عمر بن العباس والفضل
قيل: إن محمد بن العباس حضر يوما عند الفضل بن يحيى ومعه سفط فيه جوهر، وقال له: إن حاصلي قد قصر عما أحتاج إليه، وقد علاني دين مقداره ألف ألف درهم وإني أستحي أن أعلم أحدا بذلك، وآنف أن أسأل أحدا من التجار أن يقرضني ذلك وإن كان معي رهن يفي بالقيمة، أبقاك الله لك تجار يعاملونك، وأنا أسألك أن تقرض لي من أحدهم هذا المبلغ وتعطيه هذا الرهن، فقال له الفضل: السمع والطاعة ولكن تقضي هذه الحاجة أن تقيم عندي اليوم، فأقام عنده، ثم إن الفضل أخذ السفط منه وهو مختوم بختمه وأرسل معه ألف ألف درهم وأنفذ الدراهم والسفط إلى منزله، وأخذ خط وكيله بقبضه، فأقام محمد في دار الفضل إلى آخر النهار، ثم انصرف إلى داره فوجد السفط ومعه ألف ألف درهم، فسر بذلك سرورا عظيما، فلما كان من الغد بكر إلى الفضل ليشكره على ذلك، فوجده قد بكر إلى دار الرشيد، فمضى محمد إلى دار الرشيد، فحين علم به خرج بباب آخر ومضى إلى منزله، فمضى محمد إليه واجتمع به وشكره على فعله وقال: إني بكرت إليك لأشكرك على إحسانك، فقال له الفضل: إني فكرت في أمرك فرأيت أن هذه الألف ألفا التي حملتها أمس إليك تقضي بها دينك ثم تحتاج إليه فتقترض، فبعد قليل يعلوك مثلها، فبكرت اليوم إلى أمير المؤمنين وعرضت عليه حالك وأخذت لك منه ألف ألف درهم أخرى، فلما حضرت إلى باب أمير المؤمنين خرجت أنا بباب آخر، وكذلك فعلت لما حضرت إلى باب أبي لأني ما كنت أوثر أن ألقاك حتى يحمل المال إلى منزلك، وقد حمل، فقال له محمد: بأي شيء أجازيك على هذا الإحسان، ما عندي شيء أجازيك به إلا أني ألتزم بالأيمان المؤكدة وبالطلاق والعتاق والحج إني ما أقف على باب غيرك ولا أسأل سواك، قيل: وحلف محمد أيمانا مؤكدة وكتب بها خطه وأشهد به عليه أن لا يقف بباب غير الفضل بن يحيى، فلما ذهبت دولة البرامكة وتولى الفضل بن الربيع الوزارة بعدهم احتاج محمد فقالوا له: لو ركبت إلى الفضل بن الربيع، فلم يفعل والتزم باليمين، فلم يركب إلى أحد ولم يقف على باب أحد حتى مات.
جعفر وعبد الملك بن صالح بن العباس
قيل: إن جعفر بن يحيى البرمكي جلس يوما للشرب وأحب الخلوة، فأحضر ندماءه الذين يأنس بهم وجلس معهم وقد هيئ المجلس ولبسوا الثياب المصبغة، وكانوا إذا جلسوا في مجلس الشراب واللهو لبسوا الثياب الحمر والصفر والخضر، ثم إن جعفر بن يحيى تقدم إلى الحاجب أن لا يأذن لأحد من خلق الله تعالى سوى رجل من الندماء كان قد تأخر عنهم اسمه عبد الملك بن صالح، ثم جلسوا يشربون ودارت الكاسات وخفقت العيدان، وكان رجل من أقارب الخليفة يقال له عبد الملك بن صالح بن علي بن عبد الله بن العباس، وكان شديد الوقار والدين والحشمة، وكان الرشيد قد التمس منه أن ينادمه ويشرب معه وبذل له على ذلك أموالا جليلة فلم يفعل، فاتفق أن هذا عبد الملك بن صالح حضر إلى باب جعفر بن يحيى ليخاطبه في حوائج له، فظن الحاجب أنه هو عبد الملك بن صالح الذي تقدم جعفر بن يحيى بالإذن له وأن لا يدخل غيره، فأذن الحاجب له فدخل عبد الملك بن صالح العباس على جعفر بن يحيى، فلما رآه جعفر كاد عقله أن يذهب من الحياء، وفطن أن القضية قد اشتبهت على الحاجب بطريق اشتباه الاسم، وفطن عبد الملك بن صالح أيضا للقصة وظهر له الخجل في وجه جعفر بن يحيى، فانبسط عبد الملك وقال: لا بأس عليكم أحضروا لنا من هذه الثياب المصبغة شيئا، فأحضر له قميص