وقيل إن نابوليون شمخ واعتز يوم الزواج، وشعر بما لم يشعر به يوم إحرازه أعظم فوز. ولا بدع؛ فإن عصاميا يخرج من أصل وضيع، ثم يبلغ ذاك المقام الرفيع ويقترن بابنة بيت من أقدم البيوت المالكة في العالم، لخليق به أن يشعر بتلك العزة والرفعة في مثل ذاك اليوم التاريخي.
على أن العوامل القلبية ما لبثت أن تغلبت على تلك العوامل الفكرية، فعاد نابوليون كما عرفناه؛ أي ذاك الرجل الملتهب شوقا إلى وصال تلك الفتاة الشريفة التي انصرفت عواطفه إليها، والتي تجتاز الفراسخ والأميال قادمة إليه لتضع نضارتها وجمالها بين يديه، وليس يدلنا على قوة ذاك الشعور مثل ما كتبته الملكة كاترينا من باريس إلى أبيها ملك ورتمبورج، قالت في أحد مكاتيبها: «لا يمكنك أن تتصور مبلغ اهتمام الإمبراطور بزوجته المقبلة، وحسبي أن أخبرك بأنه دعا إليه الخياط وأمره بأن يتقن له صنع الملابس، وأخذ من جهة أخرى يتعلم الرقص، أمر لم يكن يخطر ببالك ولا ببالي.»
وكتبت أيضا: «لا يمكنني أيها الأب العزيز أن أخبرك عن مبلغ حب الإمبراطور لزوجته، فإنه متشوق ومتحمس إلى حد لم أكن أتصوره ولا أستطيع وصفه ...»
وكان من هم نابوليون أن يؤتى فتحا جديدا في الحب، كما أوتي في ميادين الحرب، فأخذ يبذل الجهد في استنباط ما يجعل ماري لويز تقتنع بحبه لها وما يجعلها تحبه.
أما كيفية تلاقيهما فقد كان موضوع جدال طويل وبحث ضاف بين نابوليون وسفير النمسا؛ لأن البلاط النمسوي معروف بإصراره على التقاليد الإمبراطورية، ولا يعرف مبلغ التعب الذي يلاقيه واضع مثل ذاك الترتيب إلا من يعرف شدة حرص البيوت المالكة القديمة على تقاليدها، وحسبنا أن نذكر للقارئ هنا أنهم اضطروا إلى مة الكتب القديمة الهاجعة في مكتبة البلاط النمسوي، وإلى درس كل ما يتعلق بالحفلات السالفة، وبعد أن أخذوا منها ما يجب أخذه بدأ السفير النمسوي يباحث الإمبراطور نابوليون ويتفق معه على كل نقطة وكل وجه، وكان من جملة ما تم الاتفاق عليه يوم التلاقي أن يقام سرادقان كبيران أحدهما للإمبراطور، والثاني للإمبراطورة ثم يقام سرداق ثالث بينهما، فيتقدم كل من الإمبراطور والإمبراطورة إليه، ثم تقف الإمبراطورة في مربع وتنحني أمام نابوليون، فيتقدم وينهض بها ثم يقبلها، ويذهب معها إلى مركبة فاخرة ذات ستة مقاعد فيصعدان إليها، ثم تجلس الأميرات معهما. وكل من علم باهتمام نابوليون وسفير النمسا بوضع تلك الخطة لم يبق عنده ريب في أن نابوليون كان عازما على التدقيق في اتباعها كما دقق في وضعها، وأن القبلة الأولى التي كان إمبراطور الفرنسويين ينتظرها من كريمة إمبراطور النمسويين لا تؤخذ إلا بعد شيء من العناء.
على أن طبيعة نابوليون التي عرفناها لم تكن مما يقف أمامها تقاليد ونظامات من ذاك الطراز، فإنه ما علم بسفر عروسه من فيتري إلى سواسون حتى ركب هو وملك نابولي مركبة واحدة وسافر متسترا بلا خدم ولا حاشية، وما وصل إلى كورسيل حتى رأى موكب الإمبراطورة قادما، فصعد إلى مركبتها دون أن يعرفه أحد سوى خادم الشرف فصاح: «الإمبراطور ...»
بيد أن نابوليون كان مشغولا في تلك الساعة بمعانقة ماري لويز، وبعد أن تم هذا المشهد الذي دهش الإمبراطورة، أمر نابوليون بالإسراع نحو كومبيين، فوصل إليها الساعة العاشرة مساء، وما أشد عجب الموكلين بتنفيذ النظام حين مرت المركبة الإمبراطورية مر النسيم أمام المضارب الثلاثة التي كانت معدة لهما ...
وبينما كان الإمبراطور والإمبراطورة وأهل القصر الإمبراطوري يتناولون العشاء في ردهة الملك فرنسوا الأول في كومبيين - وكأني بنابوليون أراد أن يكون تلك الليلة تحت رعاية روح ذاك الملك الذي اشتهر بحب الغواني - أخذت عينا نابوليون تنظران إلى ماري لويز نظرة المتوسل المتضرع، وقال للكاردينال فيش: «أليس بصحيح أننا متزوجان الآن؟» فأجاب الكردينال من غير أن يفكر في نتيجة جوابه: «نعم إنكما متزوجان زواجا مدنيا.» أما ماري لويز فقد أصبح وجهها كالوردة الزاهية عند هذا الكلام، وزاد عجبها لما أظهره نابوليون من قلة الاهتمام بما وضع من الترتيب والنظام، على أنها لم تستطع أن تخالف نابوليون فبقي القصر الذي كان معدا لمنامها تلك الليلة خاليا من ضيفته الكريمة.
أليس هذا التسرع دليلا كافيا على أن طبيعة نابوليون في سنة 1810 هي تلك الطبيعة التي بدت لجوزفين سنة 1789؟
إن نابوليون كما تقدم عقد زواجه لأجل الذرية، وقام في ذهنه على ما قيل أن ماري لويز قدمت نفسها ضحية لسياسة دولتها، فأراد أن يطيب نفسها ويعزي قلبها بكل ما وجد إليه سبيلا، وأخذ يظهر لها ما تحلم به وتؤمله الفتيات العذارى قبل زواجهن، ولما كانت طبيعته على وصفنا لم يلبث أن صار محبا بالمعنى الصحيح، عندما رأى تلك الأميرة السنية لينة العريكة نضيرة الشباب مجردة من الإرادة بين يديه.
Halaman tidak diketahui