إننا في الحقيقة نسوق عباراتنا في عمليات التفاهم على نحو يجعل تلك العبارات ذات معنى عند السامع، هو نفسه المعنى الذي أراد أن ينقله المتكلم؛ ولهذا وجب أن نسلك ألفاظنا في عقود متفق على أشكالها ليصلح كل عقد منها في موقف معين. والعجيب أننا إذا ما استللنا تلك الخيوط من عقود الألفاظ المرتبطة بها، ووضعناها عارية أمامنا، رأيناها في حد ذاتها خاوية إلى الدرجة التي تجعل البحث فيها ضربا من العبث، لكن هذه الخيوط العارية الخاوية الخالية من كل مضمون هي نفسها «المبادئ المنطقية» التي اتفقنا - حين اتفقنا على لغة التفاهم - أن تكون هي القوالب التي نصب فيها ما نريد أن يقوله بعضنا لبعض.
وخلاء القالب من كل مضمون وفحوي هو الذي يجعله معدا لأن يمتلئ بأية مادة مما يصلح أن تنصب فيه، لكنك إذا ما ملأته بهذه المادة أو تلك خرج عن كونه مبدأ منطقيا مجردا، وأصبح فكرة من الأفكار الجارية على غرار ذلك المبدأ، أما المبدأ نفسه فلا يكون موضع نقاش لأنه موضع اتفاق، وأما الفكرة التي تجري على غراره فهي التي يصح أن تكون موضعا لاختلاف الرأي والجدل. وإذا أردت أن تهتدي إلى المبدأ المنطقي الكامن في إحدى أفكارنا - أو قل في إحدى عبارات الكلام - فما عليك إلا أن تفرغ القالب من مضمونه ليصبح هيكلا فارغا؛ فعندئذ تكون قد وصلت إلى المبدأ المنطقي المنشود، أو إلى الصورة المنطقية الخالية. ابدأ مثلا بهذه العبارة: «قيس أحب ليلى.» وامض في تجريدها من مضمونها المعنوي خطوة خطوة حتى يتم لك تفريغها؛ فالخطوة الأولى هي أن تقول: «س أحب ليلى.» والخطوة الثانية هي أن تقول: «س أحب ص.» والخطوة الثالثة هي أن تقول: «س ع ص» (ع هنا معناها علاقة). فها هنا تجد القالب الفارغ الذي قد تملؤه بمادة غير مادته الأصلية، فتتكون لك بذلك فكرة هي والفكرة الأصلية من طراز منطقي واحد، كأن تملأ القالب - مثلا - بقولك «بروتس قتل قيصر»، أو «الكتاب فوق المنضدة»، وهكذا.
مثل هذا التفريغ - تفريغ أفكارنا من مادتها لتبقى لنا هياكلها الفارغة - هو الذي ينتهي بنا إلى ما نسميه مبادئ المنطق، كالمبادئ التي أطلق عليها أرسطو «قوانين الفكر»، وهي: (1)
قانون الذاتية: ق هي ق. (2)
قانون عدم التناقض: ق لا تكون صادقة وكاذبة في آن واحد. (3)
قانون الثالث المرفوع: ق إما أن تكون صادقة أو كاذبة.
وكالمبادئ التي نتخذها قواعد للاستدلال، مثل: (1)
إذا كانت ق تستلزم ك، وكانت ق صادقة، لزم أن تكون ك صادقة كذلك. (2)
إذا كانت إما ق أو ك صادقة، ثم كانت ق كاذبة، كانت ك صادقة.
فما الذي يجعل هذه المبادئ المنطقية كلها صادقة صدقا ضروريا نعرفه فيها معرفة قبلية؟ هنا يجيب العقليون إنها كذلك لأنها وليدة العقل وطبيعته من جهة، ولأن العالم الواقع قد جاء على غرار العقل وطبيعته من جهة أخرى؛ ومن ثم كانت صادقة على قضايا الفكر وعلى وقائع العالم على حد سواء. وأما نحن أنصار التجريبية العلمية فنقول إن صدق هذه المبادئ كلها قائم على نفس الأساس الذي قام عليه صدق الرياضة، وهو الاتفاق على استخدام الرموز بطريقة معينة؛ فقد اتفقنا - مثلا - على أن يكون معنى «إذا» حين تربط قضيتين أن يكون صدق القضية الثانية تابعا لصدق القضية الأولى، وعلى أن يكون معنى «أو» حين تربط قضيتين أن يكون صدق الواحدة تابعا لكذب الأخرى، واتفقنا على أن يكون معنى كلمة «ليس» (أو أي كلمة نافية أخرى) هو أننا إذا أسمينا شيئا «نهرا» أخرجناه من سائر أشياء الكون التي ليست أنهارا؛ أي إننا عندئذ نقسم العالم قسمين؛ قسم يدخل فيه الشيء المسمى، وقسم آخر يخرج منه، بحيث لا يجوز للشيء المسمى أن يعد عضوا في القسمين معا؛ فإذا زعمنا له مثل هذه العضوية المشتركة، كنا بذلك قد خرجنا على قواعد استخدام الرمز «ليس» كما تواضعنا فيما بيننا أن نستخدمه؛ فالشيء لا يكون ق وليس ق في آن واحد، وكذلك اتفقنا على معنى «أو»، بحيث يكون الشيء إما «ق» أو «لا - ق» في الوقت الواحد.
Halaman tidak diketahui