مصبوغ، فلبسه وجلس يباسط جعفر بن يحيى ويمازحه وقال: اسقونا من شرابكم فسقوه رطلا وقال: ارفقوا بنا فليس لنا عادة بهذا، ثم باسطهم ومازحهم، وما زال حتى انبسط جعفر بن يحيى وزال انقباضه وحياؤه، ففرح جعفر بذلك فرحا عظيما وقال له: ما حاجتك، قال: جئت - أصلحك الله - في ثلاث حوائج أريد أن تخاطب الخليفة فيها، أولها، أن علي دينا مبلغه ألف ألف درهم أريد قضاءه، ثانيا، أريد ولاية لابني يشرف بها قدره، وثالثها، أريد أن تزوج ولدي بابنة الخليفة، فإنها بنت عمه وهو كفء لها، فقال جعفر بن يحيى: قد قضى الله هذه الحوائج الثلاث: أما المال ففي هذا المساء يحمل إلى منزلك، وأما الولاية فقد وليت ابنك مصر، وأما الزواج فقد زوجته فلانة ابنة مولانا أمير المؤمنين على صداق مبلغه كذا وكذا، فانصرف في أمان الله، فراح عبد الملك إلى منزله، فرأى المال قد سبقه، ولما كان من الغد حضر عند الرشيد وعرفه ما جرى وإنه قد ولاه مصر وزوجه ابنته، فعجب الرشيد من ذلك وأمضى العقد والولاية، فما خرج جعفر من دار الرشيد حتى كتب له التقليد بمصر وأحضر القضاة والشهود وعقد العقد.
في المكافأة
قال الحسن بن سهل: كنت يوما عند يحيى بن خالد البرمكي وقد خلى في مجلسه لإحكام أمر من أمور الرشيد، فبينما نحن جلوس إذ دخل عليه جماعة من أصحاب الحوائج فقضاها لهم، ثم توجهوا لشأنهم فكان آخرهم قياما أحمد بن أبي خالد الأحول فنظر يحيى إليه والتفت إلى الفضل ابنه وقال: يا بني إن لأبيك مع أبي هذا الفتى حديثا فإذا فرغت من شغلي هذا فذكرني أحدثك، فلما فرغ من شغله وطعم قال له ابنه الفضل: أعزك الله يا أبي أمرتني أن أذكرك حديث أبي خالد الأحول، قال: نعم يا بني، لما قدم أبوك من العراق أيام المهدي كان فقيرا لا يملك شيئا فاشتد به الأمر إلى أن قال لي من في منزلي: إن كتمنا حالنا زاد ضررنا ولنا اليوم ثلاثة أيام ما عندنا شيء نقتات به، قال: فبكيت لذلك يا بني بكاء شديدا، وبقيت ولهان حيران مطرقا مفكرا ثم تذكرت منديلا كان عندي فقلت لهم: ما حال المنديل، فقالوا هو باق عندنا، فقلت: ادفعوه إلي، فأخذته ودفعته إلى بعض أصحابي وقلت له: بعه بما يسر، فباعه بسبعة عشر درهما، فدفعتها إلى أهلي وقلت: أوقفوها إلى أن يرزق الله غيرها، ثم بكرت من الغد إلى باب أبي خالد وهو يومئذ وزير المهدي، فإذا الناس وقوفا على داره ينتظرون خروجه فخرج عليهم راكبا، فلما رآني سلم علي وقال: كيف حالك؟ فقلت: يا أبا خالد ما حال رجل يبيع من منزله بالأمس منديلا بسبعة عشر درهما، فنظر إلي نظرا شديدا وما أجابني جوابا، فرجعت إلى أهلي كسير القلب وأخبرتهم ما اتفق لي مع أبي خالد، فقالوا: بئس والله ما فعلت، توجهت إلى رجل كان يرتضيك لأمر جليل فكشفت له سرك وأطلعته على مكنون أمرك، فأزريت عنه بنفسك وصغرت عنه منزلتك بعد أن كنت عنده جليلا، فما يراك بعد اليوم إلا بهذه العين، فقلت: قد قضي الأمر الآن بما يمكن استدراكه، فلما كان من الغد بكرت إلى الخليفة، فلما بلغت الباب استقبلني رجل فقال لي: قد ذكرت الساعة بباب أمير المؤمنين، فلم ألتفت لقوله، فاستقبلني آخر فقال لي كمقالة الأول، ثم استقبلني حاجب أبي خالد فقال لي: أين تكون قد أمرني أبو خالد بإجلاسك إلى أن يخرج من عند أمير المؤمنين، فجلست حتى خرج، فلما رآني دعاني وأمر لي بمركوب فركبت وسرت معه في منزله، فلما نزل قال: علي بفلان وفلان الحناطين ،فأحضرا، فقال لهما: ألم تشتريا مني غلات السواد بثمانية عشر ألف ألف درهم؟ قالا: نعم، قال: ألم أشترط عليكما شركة رجل معكما، قالا: بلى، قال: هو هذا الرجل الذي اشترطت شركته لكما، ثم قال لي: قم معهما، فلما خرجنا قالوا لي: ادخل معنا بعض المساجد حتى نكلمك في أمر يكون فيه الربح الهنيء، فدخلنا مسجدا، فقالا لي: إنك تحتاج في هذا الأمر إلى وكلاء وأمناء وكيالين وأعوان ومؤن لم تقدر منها على شيء، فهل لك أن تبيعنا شركتك بمال نعجله لك فتنتفع به ويسقط عنك التعب والكلف؟ فقلت لهما: وكم تبذلان لي، فقالا: مائة ألف درهم، فقلت: لا أفعل، فما زالا يزيداني وأنا لا أرضى إلى أن قالا لي: ثلاثمائة ألف درهم ولا زيادة عندنا على هذا، فقلت: حتى أشاور أبا خالد، قالا : ذلك لك، فرجعت إليه وأخبرته، فدعا بهما وقال لهما: هل وافقتماه على ما ذكر، قالا: نعم، قال: اذهبا فقبضاه المال الساعة، ثم قال لي: أصلح أمرك وتهيأ فقد قلدتك العمل، فأصلحت شأني وقلدني ما وعدني به، فما زلت في زيادة حتى صار أمري إلى ما صار، ثم قال لولده الفضل: يا بني فما تقول في ابن من فعل بأبيك هذا الفعل وما جزاؤه؟ قال: حق لعمري وجب عليك له، فقال: والله يا ولدي ما أجد له مكافأة غير أني أعزل نفسي وأوليه، ففعل ذلك، وهكذا تكون المكافأة.
سعيد بن سالم الباهلي مع الفضل وجعفر
قال سعيد بن سالم الباهلي: اشتد بي الحال في مرض هارون الرشيد واجتمع علي ديون كثيرة أثقلت ظهري وعجزت عن قضائها، وضاقت حيلي، وبقيت متحيرا لا أدري ما أصنع حيث عسر علي أداؤها عسرا عظيما، واحتاطت ببابي أرباب الديون، وتزاحم علي المطالبون ولازمني الوفاء، فضاقت حيلي وازدادت فكرتي، فلما رأيت الأمور متعسرة، والأحوال متغيرة، قصدت عبد الله بن مالك الخزاعي والتمست منه أن يمدني برأيه، ويرشدني إلى باب الفرج بحسن تدبيره، فقال عبد الله بن مالك الخزاعي: لا يقدر أحد على خلاصك من محنتك وهمك وضيقك وغمك إلا البرامكة، فقلت: ومن يقدر على احتمال تكبرهم ويصبر على تجبرهم؟ فقال: تحمل ذلك لأجل إصلاح حالك، فنهضت من عنده ومضيت إلى الفضل وجعفر ولدي يحيى بن خالد وقصصت عليهما قصتي وأبديت لهما حالتي، فقالا: أسعدك الله بعونه وأغناك عن خلقه بمنه، وأجزل لك عظيم خيره، وقام لك بالكفاية دون غيره، إنه على ما يشاء قدير وبعباده لطيف خبير.
فانصرفت من عندهما ورجعت إلى عبد الله بن مالك ضيق الصدر متحير الفكر منكسر القلب وأعدت ما قالاه، فقال: ينبغي أن تقيم اليوم عندنا لننظر ما يقدره الله تعالى، فجلست عنده ساعة وإذا بغلامي قد أقبل وقال: يا سيدي إن ببابنا بغالا كثيرة بأحمالها ومعها رجل يقول: أنا وكيل الفضل بن يحيى وجعفر بن يحيى، فقال عبد الله بن مالك : أرجو أن يكون الفرج قد أقبل عليك، فقم وانظر ما الشأن، فنهضت من عنده وأسرعت عدوا إلى بيتي، فرأيت رجلا معه رقعة مكتوب فيها: إنك لما كنت عندنا وسمعنا كلامك توجهنا بعد خروجك إلى الخليفة وعرفناه أنه أفضى بك الحال إلى ذل السؤال، فأمرنا أن نحمل إليك من بيت المال ألف درهم، فقلنا له: هذه الدراهم يصرفها إلى غرمائه ويؤدي بها دينه، ومن أين يقيم وجه نفقاته؟ فأمر لك بثلاثمائة ألف درهم أخرى، وقد حمل إليك كل واحد منا من خالص ماله ألف ألف درهم فصارت الجملة ثلاثة آلاف ألف وثلاثمائة ألف درهم تصلح بها أحوالك وأمورك، فانظر إلى هذا الكرم العظيم.
الكتاب المزور
Halaman tidak diketahui