وفي تلك الأيام اشتدت دسائس زعيم كورسيكي اسمه باسكال باولي وقام نزاع شديد بينه وبين نابوليون؛ لأن باولي كان يريد إلحاق الجزيرة بإنكلترا، وحدث وقتئذ أن الجنود الفرنسوية فشلت في جزيرة مادلين وكاجلياري، فاشتد ساعد باولي وتمكن من تأليف حكومة وقتية لكورسيكا وأمر بنفي آل نابوليون كلهم، وكان نابوليون قد استشعر الخطر المقبل فبرح كورسيكا، ولكنه علم في طريقه بالقرار المتعلق بآله، فأخذ يتنازعه عاملان عامل الواجب لعائلته وعامل الخطر الذي يتهدده، ولكن تردده لم يطل فعاد قاصدا بلده لينقذ أهله، ولما وصل إلى باب مدينة أجاكيسو علم أن أمه وسائر آله غير مهددين بخطر داهم، وأنهم انطلقوا إلى كالفي، فأسرع إلى حيث كانوا، ثم أبحروا جميعا إلى مرسيليا بينما كان رجال باولي يحرقون وينهبون أملاكهم.
وكان وصول نابوليون وأمه إلى مرسيليا في يونيو سنة 1793، وقد وصف أخوه لوسيين حالة «لاتيتيا وأولادها» في مذكراته فقال: «كان نابوليون يخص معظم مرتبه بتخفيف أعباء أمه وسد حاجة إخوته، وتمكنا من الحصول على جراية من الخبز وبعض المساعدة بصفتنا مهاجرين وطنيين، فكان هذا العون كافيا لنا على قلته؛ لأن أمنا الفاضلة كانت مدبرة مقتصدة.»
وكان من جملة الذين ساعدوا أرملة بونابرت وأولادها في مرسيليا الموسيو كلاري من كبار تجار الصابون، فإن قلبه رق لحال تلك السيدة وأولادها، وتوثقت العلاقات الودية بين الأسرتين، وما مضت سنتان حتى تزوج جوزيف جولي ابنة ذاك التاجر، ثم جرى حديث عن قرب اقتران نابوليون بأختها دزيريه، ولكن يد الدهر كتبت لها أن تكون بعد حين زوجة لبرنادوت.
وبعد حين سافر نابوليون من مرسيليا إلى مدينة نيس حيث كان الألاي الرابع مع جيش القائد كارتو، فأخذ ينتقل معه من مدينة إلى أخرى في جنوبي فرنسا ليخمدوا فتنة الذين هبوا لمعارضة الدستور.
وفي ليل 27-28 أغسطس حدثت الخيانة العظيمة بتسليم ثغر طولون للإنكليز، فأسرع جيش بارتو - ومعه ألاي بونابارت - نحو تلك المدينة لاسترجاعها، فاستولى أولا على موقع أوليول، وفي إبان القتال جرح قائد الطوبجية دومارتين، فعين نابوليون خلفا له، ومع أن الجنرال دي تايل كان صاحب الأمر في المدفعية لم يشأ خوفا من المسئولية أو ثقة بالضابط نابوليون أن يتولى هو القيادة الفعلية للمدفعية، وهناك كان ابتداء شهرة نابوليون وفاتحة مجده الحربي.
وفي 22 ديسمبر أي بعد إخراج الإنكليز من طولون ببضعة أيام صدر الأمر بترقية نابوليون إلى رتبة جنرال، على أن اسمه لم يكن معروفا بين الفرنسويين، ولما أبلغ الضابط جونو أباه أنه سيكون ياور الجنرال بونابارت كتب إليه يقول: «لماذا تركت القائد لابورد، ولماذا تركت فرقتك؟ ومن هو الجنرال بونابارت، وأين خدم؟ إني لا أعرف أحدا يعرفه ...»
وكان عمر نابوليون في ذاك الحين لا يزيد عن خمس وعشرين سنة، فلم يأخذه الزهو والكبر لحصوله على تلك الرتبة العالية ولم ينس أمه وإخوته، بل ازداد عناية بهم وعطفا عليهم، قال أخوه لوسيين: «إن ترقية نابوليون أدت إلى تحسين حالنا، وقد ذهبنا إلى قصر ساليه لنكون على مقربة من معسكره العام، فكان يقضي معنا كل أوقات الفراغ.»
وتمكن نابوليون من تعيين أخيه لويس ياورا براتب ملازم أول وأبقاه معه، وأدخل أخاه جوزيف في إحدى الوظائف.
وفي ذاك الحين أراد روبسبير الصغير أن يولي نابوليون قيادة الحامية الباريسية، فأخذت أسرة بونابارت تتحدث في هذا الشأن، فقال نابوليون: «إن روبسبير الصغير رجل عامر الذمة، ولكن أخاه لا يمزح وهو يريد أن أخدمه وأنفذ مقاصده، وأنا لا أريد أن أخدم مثل هذا الرجل ... أنا لا أرى لي محلا شريفا في هذا الوقت إلا في الجيش، فلا تضيقوا صدرا واعلموا أني سأكون قائد باريس ولكن بعد حين ...»
على أن الزمان أراد أن يدخله الحبس قبل أن يذهب به إلى باريس قائدا وإمبراطورا ويصبح قادرا على إخراج المساجين، وسبب حبسه أن «القومسير ريكور» فوض إليه مهمة سرية وأرسله إلى جنوى، فقامت الشكوك والريب حول نابوليون، ولما عزل ريكور صدر الأمر بالقبض على بطل طولون للتحقيق فجيء به من نيس إلى حصن كاريه، فاستولى القلق العظيم على أمه وإخوته وأصدقائه، واسودت الدنيا أمام ذاك القائد الشاب؛ لأن الحبس في ذاك الوقت كان على الغالب أول مرحلة من طريق الغليوتين.
Halaman tidak diketahui