واستلت قلما من المنضدة ورفعت كم ثوبها لأكتب رقم بيتنا، وقالت: عجلي عجلي. وما كدت أنتهي من كتابة الرقم حتى أقبلت والدتها مع القهوة، فشربتها على عجل وخرجت.
في مساء ذلك اليوم اتصلت بي وتحدثنا قرابة الساعة، عرفت منها أنها ممنوعة من أي شيء يمكن لفتاة في مثل عمرها أن تحظى به، كم أنا محظوظة إذن! أحسست بالأسى تجاهها. تحدثنا بعد ذلك مرارا، كانت تحدثني خفية بعد نوم أهل بيتها، أو في غيابهم. لست أفهم لم هذه السرية، وكأنها تغوي شبابا لا قدر الله. عرفت عنها أشياء جميلة، وعرفت عني أنني أستعير الكتب وأقرأ، ورجتني أن أحكي لها عن كل الكتب والروايات التي أقرؤها، وبالفعل كنت كلما أنهيت جزءا أحدثها عنه، وكنت أقرأ لها بعض المقاطع، وكانت تستمع بانتباه شديد ونظل نتحدث عن الأحداث أو الأفكار، كانت أوقاتا جميلة جدا.
8
تواقيع كثيرة وطوابع أكثر، معاملات وأذونات وبراءات ذمة، ويوما تلو الآخر كان على نادر أن يستيقظ باكرا، باكرا جدا قبل «الشحاذة وبنتها»، ويصطف في الدور على أبواب الموظفين حتى يبدأ الدوام ويبدأ رحلته في الركض من مكان إلى آخر من أجل استكمال معاملة استخراج مصدقته الجامعية. كان غير مبال لمتاعبه، لكل تذمرات الموظفين وتقلبات مزاجهم، فحلاوة تخرجه كانت طاغية. وأخيرا سيحصد ثمرة جهوده، ثمرة سهره ودراسته طوال خمس سنوات خلت. كانت الأبواب مفتوحة أمامه اليوم مرة أخرى، وكان عليه أن يختار.
يقف نادر الآن عند الشباك الخارجي لشئون الطلاب في كليته، «دقيقة» هكذا قال له الموظف ليجلب له مصدقة تخرجه. ابتسم وهو ينظر إلى صورته المنعكسة على الزجاج، تذكر جدته تقول له: «وجهك الحلو يا ابني ما يناسب التجارة، الله خلقك لتكون عالما أو أستاذا جامعيا تتهافت عليك البنات.» أخذ نفسا عميقا ومسح حبات العرق التي نفرت من جبينه في حر آب «اللهاب»،
2
وصل الموظف أخيرا وفي يده أوراق، جلس على مقعده، وضع نظارته، وأخذ ينادي على أسماء الطلاب لاستلام مصدقاتهم، تلهف وترقب وانتظار ثم خيبة أمل. نفدت الأوراق واستلم الطلاب مصدقاتهم وانصرفوا فرحين، وبقي نادر مع واحد آخر، بادره نادر بالسؤال: «أستاذ، الله يخليك، أعطيتك أوراقي كاملة.» وكذلك قال الطالب الآخر. سألهما الموظف عن اسميهما، نظر إلى مكتبه، أخذ ملفا وناوله للطالب الآخر وقال: «تنقصك ورقة التبرع بالدم.» «وأنا، وأنا يا أستاذ.» قال نادر بيأس، فنظر الموظف إلى ملفه مرة أخرى وناوله إياه وقال: تفضل، ما عندي لك أي مصدقة. - كيف يا أستاذ؟ أوراقي كلها كاملة. - أعرف أعرف، لكن يا ابني ما وصلتني مصدقتك. - طيب وما الحل الآن؟ - راجع الامتحانات، ربما لم تنجح في إحدى المواد. - نعم! لم أنجح! - يا ابني لا ترفع صوتك الله يرضى عليك، أنا ما لي علاقة، قد يكون هناك خطأ ما، الأخطاء تحدث دائما.
ومنذ هذه اللحظة دخل نادر في دوامة من المراجعات والواسطات والالتماسات لمعرفة سبب عدم حصوله على مصدقته. كان عليه أن يحصل عليها قبل أن تنقضي مدة التسجيل على الماجستير، لكن لم يكن الوقت لصالحه. انقضت أشهر الصيف وانتهى وقت التقديم على الماجستير وعلى غيره من الفرص ونادر لا يزال يتنقل من مكتب إلى مكتب لمعرفة السبب، وظل السبب معلقا في المجهول وكذلك حلمه بالتخرج.
9
لماذا نحتفظ بصورنا القديمة وذكرياتنا؟ إننا ننظر إلى بقايا ذكرياتنا وكأنها أدلة على حياة كنا نعيشها، نبرهن لأنفسنا أننا مررنا بفرح ما، أو نثبت مدى قوتنا لأننا تجاوزنا حزنا ما، نحب الذكريات لأنها جزء مكون لشخصيتنا كما هي الآن، ولأن الذكرى مثل قطعة أثرية ثمينة، لا تحمل قيمتها في ذاتها وحسب بل من تقادم الزمن عليها، وهكذا هي ذكرياتنا كلما تقادمت زاد سحرها وتعلقنا بها. والصور جزء من الذكريات، من الماضي الخاص بنا أو بأحد عزيز علينا. الصورة كانت لحظة خاطفة انتقلت إلى العدم لكن عدسة الكاميرا قامت بتخليدها إلى الأبد.
Halaman tidak diketahui