ولو وقعنا على هذه الخصائص المنشودة التي تميز الحق من الباطل فيما ندركه عن شيء ما، فلا بد أن تكون تلك الخصائص هي هي بعينها التي تميز الحق من الباطل في كل شيء آخر؛ أي إن علامة الحق لا يجوز لها أن تتغير بتغير المناسبات والظروف، بل لا بد أن تكون مطلقة لا فرق عند تطبيقها بين مكان ومكان ولا بين لحظة من الزمن ولحظة.
وأولى الخصائص التي تميز الحق كائنا ما كان موضوعه - هكذا جرى العرف بين الفلاسفة أن يقولوا - هي الخلو من التناقض بين أجزاء الفكر أو أجزاء الخبرة؛ فما يتصف بأنه حق لا بد أن يتصف في الوقت نفسه بأنه متسق الأجزاء بعضها مع بعض اتساقا لا يجعل أي جزء منها مناقضا لأي جزء آخر؛ فإذا وجدت نفسك إزاء فكرة أو إزاء خبرة تحللها فترى تناقضا بين أجزائها، فاعلم على الفور أنك إزاء باطل من الأمر.
وسأسوق لك مثلا من فيلسوف مثالي حديث هو «برادلي»،
1
الذي استخدم مبدأ عدم التناقض هذا في كتابه المعروف «الظاهر والحقيقة»
2
ليبين على ضوئه أن معارفنا الجزئية باطلة؛ لأن الكون في رأيه واحد واحدية يستحيل تجزئتها دون أن نحطم حقيقته، فانظر إليه ماذا يقول في الفصل الثاني من كتابه ذاك - وهو مثل من تفكيره في الكتاب كله - وهو فصل يعقده للتحدث عن «الجوهر وصفاته»:
قوام العالم أشياء وصفاتها؛ فهذه القطعة من السكر شيء وله صفات تنعته؛ فهي بيضاء وذات صلابة وحلاوة، ولكن ما نوع العلاقة التي تربط قطعة السكر بصفاتها تلك؟ إنه من البديهي ألا تكون قطعة السكر هي هي إحدى صفاتها مأخوذة بمعزل عن بقية الصفات؛ لأنها لا تكون هي البياض وحده، ولا الصلابة وحدها، ولا الحلاوة وحدها؛ أتكون إذن هي مجموع هذه الصفات مجتمعة ولا شيء أكثر من ذلك؟ كلا؛ لأن مجموعة الصفات فيها تعدد مع أن قطعة السكر شيء واحد، فمن أين جاءتها هذه الوحدة؟ أتكون هذه الوحدة في قطعة السكر نابعة من الصفات ذاتها أم آتية إليها من خارج؟ إنها بالبداهة لا هذه ولا تلك؛ فلسنا ندري كيف ترتبط صفات اللون والطعم والصلابة في وحدة واحدة مع أنها مختلفة أبعد اختلاف، وعلى كل حال فالعلاقة التي تربطها معا ليست هي «بياضا» ولا هي «صلابة» ولا هي «حلاوة»؛ أي إنها ليست هي من طبيعة تلك الصفات ذاتها؛ إذن فمن أين جاءت الرابطة الموحدة بينها في قطعة من السكر «واحدة»؟ أم نقول أن لا وحدة هناك وإن الأمر قائمة من صفات لا أكثر ولا أقل؟ لكن هذا القول لا ينجينا من الحكم بأن كلا من تلك الصفات مرتبط بالصفات الأخرى على نحو ما، بحيث يمكن أن نقول إن صفة البياض مرتبطة بصفة الصلابة، ويعود الإشكال من جديد؛ كيف يرتبطان؟ ما نوع العلاقة الكائنة هنا بين الطرفين المرتبطين؟ أتكون هذه العلاقة نابعة من الصفات ذاتها أم مضافة إليها من خارج؟ وهلم جرا؛ وإذن فصميم المشكلة هنا هو أنك إذا وصفت قطعة السكر بأنها بيضاء وصلبة وحلوة، فإما أن تكون هذه الصفات آتية إلى قطعة السكر من خارج طبيعتها؛ وبذلك تكون بمثابة من يحكم على الشيء بما ليس من طبيعته، وإما أن تكون تلك الصفات هي نفسها طبيعة السكر، وفي هذه الحالة تكون قد كررت القول ولم تضف حكما جديدا.
والنتيجة التي يستهدفها برادلي من كلامه هذا هي أنك لو نظرت إلى أي شيء على أنه حقيقة قائمة بذاتها، وأخذت تصفه بكذا وكيت من الصفات، وجدت أن أقوالك عنه منطوية على تناقض؛ وإذن فيستحيل أن تكون هي الحق؛ لأن الحق شرطه اتساق الأجزاء وخلوها من التناقض.
والفلاسفة حين يقولون كلاما كهذا إنما يريدون أن ينتهوا بنا إلى نتيجة يريدونها، وهي أن الكون وحدة لا تتجزأ، وهو وحدة متسقة لا تناقض بين أجزائها؛ بمعنى أن كل جزء من أجزاء الكون يستحيل فهمه إلا في علاقاته مع سائر الأشياء، وعلاقاته تلك هي في الحقيقة علاقة منطقية تجعله نتيجة محتومة لبقية الأجزاء، كما أن بقية الأجزاء معتمدة عليه ولا تكون بغيره، كأنما الكون في ذلك شبيه بعلم الهندسة مثلا، كل نظرية فيه يستحيل فهمها إلا منسوبة إلى بقية النظريات؛ لأنها متحدة معها في بناء نظري واحد، فترى النظرية الواحدة من نظرياته هي نتيجة لما يسبقها في البناء وهي مقدمة لما يتلوها.
Halaman tidak diketahui