Permulaan Falsafah Ilmiah
نشأة الفلسفة العلمية
Genre-genre
إذا كان مظهر التقدم في الفلسفة هو كشف أسئلة ذات دلالة، فمن الواجب أن ننسب إلى «كانت» مكانة رفيعة نظرا إلى سؤاله المتعلق بوجود المعرفة التركيبية القبلية. ومع ذلك فإنه، شأنه شأن غيره من الفلاسفة، يطالب لنفسه بمكانة رفيعة، لا على أساس السؤال، وإنما على أساس إجابته عليه، بل إنه يصوغ السؤال على نحو مختلف إلى حد ما؛ إذ إن اقتناعه بوجود المعرفة التركيبية القبلية بلغ حدا جعله لا يرى ضرورة في التساؤل عن وجودها، وإنما وضع السؤال في صيغة: كيف تكون المعرفة التركيبية القبلية ممكنة؟ وهو يرد على هذا السؤال بالقول: إن الدليل على وجودها مستمد من الرياضيات والفيزياء الرياضية.
والواقع أن هناك أمورا كثيرة جدا يمكن أن تقال دفاعا عن موقف «كانت»؛ فنظرته إلى بديهيات الهندسة على أنها تركيبية قبلية، تشهد بعمق فهمه للمشكلات الخاصة التي تثيرها الهندسة. ولقد أدرك «كانت» أن هندسة إقليدس لها مركز فريد، من حيث إنها كشف عن علاقات ضرورية تسري على موضوعات تجريبية، وهي علاقات لا يمكن أن تعد تحليلية. وهو في هذه النقطة أصرح وأوضح بكثير من أفلاطون؛ فقد أدرك «كانت» أن دقة البرهان الرياضي لا يمكن أن تفسر الصحة التجريبية للنظريات الهندسية. فالقضايا الهندسية، كالنظرية المتعلقة بمجموع زوايا المثلث، أو نظرية فيثاغورس، تستخلص باستنباط منطقي دقيق من المقدمات ، غير أن هذه المقدمات ذاتها لا تستخلص على هذا النحو؛ إذ لا يمكن استخلاصها؛ لأن كل استخلاص لنتائج تركيبية ينبغي أن يبدأ بمقدمات تركيبية. وإذن فمن الواجب إثبات صحة البديهيات بوسائل أخرى غير المنطق، فلا بد أن تكون تركيبية قبلية. وعندما نعرف أن المقدمات تصدق على الموضوعات الفيزيائية، يضمن المنطق بعدئذ انطباق النظريات على هذه الموضوعات، ما دامت صحة البديهيات تنتقل بالاستنباط المنطقي إلى النظريات. وبالعكس، فإذا اقتنع المرء بأن النظريات الهندسية تنطبق على الواقع الفيزيائي، كان في ذلك اعتراف بصحة البديهيات؛ وبالتالي بالمعرفة التركيبية القبلية. والواقع أن نفس الأشخاص الذين لا يودون أن يعترفوا صراحة بالمعرفة التركيبية القبلية، يسلكون على نحو ينم عن إيمانهم بها؛ إذ إنهم لا يترددون في تطبيق نتائج الهندسة على قياسات عملية. ويرى «كانت» أن هذه الحجة تثبت وجود معرفة تركيبية قبلية.
ويعتقد «كانت» أن من الممكن الإتيان بحجج مماثلة بالنسبة إلى الفيزياء الرياضية؛ فهو يقول إننا لو سألنا عالم الفيزياء عن وزن الدخان لتوصل إليه عن طريق وزن المادة قبل الاحتراق، ثم طرح وزن الرماد. وفي تحديد وزن الدخان على هذا النحو نعبر عن تسليمنا بأن المادة لا تفنى. وهكذا يتضح، كما يقول «كانت»، أن مبدأ بقاء المادة حقيقة تركيبية قبلية، يعترف بها الفيزيائي في طريقة إجرائه لتجربته. ونحن نعلم اليوم أن الحساب الذي أوضحه «كانت» يؤدي إلى نتيجة غير صحيحة؛ إذ إنه لا يأخذ بعين الاعتبار وزن الأكسجين الذي يدخل في تفاعل كيميائي مع المادة المحترقة.
ومع ذلك فلو كان «كانت» قد عرف هذا الكشف الذي ظهر فيما بعد، لقال إنه على الرغم من كونه يؤدي إلى تعديل طريقة الحساب، فإنه لا يناقض مبدأ بقاء المادة، وسيظل هذا المبدأ هو الذي يكون إطار الحساب إذا أخذنا وزن الأكسجين في الاعتبار.
وهناك مبدأ تركيبي قبلي آخر يأخذ به عالم الفيزياء في نظر «كانت»، هو مبدأ العلية؛ فعلى الرغم من أننا نعجز في كثير من الأحيان عن الاهتداء إلى سبب لحادث ملاحظ، فإننا لا نفترض أنه حدث بلا سبب، وإنما نقتنع بأننا سنهتدي إلى السبب لو أننا مضينا في البحث عنه. هذا الاقتناع يتحكم في منهج البحث العلمي ، وهو القوة الدافعة لكل تجربة علمية؛ إذ إننا لو لم نكن نؤمن بالعلية، لما كان هناك علم. وهكذا فإن «كانت» يثبت المعرفة التركيبية القبلية في هذه الحالة، كما في حججه الأخرى، بالرجوع إلى طريقة سير العلم؛ أي إن أساس مذهب «كانت» الفلسفي هو القول إن العلم يفترض المعرفة التركيبية القبلية مقدما.
