1
تجاسرت أن أطرق المواضيع الاقتصادية والعلمية؛ لأن لي عقيدة ثابتة هي أن بلادنا المحبوبة لا تصير كما نريدها إلا إذا جارى رقي المرأة رقي الرجل؛ فيتمكن الاثنان من تربية الولد تربية كاملة حقة. ولا أسمي «مجاراة» إتقان المرأة التكلم بلغات كثيرة؛ فاللغات ليست سوى واسطة للتفاهم بين الأمم، ولو كان التكلم بلغات عديدة من الدلائل على العلم لكان خدام البواخر وخدام المطاعم وتراجمة السياحة في طليعة العلماء.
العلم بالشيء هو أن نعرف كيف تكون هذا الشيء، ومن كونه، وكيف يمكن إدخال التحسين إليه، فإذا أرينا ولدا من أولادنا إناء زجاجيا - مثلا - فليس من الأهمية أن يعرف اسمه بجميع لغات الأرض، المهم هو أن يعرف الولد أين يصنع الزجاج، وكيف يصنع، وتاريخ صنعه ، ولماذا لا نصنع مثله في بلادنا. وإننا إذا فعلنا هذا نحمل أولادنا على تشغيل عقولهم بأمور مفيدة، فينصرفون إلى الأمور الجدية التي تعود على البلاد بالنفع، أما إذا بقينا نعلمهم فنون «الرطانة» لا غير، فلا نستغربن إذا أصبحنا بعد جيل عبيد؛ عبيد المتمدنين.
نحن نسابق بعضنا في تعلم روايات شكسبير وقصائد فكتور هيكو، ويمكنا أن نعد بين شبيبتنا المئات من الذين يتقنون الآداب الفرنسية والإنكليزية إتقانا كاملا. نسافر إلى أوروبا ولا نترك زاوية لا تنتفع منا «بقبض رسم الدخول»، فنتنقل من لندن إلى باريس إلى برلين إلى جنيف، ونتآلف مع البنايات والمتاحف والمسارح والممثلين والممثلات أكثر من تآلفنا مع بيوتنا وعائلاتنا.
أما بلادنا فنكاد لا نعرف عنها شيئا، ولا نكلف نفوسنا المعرفة، وإذا جازف أحد كتاب الفرنج بوقته وماله وكتب لنا شيئا عن بلادنا؛ فإننا لا نتعب لتصفح ما كتب، جال غوستاف له بون، الفيلسوف الفرنسي المعروف، في كل مدن الشرق مفتشا عن آثار المدنية العربية، فلم يترك رسما إلا نشره، وقد صور هذه الرسوم بقلمه، فجاء كتابه معجزة من المعجزات، وزار هذا الفيلسوف أحد كتاب سوريا، فنقل عنه هذه العبارة المرة: «لقد قضيت قسما من عمري في كتابة مدنية العرب، ومن الغريب أنني لم أر عربيا واحدا كتب إلي سطرا، أو شكرني بكلمة.»
تحتفظ الحكومات الأوروبية بالعاديات، فتبني لها المتاحف والقصور وتعرضها لأنظار المتفرجين، ومن وراء هذا العرض موارد لا يستخف بها، ونحن نملك في بلادنا كنوزا من الآثار القديمة، لو كلفنا نفوسنا قليلا من العناء لأقمنا في كل يوم مدينة من مدن سوريا متحفا يفوق أكبر المتاحف الأوروبية؛ فهنا في قلب هذه البلاد دفنت المدنيات القديمة من الفينيقية إلى الآشورية إلى اليونانية إلى الرومانية إلى العربية. وكل هذه المدنيات تركت بعدها آثارا هي دليل التاريخ والمؤرخين، فإذا أدرنا عيوننا إلى هذه الآثار كان لنا فوق الربح المادي، الربح الأدبي، وهو مساعدة المؤرخين على درس المدنيات القديمة بدرس آثار الأمم التي تعاقبت على سوريا.
لمحة في العلوم الأثرية
يطلق معنى لفظة العلوم الأثرية أو «الأركيولوجيا» على كل ما هو قديم: كاللغات، والأديان، والفنون ، والمعاهد، حتى عادات البشر.
على أنها اليوم قد حصرت في معنى واحد، وهو درس المباني القديمة، وكل ما أبقته المدنيات من أوان خزفية أو حجرية أو خشبية أو نحاسية. والغاية التي يرمي إليها المشتغلون بالعلوم الأثرية هي: «الوقوف على تاريخ الأمم بدرس الآثار الصامتة التي تركوها».
وظهر مؤخرا فضل العلوم الأثرية على التاريخ بظهور آثار مدنيات قديمة لم يكن العالم يحلم بوجودها. أما على الفن فقد ظهر فضلها بنوع خصوصي بما وضعت تحت نظر المشتغلين به من التماثيل التي تعد نتيجة تطور الفنون مدة أجيال عديدة.
Halaman tidak diketahui