أتكون هذه الضرورة ناشئة عن البسائط نفسها المرتبطة بمثل هذه العلاقة الضرورية؟ كلا بالطبع؛ لأن ذلك الفرض يقتضي أن تكون البسيطة من البسائط شيئا ذا صفة تقتضي كذا وتستلزم كيت، وإذن فلن تعود البسيطة بالبساطة التي فرضناها لها؛ لأنها عندئذ ستفقد استقلالها من حيث هي وحدة قائمة بذاتها، وسيكون إدراكها معتمدا حتما على إدراك ما هي متعلقة به بحكم طبيعتها. لتوضيح ذلك نقول: افرض أن «أ» و«ب» بسيطتان، وأن «ج» علاقة بسيطة، فكيف أعرف أن «أ» و«ب» يرتبطان ضرورة بالعلاقة «ج»؟ إن الجواب يستحيل أن يكون في تحليل «أ» و«ب» ولا في تحليل «ج»؛ لأن هذه كلها بسائط يمكن إدراك كل منها على حدة مستقلة عن كل ما عداها؛ إذن فكيف أدرك ضرورة الارتباط بين هذين الطرفين بهذه العلاقة؟ يجيب ديكارت: إنه النور الفطري ينصب على الحقيقة فيكشف عنها أطرافا وعلاقات. وفي ذلك غموض ظاهر.
ولعل هذا الغموض نفسه هو الذي أحس به ديكارت حين أخذه القلق - في التأمل الأول من تأملاته - إزاء اليقين الرياضي؛ فبينما هو يقول «سواء كنت متيقظا أو نائما، هنالك حقيقة ثابتة، وهي أن مجموع اثنين وثلاثة هو خمسة دائما، وأن المربع لن يزيد على أربعة أضلاع أبدا»، بينما هو يقول ذلك عن الحقائق الرياضية، تراه وكأنما هو لا يدري من أين جاءت إليه طمأنينة النفس إزاءها؛ إنها لم تجئه عن طريق الطبائع البسيطة ذاتها، التي جعلها نقطة الابتداء في شوط التفكير؛ لأن تلك البسائط (وبعضها حدود وبعضها علاقات) بحكم طبائعها لا تدل على أنها سترتبط على صورة دون أخرى. إن اثنين أو ثلاثة من جهة وخمسة من جهة أخرى - باعتبارها بسائط - لا تحتم بحكم طبائعها أن يكون التساوي هو العلاقة الرابطة بين الطرفين؛ بدليل أن ديكارت يعترف - كما أسلفنا - بأن الله كان يمكنه أن يجعل الأمر على غير ذلك لو أراد؛ ولهذا فهو بحاجة إلى أداة أخرى تكون مفطورة في جبلته يستعين بها على إدراك هذه الضرورة التي يراها في مثل هذه العلاقة الرياضية؛ ومن ثم فقد أكمل مذهبه في «البسائط» بمذهب آخر في «النور الفطري» الذي يهدي الإنسان في إدراكه للروابط الضرورية على النحو الذي ذكرنا.
لو أن ديكارت قد رأي ما نراه نحن اليوم من أن ضرورة الصدق الرياضي هي من صناعة الإنسان وليست هي بالحق الموضوعي الكائن في العالم الخارجي نفسه، وهي من صناعة الإنسان لأنه هو الذي يضع مجموعة المسلمات - ولو شاء لغير منها ما أراد أن يغير وكيف أراد - ثم يبني على ذلك بناءه الرياضي، لأدرك ما ندركه نحن اليوم من أن اليقين الرياضي مصدره هو أننا نحلل المسلمات ونكرر عناصرها في النظريات؛ فليس في الأمر - كما ظن - حقائق خالدات؛ بدليل أننا قد نعدد البناءات الرياضية ويكون كل بناء منها صحيحا ما دامت أجزاؤه متسقة بعضها مع بعض، لكنه لو فعل ذلك لقوض بيديه مذهبه العقلي؛ فهو من الفلاسفة العقليين - بل هو إمامهم في العصر الحديث - الذين يجعلون ضرورة الحق كائنة في الوجود الخارجي، وأن العقل يكشف عما هنالك ولا ينتحل من عنده شيئا. غير أنه من ناحية أخرى لم يجد مناصا من التذبذب بين وجهي مذهبه؛ فلو سأله سائل: ما مصدر الضرورة في الحقائق الرياضية ؟ أجابه حينا بقوله إنها واضحة بذاتها، وحينا آخر بقوله إنها إرادة الله شاءت للأمور أن ترتبط على هذا النحو، ثم شاءت لنا أن نهتدي إليها بما جبل في فطرتنا من نور.
