ومن شعرائها المشهورين أبو الطاهر بن إسماعيل بن محمد المعروف بابن مكنسة، وهو شاعر كثير التصرف، قليل التكلف، مفتن في وشي جد القريض وهزله، وضارب بسهم في رقيقه وجزله. وكان في ريعان شبيبته، وعنفوان حداثته، يعشق غلاما من أبناء عسكرية المصريين، يدعى عز الدولة فائق، وهو الآن بمصر من رجال دولتها المعدودين وأكابره المقدمين. ولم يزل مقيما على عشقه له، وغرامه به إلى أن محا محاسنه الشعر، وغير معالمه الدهر. ولم يزل معز الدولة هذا متعهدا له محسنا إليه، مشتملا، إلى أن فرق الدهر بينهما. وكان في أيام أمير الجيوش بدر الجمالي منقطعا إلى عامل من النصارى يعرف بأبي مليح، وأكثر أشعاره فيه، فلما انتقل الأمر إلى الأفضل تعرض لامتداحه، فلم يقبله ولم تقبل عليه، وكان سبب حرمانه ما سبق لأبي مليح ومرائيه ميتا، ولا سيما قوله:
طويت سماء المكرما ... ت وكورت شمس المديح
ما كان بالنكس الدن? ... ي من الرجال ولا الشحيح
كفر النصارى بعد ما ... عقدوا به دين المسيح
وكفله عز الدولة بن فائق، وقام بحالة إلى أن مات.
ولم يقبل الأفضل على أحد من الشعراء كإقباله إلى رجل من أهل معرة النعمان يدعى أبا الحسن علي بن جعفر بن النون فإنه أفاض عليه سحائب إحسانه، وأدر له حلوبة إنعامه، ولقبه بأمين [الملك] وأدناه واستخلصه، ولم يكن شعره هناك بل كان متكلفا متعسفا، ولست أعرف أحدا من أهل تلك البلاد يروي له بيتا واحدا فما فوقه، لمنافرة الطباع كلامه، ونبو الأسماع عن طريقته. وقد كان أمره الأفضل يوما أن يصف مجلسا عبيت فيه فواكه ورياحين، فقال من مزوجته يصف الأترج المصبع:
كأنما أترجه المصبع ... أيدي جناة من زنود تقطع
فغلط ولم يقطن، وأساء أدبه ولم يشعر؛ لأنه قصد مدح الأترج فقزر نفس الملك منه وصرفها عنه، ولو قصد ذمة لما زاد على ما وصف به من الأيدي المقطوعة من زنودها.
Halaman 44