كان صوتها يرتجف بشدة، بكاء وشهقات، حتى إنه سمع صوت والده من الخلف يصرخ بكلام غير مفهوم، عليه أن يفهم ماذا حصل لكنه لم يعد يسمع سوى البكاء، وانقطع الاتصال، ما هذه الاتصالات البائسة؟ أهكذا تفعل في هذا الوقت الحرج؟ لعلها ليست سماء، نظر إلى الرقم المتصل مجددا، لكنها هي بلا شك، تبا! أيكون الأمر صحيحا فعلا؟ شعر بظلمة تلفه وتتركه وحيدا مرتجفا غريبا. عاود الاتصال، عليه أن يتأكد، كان لا يزال يتشبث بوهم أن ما سمعه مجرد دعابة سمجة، أو تشابك خطوط هاتفية عتيقة. ابتهل إلى الله في سره، وحاول طرد الأسوأ من ذهنه. رنين، ورنين ولا رد، عاود الاتصال مرات كثيرة، لكن بلا فائدة، انهار أخيرا على أرضية الغرفة المغطاة بالموكيت الكحلي المهترئ وقد بدأ الغضب يتسلل إلى عقله. قام وأخذ يرمي كل ما يراه، الوسائد والأوراق والكتب، كاسات الزجاج والقدور، راح يلعن بصوت عال. وأخيرا سقط على وجهه يعاود الاتصال، مرة ومرة ومرة، كاد الرنين يصيبه بالجنون، لعن الغربة والناس والعمل وكل شيء.
أخذ يذرع الغرفة جيئة وذهابا في خطوات محمومة فوق أكداس الخراب الذي أحدثه للتو، غير عابئ للزجاج المكسر الذي بدأ يدمي قدميه الحافيتين، وإذا به يلمح من بين الركام، ورقة قصدير ملونة، يعرفها جيدا. إنها غلاف حبة الشوكولاتة، التي كانت الشيء الوحيد الذي تلقاه منها، انتشلها فحملته بعيدا إلى ذلك اليوم الهني معها تحت شجرة الزيزفون. ومن غير تفكير، حمل هاتفه وراح يكتب الرقم ، إنه لا يزال يذكره جيدا فقد كان رقم هاتفه قبل أن يعطيه لها. انتظر قليلا منتظرا أن يسمع صوت المجيب الآلي بأنه خارج الخدمة، ولكن يا للمفاجأة! سمع رنينا منتظما، تسارعت دقات قلبه، وراح الأمل الأليم يتسلل مجددا إلى قلبه المكلوم.
انقطع الرنين ولم يجب أحد. اتصل مجددا ومع الرنة الأولى فتح الخط، حبس أنفاسه منتظرا، لحظة، لحظتان، لا صوت، شعر بالحرج والارتباك، فقال: «آلووو، آلو.» وأخيرا أتاه صوت من الطرف الآخر: «نعم؟» كيف يمكن لثلاثة أحرف أن تفجر في قلبه بركانا، مزيجا عجيبا من حنان وشوق وفرح وخوف؟ أخذت ضربات قلبه تتسارع بجنون؛ فقد مضى أكثر من عامين على آخر مرة سمعها، شكر الله في قلبه أن منحه نعمة سماعها مجددا. كان هذا وحده كافيا؛ فكأنما سكب صوتها على قلبه المشتعل ماء الحياة، «آلووو، نعم، من هناك؟» ألح الصوت مجددا، مسح عينيه بطرف كمه وقال: «كيف حالك سلمى؟ ما عرفتيني؟ أنا سعيد، كيفك سلمى هل أنت بخير؟ آه يا إلهي! لم أكن أظن أنني سأسمع صوتك يوما.» توقف ملتقطا أنفاسه ومخففا من وطأة اللهفة على قلبه، لكنه لم يتلق سوى الصمت، الصمت مجددا؟ انتظر لحظات سقط فيها في ظلمة حارقة، «لقد تركتني وانتهى الأمر، ما الذي تريده الآن؟» هكذا أجابت بكلمات حولت الماء إلى نار في طرفة عين فاشتعل القلب مجددا. - أنا لم أتركك أبدا ولن أفعل. - ... - سلمى، لم لا تجيبين؟ - أين أنت؟ كأنك خارج البلد! - من زمان يا سلمى، من زمان خرجت، تركت البلد بعد فقدك، ما عادت مكانا يصلح لي، أردت الهرب وحسب، كيف لي أن أستمر في حب سيدة متزوجة؟ - متزوجة؟! ما هذا الذي تقوله؟ - نعم سلمى، أمك أخبرتني أنك ستتزوجين، ولما حاولت الاتصال مجددا كان الرقم مغلقا، يشهد الله كم حاولت وكم سهرت واحترقت، ثم تركت كل شيء وسافرت. - ... - سلمى. (صوت بكاء متقطع.) - ماذا سلمى؟ ماذا؟ - كيف يمكن أن تفكر أنني قد أتزوج غيرك؟ أما الآن فلا فائدة من كل هذا. اعذرني، علي أن أغلق ؛ فصديقتي في مأزق، علي أن أقف إلى جانبها، وداعا سعيد ...
