فوددت إذ ذاك أن تعود الحمى إلي لأموت.
وبقيت بعد هذا طويلا في البيت وأبي يعتني بي، فعرفت حينئذ من نفسي محبة صادقة لأبي الذي كان يلازمني وهو شاحب الوجه ودلائل الحزن المذيب تلوح على محياه، ككل الأزواج ذوي العقائل الجميلات الطامحات إلى اللهو والبذخ ...
وإذ كنت مع أبي على انفراد قلت له همسا: أليس أن كل الناس يحبون أمي لجمالها؟
فأخذني بذراعيه دون أن ينبس ببنت شفة ولكنني شعرت بخفقان قلبه إذ قبلني. •••
ويلاه! ماذا جرى؟ فإنني أتعس الأبناء، إنني أشد حزنا من كل ولد على الأرض، ولا أقدر أن أشكو أحزاني لأحد، لقد تركتنا أمي، فأين هي؟
من يعلمني بمقرها، ومن أسأل عنها؟
إن أبي حزين جدا، ويخال لي من ملامحه أن أمي ميتة فهو يبكيها.
ولكن كيف ماتت ولم أرها، كيف تكون ميتة ولا نلبس عليها الحداد ولا نذكرها بالصلاة؟
جربت مرارا أن أسأل عنها، ولكنني عبثا حاولت التغلب على الجبن المستولي علي، فكأنني إذ أريد الاستعلام عن أمي مقدم على جناية أو سابر جرحا داميا، أواه كم أغبط الأولاد الذين لهم أمهات لا يختلن إلا بجمال النفس دون ذلك الجمال الحسي الرائع الذي كان سبب إعجابي فأمسى أصل بلواي ، وحبب إلي الموت! نعم إنني أريد دخول القبر وأرى أبي يتوق مثلي إلى الفناء.
أواه ما أرهب ذلك السكوت الذي يجلل والدي وهو جالس على كرسيه يشتغل بالكتابة ويده ساترة جبينه المصفر! أدخل إلى غرفته بهدوء وأمسح أقلامه وأمتنع عن اللعب خشوعا لدى حزنه، أسير إليه مقبلا يديه، فيحفظ الصمت وأنا أيضا لا أجسر على رفع إبصاري إلى وجهه الشاحب، فألقي رأسي على صدره، ولا نلبث حتى تمتزج دموعنا: دموع الزوج التعيس، ودموع الابن المتروك، فتجري ببطء دون أن يراها أحد في انفراد تلك الغرفة القاتمة. •••
Halaman tidak diketahui