لم هاجر أبوها إلى الغرب، ولم لم تبق فلاحة تسوق الأبقار، وتأكل رغيفها مع حفنة من البقول؟ لماذا أقرءوها كتب الغربيين فلمست فيها ألف ألف فكرة، وألف ألف عاطفة جديدة؟ صوروا لها القلوب البشرية مسيرة بالمحبة والألفة، ولما أن وضعت يديها على القلب الوحيد الذي اختارته من بين القلوب إذا بيديها فارغتين، وإذا بالحياة، كل الحياة، صورة تجسدت فيها العدمية واللاوجود.
انكمشت نفسها فأصبحت كهذا البحر لا يدرك ما فيه، واليوم هي طلسم من الطلاسم لا يحله سحر. هي الحلقة المفقودة بين الشباب والهرم، والحب والبغض، والحياة والموت.
حكاية هيفاء الديرانية
هي في الخامس والثلاثين من عمرها، ذات عنق بض جميل، وذراعين مستديرتين، وعضلات مريرة تتجلى فيها القوة الجبلية وراء الشباب الغض، براقة العينين، مطبوعة الذقن، ذات شفاه سميكة بسامة عن أسنان صحيحة لماعة.
اسمها هيفاء، وهو من الأسماء البدوية الجميلة ، أخذه اللبنانيون فيما أخذوه عن إخوانهم العرب، ولم ينطبق اسم على مسمى كما انطبق اسم هيفاء على قدها الأهيف.
غريبة هي الأسماء في لبنان، تقف على نبع من ينابيعه فتسمع امرأة تنادي أولادها بأسماء عربية صميمة؛ يا هيفاء! يا سعاد! أو: يا أسد، ويا ضرغام، وأخرى تصرخ: يا بشير، يا روكز، يا أغناطيوس، يا أنوار! صفحات تمر أمام فكرنا فنذكر لبنان الإقطاعي ولبنان المتدين ... ثم لبنان المتحمس لحرية الأتراك ودستورهم.
وقد يؤخذ الغريب إذا سمع على التوالي أسماء أدمون وروبرت وفكتور تلفظها الفلاحات بلهجة بقاعية أو شمالية أو شوفية، فيقال له: هذا أثر من مؤثرات الهجرة، أو دليل من أدلة امتداد النفوذ الأوروبي على سواحل الشرق الأدنى، ولكن ما قولكم بذلك المهاجر الذي أعجب بمبادئ رئيس الولايات المتحدة فسمى ابنه روزفلت، أو بذلك الأثوذكسي الذي يعد بين أبنائه اسم كروباتكين.
صدقوا. إنني لا أمزح، وليس فيما أقوله شيء من الغلو البديعي، فالحادثة حقيقية، والولد لا يزال حيا يرزق، واسمه إن لم يكن كروباتكين، فهو اسم يماثله من أسماء العيال الروسية الشهيرة؛ رومانوف مثلا، أو سازانوف، أو ماكاروف. اختاروا ما تشاءون.
إلى أين يجرنا الاستطراد؟ لنعد إلى هيفاء الديرية أو الديرانية، كما كانوا يلقبونها في محلة الكلية الأميركية، حيث خدمت سيدات بيوت عديدة. ولم يكن تنقلها ليشينها في نظر المتأمركات اللائي تعبدن إلى السكسون والسكسونية، ومن المعلوم أن ركنها الركين هو الثبات، ثم الثبات، ثم الثبات ... ولقد غفرن للديرانية هذه الهفوة لنشاطها العجيب، وشغلها النظيف المتقن، وقوتها البدنية الهائلة، حتى كان يقال عنها: إنها تحمل أثقال البيت على ظهرها؛ لذلك اجتهدت سيداتها العديدات في سبيل إرضائها والاحتفاظ بها.
مسكينة هيفاء! يا ليتهم يعلمون سبب تقلبها، ويعرفون أن في ذلك الجسم الجبار الذي لا يعرف التعب قلبا نسائيا تأكله الهم، فأصبح لا يسكن يوما حتى يستفزه القهر أشهرا وأعواما. هيفاء تحمل هم قلبها الأخرس وتتنقل به من بيوت أسيادها في بيروت إلى بيتها القديم المتداعي في القرية. وبعد أن تشبع نواحا وبكاء على حياتها المبتورة، يحملها الضجر إلى المدينة، فتمكث شهرين، ثم يعود بها شوق الاستطلاع إلى القرية لعل من قادم من تلك البلاد النائية، لعل من رسالة تنتظرها في بيت الكاهن الشيخ؟ ... وهكذا على توالي الأيام تمر السنون وهيفاء لا تسلو ولن تسلو.
Halaman tidak diketahui