9
مات نادر، استشهد، أو قتل، لا أعرف؛ فأنا أساسا لم أعد أعرف عنه شيئا منذ عام تقريبا. قال لنا رامي صديقه إنه أصيب بطلقة رصاص طائشة استقرت في صدره مباشرة، من قتله؟ لا أحد يدري! لم أعد أتذكر التفاصيل الأخرى التي قالها؛ فقد ظلت أمي تصغي باهتمام، أما أنا فانتابتني نوبة غضب كبيرة، شعرت بها لأول مرة في حياتي، كان غضبا صرفا تنامى إلى حقد ممزوج بقهر، أحسست بغشاوة سوداء على عقلي وقلبي، وصارت الكلمات والحركات تصدر عني بمحض إرادتها لا إرادتي، وكأني فقدت السيطرة على جسدي. كانت لحظة لا تنسى، تلك التي رأيته فيها مغطى بدمائه، محمولا على الأكتاف، فقدت نفسي لحظة أن رأيته، شعرت بالجنون، عرفت كيف يولد الشر في النفوس، وأحسست بعاصفة من غضب، ثم بكثير من الندم؛ فلم أعرفه جيدا، لم أجلس معه ما يكفي، لماذا قتل نادر؟ ولمصلحة من؟ أحسست أن تلك السنوات التي قضيتها معه لم تكن كافية، والآن غاب إلى الأبد، وفات الأوان.
كنت أصرخ، وألعن وأسب وأشتم، حتى إني ضربت أصدقاءه الذين حملوه، ولطمت وجهي، كم كانت أمي حكيمة حين طلبت مني ألا أخرج! ذلك المشهد الذي رأيته سلبني كل شيء، كل رغبة لي في الحياة، كل أمل وكل متعة، صرت أعيش كل يوم بقرف كبير، وصورة وجهه بخصلات شعره الذهبية المغطاة بالدماء والتراب لا تفارق مخيلتي.
بعدها غص بيتنا بالمعزين، وجوه تأتي وأخرى ترحل، نهار وليل، وليل ونهار، أياد تصافحني، تربت على كتفي، تعانقني، كلمات جوفاء أسمعها: «البقية في حياتك، عظم الله أجركم، عليك أن تصبري، بل أن تفرحي وتفخري.» أبتسم مجاملة وأدعو عليهم في سري، ألمح التعاطف والأسى في عيونهم، لكن ما إن يشيحوا بوجوههم عني حتى يتهامسوا في شئونهم الخاصة، في زوج فلانة الذي طلقها، وتلك التي اشترت سيارة جديدة، وفي سجادة الجيران الباهظة وابنهم الأرعن. تصلني أصواتهم، فأنظر إليهم من بين دموعي، فيعاودون تمرير أصابعهم على السبحات التي بين أيديهم ويتمتمون بشفاههم، أو يعودون لينظروا نظرات جوفاء في المصاحف المفتوحة أمامهم، فألعنهم مجددا! «شهيد الوطن، الخائن، الإرهابي، شهيد الحرية، العميل، البطل» كلها كلمات قيلت في شخص واحد وغيرها كثير، لكنهم لم يقولوا أهم توصيف له: إنه أخي! لم يتحدثوا عن الشامات التي تزين وجهه وعنقه، لم يذكروا القطط والسلاحف التي ربيناها معا، أو ملصقات سيارات البورش واللامبورغيني على جدران غرفته. لم يقولوا شيئا عن حساء الدجاج الذي يفضله، أو مسقعة الكوسا التي لا يمكن أن يأكلها، ولا السلة المعلقة فوق باب الصالون والتي لم يكن أحد يحرز فيها الأهداف غيره. إنهم لا يعرفون شيئا، ومن لا يعرف شيئا لا يحق له أن يعزيني فيه، ولا أن يترحم عليه، ولا حتى أن يلعنه.
