومبعث الأساليب الحديثة، وحيث تركزت الفكرات العلمية المبتكرة في نقطة، وأخذت تشع بنور المعرفة.
Halaman tidak diketahui
لقد ظلت باريس أكثر من نصف قرن مهبطا لوحي الفكرة العلمية، حتى إن فلاسفة الإنجليز - الذين ظلوا منذ زمان «باكون»
Bacon ، و«نيوتن» متتبعين تقليد الاستقلال بأساليبهم الخاصة في البحث - قد اقتنعوا في أواخر العقد الثاني من القرن التاسع عشر، بأن اسم «نيوتن» العظيم لا يقوم بذاته كفيلا بأن طريقته العلمية بالغة أقصى حد من المتانة والثبات، مستندين في ذلك على ما رأوا من أوجه التبديل والارتقاء التي أحدثها فيها رياضيو القارة الأوروبية.
ولقد وفدت تلك الأساليب المبتكرة إلى إنكلترا بفضل ثلاثة من خريجي جامعة «كامبردج»؛ هم: «هرشل»
Herschel ، و«بابيج»
Babbage ، و«بيكوك»
، ترجموا مقالة «لاكروا»
Lacroix
ففتحوا بذلك ميدانا للبحث الرياضي كان مغلقا، وبدءوا للتفكير الرياضي عهدا جديدا. وبعد أن مضى على ذلك العهد خمسة عشرة سنة، توافد طلاب العلم من نواحي الدنيا الأربع على بلدة «جيسن»
Geissen
الألمانية؛ ليتلقوا في كلياتها علم الكيمياء الحديث، وأساليب البحث التي كانت تلقى في معمل «ليبج»
Halaman tidak diketahui
Leibig ، وكانت تلك الأساليب من قبل طرقا خاصة مقصورا نفعها على المعامل التابعة لبضعة أفراد من العلماء.
ولقد يتذكر البعض منا ما أحدث ذيوع فلسفة «أوغست كونت»
Auguste conte
بين عامي 1830 و1840، تلك الفلسفة التي ظلت بلا أثر بين في بلاده فرنسا، ولم تكسب مركزا ذا شأن في الفكر الإنساني إلا بما كتب فيها «جون ستيوارت ميل»
J. S. Mill ، ومدرسته وتابعيه، وبما تركز فيها من صور الفكر الخاصة بإنكلترا، ومن ثم عادت إلى فرنسا ثانية بعد مضي جيل تام على وفودها إلى إنكلترا.
حدث مثل هذا لمصور إنكليزي صرف همه إلى تصوير المناظر الطبعية، فقد ظل «كونستابل»
Constable ، مهملا حتى عرضت صوره في فرنسا عام 1824، فأحدثت أثرا عظيما في مصوريها إلى حد أنهم يعتبرون عرضها عهدا جديدا تناول تصوير المناظر الطبعية في فرنسا بأعظم تطور وقع في تاريخ هذا الفن.
إن أمثال هذه السياحات الاستكشافية في عالم الفكر والنشاط العقلي، أصبحت مستحيلة في العصر الحاضر؛ لأن العلم خلال القرن التاسع عشر قد لبس ثوب الشعوبية، ومعاهد العلم المستقلة المبتوتة الصلات بغيرها، أخذت تقل وتزداد ندرتها حينا بعد حين، فإن التراسل، وذيوع المجلات الدورية، والتئام الجماعات العلمية ونشر مقرراتها قد كفل للعالم أن يظل محيطا بكل ما تخرج العقول من المستكشفات الحديثة مهما ضؤل شأنها، على أن صبغة العلم الوطنية لا تزال باقية، غير أنه لا يمكن العثور عليها إلا في دفائن الفكر البعيدة القصية: كخطرات النفوس الخفية، والمصطلحات الكلامية التي لا تجد بعض اللغات متسعا لنقلها إلى أبنائها.