والواقع أن الأساس العلمي لموقف «كانت» هو مصدر قوة هذا الموقف؛ فسعيه إلى اليقين ليس من النوع الصوفي الذي يلجأ إلى القول برؤية لعالم المثل، وليس من النوع الذي يلجأ إلى خدع منطقية تستخلص اليقين من مقدمات فارغة، مثلما يستخلص الحواة أرنبا من قبعة خالية، وإنما يستعين كانت بالعلم السائد في عصره لكي يبرهن على إمكان بلوغ اليقين. وهو يذهب إلى أن حلم اليقين لدى الفيلسوف يجد له في نتائج العلم دعامة يرتكز عليها؛ أي إن «كانت» يستمد قوته من إهابته بسلطة العالم.
غير أن الأرض التي ارتكز عليها «كانت» لم تكن من الرسوخ بقدر ما تصور؛ فهو قد رأى في فيزياء نيوتن المرحلة الأخيرة لمعرفة الطبيعة، ورفع هذه الفيزياء فكريا إلى مرتبة المذهب الفلسفي. وهكذا كان يعتقد أنه، باستخلاصه مبادئ نيوتن من العقل الخالص، قد توصل إلى تبرير عقلي كامل للمعرفة، وحقق الهدف الذي عجز السابقون عليه عن بلوغه. ويدل عنوان كتابه الأكبر «نقد العقل الخالص» على البرنامج الذي استهدفه، وهو أن يجعل العقل مصدرا للمعرفة التركيبية القبلية؛ وبالتالي أن يثبت، على أساس فلسفي، أن الرياضيات والفيزياء السائدة في أيامه حقيقة ضرورية.
ومن غرائب الأمور المشاهدة بالفعل أن أولئك الذين يرقبون البحث العلمي من الخارج ويعجبون به، يكون لديهم في كثير من الأحيان ثقة في نتائج هذا البحث العلمي تفوق ثقة أولئك الذين يسهمون في تقدمه؛ فالعالم يعرف الصعوبات التي كان عليه أن يذللها قبل أن يثبت نظرياته، وهو يعلم أن الحظ قد حالفه في كشف النظريات التي تلائم ما لديه من ملاحظات، وفي جعل الملاحظات التالية تلائم نظرياته، وهو يدرك أنه قد تظهر في أية لحظة ملاحظات متعارضة أو صعوبات جديدة، ولا يزعم أبدا أنه قد اهتدى إلى الحقيقة النهائية. أما فيلسوف العلم، الذي هو أشبه بالحواريين حين يكونون أشد تعصبا من النبي ذاته، فإنه معرض لخطر الثقة بنتائج العلم إلى حد يفوق ما يجيزه أصل هذه النتائج، المبني على الملاحظة والتعميم.
على أن الإفراط في الثقة بنتائج العلم لا يقتصر على الفيلسوف، وإنما أصبح سمة عامة للعصر الحديث؛ أي للفترة التي تبدأ من عهد جاليليو إلى وقتنا الحالي، وهي الفترة التي خلق فيها العلم الحديث. فالاعتقاد بأن لدى العلم الإجابة على كل سؤال - أي بأن كل ما على المرء، إذا كان في حاجة إلى معلومات فنية، أو كان مريضا، أو يعاني مشكلة ما، هو أن يسأل العالم ليجد لديه الجواب - قد بلغ من الانتشار حدا جعل العلم يضطلع بوظيفة اجتماعية كانت في الأصل من مهام الدين، وأعني بها وظيفة كفالة الطمأنينة القصوى؛ ففي حالات كثيرة حل الإيمان بالعلم محل الإيمان بالله، وحتى عندما كان الدين يعد متمشيا مع العلم، كان يعدل بحيث يلائم عقلية المؤمن بالحقيقة العلمية. وإذا كان عصر التنوير، الذي ينتمي إليه «كانت»، قد رفض التخلي عن الدين، فإنه قد حول الدين إلى عقيدة للعقل، وجعل الله أشبه بعالم رياضي يعرف كل شيء لأن لديه استبصارا كاملا بقوانين العقل. فلا عجب إذن إن بدا العالم الرياضي أشبه بأنه صغير ينبغي أن تقبل تعاليمه على أساس أنها بمنأى عن الشك. وهكذا فإن كل مخاطر اللاهوت، من قطعية جازمة وتحكم في الفكر من أجل ضمان اليقين، تعود إلى الظهور في أية فلسفة تعد العلم معصوما من الخطأ.
ولو كان «كانت» قد عاش ليشهد العلم الفيزيائي والرياضي في عصرنا هذا، لتخلى، على الأرجح، عن فلسفة المعرفة التركيبية القبلية، وإذن فلننظر إلى كتبه على أنها وثائق تنتمي إلى عصرها الخاص، وعلى أنها محاولة بذلها لإشباع نهمه إلى اليقين، عن طريق إيمانه بفيزياء نيوتن. والواقع أن مذهب «كانت» ينبغي أن يعد بناء علويا أيديولوجيا، شيد على أساس علم فيزيائي يلائم فكرة المكان المطلق، والزمان المطلق، والحتمية المطلقة للطبيعة. وهذا الأصل يفسر نجاح المذهب وإخفاقه؛ أي إنه يوضح السبب الذي يعد «كانت» من أجله، في نظر الكثيرين، أعظم الفلاسفة في كل العصور، والذي تعجز فلسفته من أجله عن أن تقدم أي شيء لمن يعيشون مثلنا في عصر فيزياء أينشتين وبور.
Halaman tidak diketahui