أقول: إن الرجل الذي يحتكر المعلومات لنفسه - إن كانت هذه المعلومات نظرية أو عملية - يمنعها عن ولده شاء أو لم يشأ، إن حاضنة الولد ومهذبته ومرشدته ورفيقته هي المرأة أولا، والمرأة آخرا. فلو سألنا كل رجل من رجال عصرنا، عالما كان أو تاجرا أو لغويا: كيف تعلمت ما تعلمته؟ لأجاب فورا: «لقد تعلمت على حسابي.»
إن لرجالنا الذين يتعلمون على حساب نفوسهم فضلا كبيرا لو ندري؛ لأنهم يبدءون حياتهم كما بدأها جدنا الأول، وعندما يصلون إلى زمن العمل يرون المسافة التي قطعها الغربي فينشطون للحاق به. وكم من زلة! بل كم من كبوة وهفوة يلاقون إلى أن يصلوا - وغالبا لا يصلون قبل الخمسين - إلى حيث وصل أبناء الغرب، فهم يختبرون، في مدة ثلاثين سنة، ما اختبره الغربيون في أجيال، على أنهم ينسون جهادهم الطويل، ويتركون أولادهم يتخبطون في مثل ما تخبطوا هم به، وبكلمة أخرى يتركونهم «يتعلمون على حسابهم».
وإنها لهفوة كبيرة يعرف مقدار ضررها كل من تعلم على حساب نفسه، علينا أن نسلم لأولادنا اختباراتنا ومعلوماتنا، أعني على أولادنا أن يأخذوا عنا خلاصة أبحاثنا طول العمر، فيبدءون حيث انتهينا، لا حيث بدأ رعمسيس، ويكون جهادهم في الحياة خفيفا لذيذا منظما، لا مضنكا قاتلا، وليس من يعد الولد للعراك في الحياة مثل أمه، فكيف تعده هذه الأم للحاق بأبيه إذا كان بين رقيها ورقي زوجها بون هو نتيجة اختباره ثلاثين سنة، ونتيجة حصرها في دائرة صغيرة من التافهات تعرفها الأنعام بالسليقة.
ولقد بدأنا نشعر بحاجة إلى الأمور الجدية، كما أصبحنا نمل من الأبحاث النسائية الضاربة دائما وأبدا على أنغام الخيال، ووصف الطبيعة، وواجبات المرأة التي سمعناها ألوفا من المرات، وكدنا نكره من أجلها الخيال والطبيعة، حتى والمرأة.
2
هل رأيتم مرة حديث نعمة يقلد الأغنياء والأمراء؟ هل نظرتموه مرتجفا مرتبكا غريبا في قصره وبين ضيوفه، حتى وفي ثيابه؟ فكما يلقب من ينام فقيرا ويصبح غنيا «حديث النعمة» يلقب من يدفع بغتة من ظلمة القرون الوسطى إلى نور العلم العصري «حديث العلم»، و«حديث التمدن»، و«حديث الرقي».
إن كل ما نأتيه يجيء ناقصا متقلقلا مرتجفا؛ ذلك لأننا حديثو العهد في المدنية الغربية التي طمى سيلها علينا فاضطررنا إلى قبولها دون استعداد، نحن حديثو العهد في هذه المدينة وحداثة عهدنا تظهر في كل مظهر من مظاهر حياتنا؛ في حياتنا السياسية، وحياتنا العلمية، وحياتنا الفنية، وقبل كل شيء نحن حديثو العهد في حياتنا الاقتصادية، والبلاء العميم هو أن مجموعنا يجهل ذلك، فهو إذا تألم من الانحطاط الملم بنا يحول وجهه شطر الحياة السياسية والحرية السياسية، ناسيا أن الحرية الاقتصادية هي الأصل، وما بقي فهو الفرع.
لو كان لنا حياة اقتصادية لوقفنا بنفوذنا أمام العالم المتمدن وقلنا: نريد أو لا نريد، لو كان لنا كيان اقتصادي لكان لنا كيان سياسي، ولو كان لنا كيان سياسي لما قضينا كل هذه القرون ونحن جسر يمر عليه الفاتحون ذهابا وإيابا.
قلت: جسرا! لا وربي! الجسر شيء قوي يتعهده من يمر عليه بالعناية حتى لا ينكسر بعد مروره فينقطع عليه خط الرجوع! نحن طنفسة - والتعبير مؤلم - على باب هذا الشرق داستنا منذ القدم أقدام الغزاة والفاتحين والمتاجرين.
نحن لم نفهم مرة معنى الحياة ومعنى الكيان، فعشنا حياة شخصية فردية لا يهم الفرد منا إذا عاشت الأمة أو ماتت. نعم، إننا عشنا كتجار مستقلين تنحصر حياتنا في صندوقهم، فكانت هذه العلامة من أدلة انحطاطنا، وأي انحطاط أكبر من فقد التضامن والتكافل بين أبناء البلد الواحد.
Halaman tidak diketahui