وللعلم، كما لدورة الليل والنهار، غسق وفجر، وله صبح تختلط به خيوط الفجر، وله ضوء أبلج لم يشبه من ظلمة الليل دنس، غير أن ضوءه الأبلج قد نما وانتشر وزاد إشعاعا خلال القرن التاسع عشر، حتى إننا لنستطيع أن نتكلم في نزعة الفكر الأوروبي في مجموعه اليوم إذا قصرنا الكلام على الفكر في فرنسا وألمانيا وإنكلترا، في حين أننا لم نكن لنبلغ إلى ذلك في الزمان الفارط.
وإني مع احتفاظي بغرضي الأول، سوف أسوق مباحثي في أكثر جهات الفكر الأوروبي اتساعا وأخصبها إنتاجا ... كيف كانت نشأتها؟ وكيف بلغت إلى ما نراها عليه؟ وماذا كان أثر كل أمة من الأمم في تكوين مجموعة الفكر العامة؟ وما هو حظنا من الجهد في إيتائها بالجديد وتزويدها بالحديث؟ وما هي التغايرات التي انتابتها خلال القرن التاسع عشر؟ ولكن قد نضيف إلى هذا سؤالا يترتب عليه ما سوف نتبع إزاء هذه المهمة من طرق البحث ، قد نسأل: كيف نصل إلى الجمع بين ما تفرق من مجموعة الفكر؟ كيف نستطيع أن نفرق بين ما هو نتاج جهدنا وبين ما هو نتاج جهد غيرنا؟ إن لدينا طريقة واحدة، غير أنها ليست الطريقة التي سوف نتبعها على وجه الإطلاق، وإن كانت طريقة جديرة بإنعام النظر والاعتبار.
Halaman tidak diketahui
لقد أبنت من قبل كيف أن التغايرات التي تنتاب عالم الفكر تتركز في عنصر اللغة المرن، وفي الأساليب التي يبتكرها العصر. إن دراسة تلك التغايرات التي انتابت الكلمات اللغوية خلال العصر، والأساليب التي تعاقبت على ثلاث اللغات الرئيسة في أوروبا - الفرنسوية والألمانية والإنكليزية - لتدلنا واضح الدلالة كيف ومتى نشأت وشبت الفكرات الحديثة، وكيف ثبتت وتحددت معانيها بكلمات أو مصطلحات لغوية. ولا يساعدنا هذا البحث على اكتناه الكيفية التي نمت وترعرعت بها الفكرة الأوروبية فحسب، بل يعرفنا كيف هاجرت الفكرات الفردية والمذاهب من أمة إلى أمة، وكيف انتقلت من شعب إلى شعب، وفضلا عن هذا فإن هذه الطريقة لتعرفنا بأية الوسائل وجدت الفكرات الفردية - التي نشأت في عقول تلك الأمم الثلاث - مكانا حريزا تنمو فيه وتلقي بذرها.
إن كل من تعمد الترجمة والنقل من إحدى هذه اللغات إلى غيرها، سواء أكان نثرا، أم غناء منظوما، أم فلسفة، أم شعرا وصفيا، لا بد من أن يكون قد عانى ضرورة الإكباب على دراسة طبيعة الفكر، أو المعنى الذي تؤديه الكلمات أو الجمل دراسة تامة، لا بد من أن يكون قد سبق إلى معرفة ما هو شائع بين اللغات جميعا، وبين ما هو خاص بكل منها، والفكرات التي تعبر عنها المصطلحات.
ينسب إلى «جوته» عادة أنه خالق تلك اللغة، وذلك الأسلوب، الذي برز فيهما أجمل ما في الأدب الألماني الحديث. ولن نعثر على كاتب آخر، سواء أفي ألمانيا أم فرنسا أم إنكلترا، أحدث ما أحدث «جوته» من التأثير البين في آداب القرن التاسع عشر، غير أننا مع هذا لا نغفل عن أن عظماء كتاب فرنسا الروائيين، وفلاسفة ألمانيا الميتافيزيين - أصحاب ما وراء الطبيعة الغيبيين - والعقول الشعرية الخيالية التي أنبتتها إنكلترا الحديثة، جماعهم قد أضافوا إلى مجموعة الكلمات، وزادوا إلى لغاتهم عددا عظيما من التعبيرات اللغوية ذوات الفائدة الجلى.