دفناه في مقبرة جبل العظام وحدنا تماما، بعد أن صلينا عليه في البيت بحضور إمام مسجد عمار بن ياسر. هكذا كانت إرادة والدي، أو هي تنفيذ لإرادة أخرى، لا أعرف، ثم انتهى وجود نادر إلى الأبد، وابتدأ وجود جديد خبيث يتسلل سرا إلى بيتنا ويسمم حياتنا؛ فعلى الرغم من رباطة الجأش والصلابة الكبيرة التي أظهرتها أمي يوم تلقينا الخبر وأيام العزاء، إلا أنها بعد ذلك انهارت تماما، لم تعد تقوى على عمل شيء؛ فهي إما تصلي أو تبكي أو مستلقية في غرفة نادر، ولا تتحدث إلا قليلا، وأبي قلما نراه؛ فقد صار يتعمد البقاء في العمل لساعات أطول، وفاطمة صارت تأتيها نوبات من الهلع ليلا فتستيقظ باكية إثر كابوس مخيف. وفجأة وجدت نفسي أتحمل مسئولية البيت كله، ومسئولية مساندة أمي وأختي، كان علي أن أتحايل على ألمي؛ فلم يكن هناك أحد غيري. استلمت أعمال البيت كلها، وشعرت لأول مرة بالعبء الكبير الذي كانت تحمله أمي. ومما زاد الأمر سوءا استمرار معاناتنا مع الماء والكهرباء، بلا أمل لنا لحل قريب. كما انشغلت تماما عن أشغالي الكروشيه، وعن القراءة أيضا، مع انقطاع شبه متصل للهواتف الأرضية والإنترنت.
تغيرت حياتنا، وتبدلت معها ملامح حلب؛ فشارع النيل الذي كنا نقطنه وكذلك الأحياء المجاورة صارت أرصفتها مفترشا للباعة لمختلف البضائع ، بائع الحلوى بجوار بائع الخضار والفواكه، بجانبه بسطة ملابس داخلية، وأخرى لأوان منزلية وكهربائية وجوالات مستعملة أو مسروقة، ويرافق كل هذا روائح الفلافل المقلية بزيوت رديئة، أو كباب مشوي مع الكبدة أو العجة. لقد «تبهدلت» الأحياء الراقية بحسب وصف عمتي. ومما زاد من سوء الوضع ارتفاع الأسعار الجنوني؛ فما كنا نشتريه بمائة ليرة تضاعف مرتين أو ثلاثا أول الحرب، ثم وصل إلى عشرة أضعاف. وإذا ناقشت أحدهم عن الغلاء صاح في وجهك: «يعني ما تعرف عن هبوط الليرة أمام الدولار وغلاء المازوت؟» وما دخل الدولار أو المازوت في سروال الجينز أو كيلو البندورة؟ حاولت مع أبي مرارا لأقنعه بالسفر فنخرج من البلد كما يفعل كثيرون، وكذلك ألح عليه سعيد، لكنه كان متشبثا برأيه كثيرا؛ فإلى أين سنذهب وليس لنا من عمل ولا دار؟ أحيانا كنت أفهمه وأعذره، وغالبا ما شعرت بالقهر والظلم من قراره؛ فأي مال وأي عمل هو أهم عنده من أرواحنا؟ ألا يكفي فقدنا لنادر؟
كتبت على صفحتي في الفيسبوك:
Halaman tidak diketahui