إن لهذا لفاظة ترتجع من الأفواه وأنا أكره لك في مجلس الأمير، فقال عبد الله: ليس بصاحبك من احتشمك واحتشمته، أما إنه لو قسم عقلك على مائة رجل لصار كل رجل منهم عاقلًا.
وكان أبو سعيد يومًا في مجلسه إذ هجم عليه مجنون من أهل قم فسقط على جماعة من أهل المجلس، فاضطرب الناس لسقطته ووثب أبو سعيد لا يشك أن ذلك آفة لحقتهم من سقوط جدار أو شرود بهيمة؟ فلما رآه المجنون على تلك الحالة قال: الحمد لله رب العالمين، على رسلك يا شيخ لا ترع. آذاني هؤلاء الصبيان فأخرجوني عن طيعي إلى ما لا أستحسنه من غيري، فقال: أبو سعيد منعوا منه عافاكم الله، فوثبوا وشردوا من كان يعبث به وسكت ساعة لا يتكلم، إلى أن عاد المجلس إلى ما كان عليه من المذاكرة، فابتدأ بعضهم يقرا قصيدة من شعر نهشل بن جرير التميمي رحمه الله تعالى حتى بلغ قوله:
غلامان خاضا الموت من كل جانب ... فآبا ولم تعقد وراءهما يد
متى يلقيا قرنًا فلا بد أنه ... سيلقاه مكروه من الموت أسود
فما استتم هذا البيت حتى قال المجنون. قف؟ يا أيها القارئ تتجاوز المعنى ولا تسأل عنه؟ ما معنى قوله ولم تعقد وراءهما يد فأمسك من حضر عن القول، فقال: قل يا شيخ. فإنك المنظور إليه والمقتدى به. فقال أبو سعيد: يقول إنهما رميا بنفسيهما في الحرب أقصى مرامها ورجعا موفورين لم يوسرا فتعقد أيديهما كتفًا. فقال: أترضى يا شيخ لنفسك بهذا الجواب. فأنكر ناذلك على المجنون. فقال أبو سعيد: هذا الذي عندنا فما عندك. فقال: المعنى يا شيخ. فأبا ولم تعقد يد بمثل فعلهما بعدهما، لأنهما فعلًا ما لم يفعله أحد كما قال الشاعر:
قوم إذا عدت تميم معًا ... ساداتها عدوهم بالخنصر
ألبسه الله ثياب الندى ... فلم تطل عنه ولم تقصر
أي خلقت له. وقريب من الأول قوله:
قومي بني مذحج من خير الأمم ... لا يصعدون قدمًا على قدم
يعني أنهم يتقدمون الناس ولا يطأون على عقب أحد، وهذان فعلًا ما لم يعطه أحد.
1 / 73