ولقد كان «لكارليل»
Carlyle
أعظم الأثر في نحت كثير من النعوت والكنى التي استمدها من اللغة الألمانية، وأدخلها في تضاعيف اللغة الإنكليزية، كذلك قد صرف «ماتيو أرنولد»
Mathew Arnold
جهده في مثل هذه السبيل؛ حيث استمد من مؤلفي الفرنسويين، مثل «سانت بوف»
Sainte-Beuve
وغيره من أعضاء «التحليل النفسي»
Halaman tidak diketahui
3
في الأدب
Introspective School ، كما استمد من «جوته» و«هين»
Heine . ولقد كانت ألمانيا أقل حظا في نشر كلماتها اللغوية الخاصة بها؛ فإن استعداد اللغة الألمانية لإدماج الكلمات الأجنبية عنها، واستعمالها من غير تحوير فيها أو تبديل، قد أثر تأثيرا عظيما في صبغ الأسلوب الألماني بصبغة التعقيد، حتى فقدت اللغة الألمانية مرونة أسلوبها وجمالها وعنصرها الشعري.
وإني لأرجح أن الباحثين سوف يعرفون عما قريب أن ما طرأ على مفردات اللغات الحديثة من سعة المعنى، لا من جمال اللفظ، راجع إلى تأثير العلوم
Sciences
على الأدب، وحركة التثقيف العام؛ فإن كثيرا من الكلمات المتداولة المعروفة قد حازت من تلك الطريق معاني جديدة أكثر سعة، وأبعد ضبطا.
إن كلمة «نماء»
Development
الغامضة المبهمة قد رجحتها في الاستعمال كلمة «نشوء»
Halaman tidak diketahui
Evolution ، كذلك قد أصبح لكلمة «تفريق أو تعضون»
Differentiation
معنى فلسفيا حديثا، عدا معناها الرياضي، كذلك إذا نظرت إلى كلمة «إيجابي»
أو «يقيني»؛ فإنك تجد أنها قد حازت معنيين جديدين محددين تمام التحديد، لم تكن لتدل عليهما من قبل، عدا معناهما المنطقي، وكلمة «نشاط»
Energy
قد تضمنت معنى جديدا غير معناها العام، وغير معناها الفلسفي الذي خصها به «أرسطوطاليس»
Aristotle ؛ حيث أخذت في إنكلترا، ومن ثم في بقية الممالك الأوروبية مكان كلمة
Force
أي قوة، كاصطلاح أكثر ضبطا للمراد، وأدل على المقصود.
وإليك كلمتا «ارتباط أو تبادل»
Halaman tidak diketahui
Correlation - «وحفظ أو بقاء»
Conservation ، فإنهما على علاقتهما بكلمة
Energy - نشاط - اصطلاحان لهما قيمة علمية خاصة، ثم كلمة «الأصلح»
Fittest ، واستعمال «التناحر على البقاء»
Struggle for existence ؛ فإنهما ليدلان على شيئين يختلفان كل الاختلاف عما كانا يدلان عليه منذ خمسين سنة خلت، ثم لديك اصطلاح «تام »
Exact ، «وعلم »
Science
Science ، فإنهما كذلك يدلان على شيء لم يكونا يدلان عليه من قبل.
ولقد خرجت اللغات من المذاهب الحديثة التي ذاعت في حدود المعرفة الإنسانية والإدراك العقلي باصطلاحات فلسفية حديثة، منها «اللاشاعر»
Unconscious ، و«المجهول»
Halaman tidak diketahui
Unknowable ، و«اللاأدري»
Agnostic . وهي تدل على مناحي كاملة من الفكر الحديث.
ولا مشاحة في أنه من أبعث الأشياء على تحصيل الفائدة أن يتتبع الباحث أصول تلك الكلمات والجمل، وأن يرجعها إلى مناشئها الأولى، أو أن يستعمق في بحث تلك المعاني التي كسبتها الكلمات الشائعة المعروفة. إنك إن تتبعت هذا البحث في ثلاث اللغات الرئيسة في أوروبا، كان هذا بعينه أقرب الأشياء إلى البحث المنظوم لمعرفة حقيقة تلك التغايرات التي انتابت الفكر الحديث.
وليس لدينا من ضرورة تلزمنا أن نتذرع في الوصول إلى غرضنا بالعكوف على نظرية ما نتخذها قاعدة لما نرى من العلاقة بين المدنية والفكر واللغة؛ فإن القرن التاسع عشر لم يعدم شيئا من هذا منذ عصر «دي بونالد»
De Bonald ،
4
الذي لم يكن ليرى في اللغة إلا تنزيلا قدسيا، إلى أحدث العصور وأكثرها تشبعا بروح العلم، أي «ماكس موللر»
Max Muller
الذي مزج الفلسفة بعلم اللغة،
5
Halaman tidak diketahui
متتبعا نفس الطريقة التي أصبح بها علم الفلك في نظر الكثيرين مسألة تحليل فحسب
Une question d’analyse ، على أننا نستطيع أن نوفق من ناحية ما بين «دي بونالد» و«ماكس موللر»، فإننا كأفراد ولدنا وربينا في عصر تمدين وتثقيف عقلي، نبدأ عادة بالتقاط الألفاظ والكلمات قبل أن نستوعب الفكرات الواضحة ذوات الضوابط المحدودة؛ لهذا يخيل إلينا أن فكرة «دي بونالد» راجحة، ما لم نستعمق في البحث في أصل اللغة والفكر ونشوئهما.
ثم انظر إلى ذلك السنن الهين الذي ندخل به من طريق استعمالنا للغة آبائنا إلى ذلك التيه الموحش المترامي الأطراف، تيه التفكير العقلي الصرف، فإن هذا الأمر ليكاد يكون معجزة فيها من أثر الوحي ما فيها، غير أنه ليس من قصدي - كما قلت من قبل - أن أمضي في دراسة الفكر الأوروبي ونشوئه خلال القرن التاسع عشر من طريق التحليل الدقيق لأوجه التغاير والرقي التي طرأت على اللغات الرئيسة؛ لأن ذلك لا يتيسر إلا لأولئك الذين نالوا قسطا وافرا من العلم بمفردات اللغة لم يتح إلا لمن كتبوا القواميس والمعجمات الكبرى، مثل: «جريم»
Grimm ، و«لتيريه»
Littré ، و«موراي»
Murray . وإني وإن كنت أشعر من نفسي بالعجز عن بلوغ هذا القصد، فلدي مسألة واحدة تضطرني إلى الدخول في بحث غراماطيقي
Grammatical
يتناول كلمة «الفكر»
Thought ، وكيف تعبر عن المعنى الذي أدركه منها في اللغتين الفرنسوية والإنكليزية، وكيف تترجم تلك الكلمة؛ فإن الموضوع الذي نكتب فيه غير مقصور على الإنكليزية وحدها، بل يتناول الفرنسوية والألمانية؛ لهذا يجب أن يكون له - أي للفكر - كلمة يعبر بها عنه في اللسانين الفرنسوي والألماني.
إني أعتقد أن كلمة
Halaman tidak diketahui
تعبر في الفرنسوية على وجه التقريب عن ذلك الشيء، والذي يعبر عنه في الإنكليزية بكلمة
Thought
أي «فكر»، على أنه من الصعب أن تعثر في الألمانية على كلمة تؤدي هذا المعنى. ولقد ترددت حينا في الاختيار بين
Geist
وكلمة
Weltanschauung ، وهما اصطلاحان كثيرا ما استعملا ليدلا على الحياة الكامنة لعصر من العصور، غير أني صممت فيما بعد على أن أستعمل كلمة
Den Ken ؛ لأن في هذه الكلمة ما يناقض المدرك من كلمة الحياة
Life ، و«الفعل»
Action ،
Leben und handeln ، وهي تدل على العالم الداخلي، في حين أن مضاد
Halaman tidak diketahui