أراد ديكارت أن يمسك العصا من وسطها كما يقول المثل السائر؛ إذ أراد أن يجعل للحقائق الرياضية يقينا وضرورة موضوعيتين كائنتين في طبائع الأشياء نفسها، ولكنه أراد في الوقت نفسه أن يجعل لله قدرة على خلق العلاقات الرياضية في صورة غير صورتها الراهنة التي اختارها. والحق أن مثل هذا الموقف لو حللناه، انتهى بنا إلى نتيجة هي نفسها النتيجة التي أراد ديكارت في إصرار أن يجتنبها، وهي أن الله عندئذ يكون قد خدع الإنسان حين جعله يدرك في الحقائق الرياضية ضرورة ليست فيها؛ ذلك لأن مثل هذه الضرورة لا يراها الله في الحقائق الرياضية بمثل ما أراها أنا، ولو فعل لاستحال أن يكون هنالك سواها أمامه ليختار منها إذا شاء، مع أن ديكارت يقرر أن الله كان يستطيع ألا يجعل أضلاع المربع أربعة وزوايا المثلث ثلاثا؛ ومعنى ذلك أن ما هو جائز في نظر الله مستحيل في نظري أنا الإنسان؛ فكأن ضرورة الصدق في القضية الضرورية لها معنيان؛ معنى إلهي ومعني بشري؛ فهي بالمعنى البشري استحالة تصور النقيض، وهي بالمعنى الإلهي مجرد كونها الحالة التي وقع عليها اختيار الله من بين حالات محتملة أخرى؛ فكأن الله قد خلقني على نحو يجعلني أرى ضرورة الصدق حيث لا ضرورة. إن النقطة الجوهرية هنا هي أن العقل الإلهي والعقل الإنساني - على هذا الأساس - مختلفان لا في الدرجة وحدها، فهذا محدود وذلك مطلق، بل في النوع؛ فالله يري جائزا ما أراه محالا، بل إن ما أراه تناقضا خلوا من المعنى - كأن أقول مثلا بأن أضلاع المربع ليست أربعة - هو في إدراك الله ممكن جائز الوقوع لو أن إرادته شاءت. وهكذا بينما كان ديكارت يعتقد أن الكون مقام على أساس عقلي، وأن العقل في مستطاعه أن يكشف عن ذلك الأساس بما يدركه بنوره الفطري من علاقات ضرورية تربط بين الطبائع البسيطة، كان في الوقت نفسه يذهب مذهبا قد ينتهي به إلى أن الضرورة المزعومة هي من وهم الإنسان.
7
تلك هي الطبائع البسيطة التي أرادنا ديكارت على أن نجعل منها نقطة ابتداء؛ لأننا عندئذ - كما يري - نضع أقدامنا على أرض صلبة. وقد رأينا في التحليل الذي أسلفناه كيف ينطوي هذا الرأي على مفارقات قد تنتهي بهدم ما أراد ديكارت بناءه.
وننتقل الآن إلى خطوته الثانية؛ خطوة الاستنباط من تلك البسائط الأولية؛ فما دام إدراكنا لتلك البسائط يقينيا لأنه إدراك حدسي، فكل ما يستنبط منه يكون يقينيا كذلك؛ فلو بدأت - مثلا - بهذه البسائط: الأعداد 5، 4، 3، ثم العلاقة «أكبر من»، ثم لو رأيت رؤية مباشرة بنور العقل هذه الحقيقة الرياضية الآتية: «5 أكبر من 4.» وبعدئذ رأيت كذلك بنور العقل هذه الحقيقة الرياضية الثانية: «4 أكبر من 3.» فعندئذ يتاح لي من هذين الإدراكين الحدسيين المباشرين أن أستنبط هذه الحقيقة: «5 أكبر من 3.» وكذلك «3 + 2 أكبر من 3.» وهكذا أمضي في استنباطات يقينية استمدت يقينها من يقين الحدوس الأولى التي حدستها بالنور الفطري.
لقد قيل عن ديكارت إنه بمنهجه الرياضي هذا قد أحدث ثورة فلسفية نفضت غبار العصور الوسطى، وقد كان هذا الغبار نفسه من مخلفات القياس الأرسطي، فلنا أن نتساءل: ما الفرق الجوهري بين القياس الأرسطي والاستنباط الديكارتي؟ يقولون إن هذا الفرق الأساسي بين المنهجين هو أن ديكارت يبدأ شوطه بإدراك حدسي لبسائط يرتبط بعضها مع بعض بعلاقات ضرورية كما أسلفنا، فيبدأ - مثلا - برؤية مباشرة لاستقامة كل ضلع من أضلاع المربع، ثم بعد لهذه الأضلاع فإذا هي أربعة، وعندئذ يقول في يقين إن للمربع أضلاعا مستقيمة أربعة، وبعد ذلك يرتب على هذه الحقيقة ما استطاع من نتائج. وأما القياس الأرسطي ففي مقدمتيه مقدمة واحدة على الأقل تكون كلية. وواضح أن الحكم الكلي - كقولنا كل إنسان فان - هو في حد ذاته حكم يجوز أن يكون باطلا؛ لأن رؤية الحقيقة فيه لا تكون حدسا مباشرا، بل تكون نتيجة لتعميم من خبرات سابقة؛ فهي إذن عملية طويلة دقيقة الخطوات. وما أكثر ما ينتهي الإنسان من خبراته إلى تعميمات يخطئ فيها، ومع ذلك يتخذها مقدمات لأقيسة يستدل منها النتائج التي يظن أنها يقينية ما دامت مستخرجة استخراجا سليما من مقدماتها.
لكننا إنصافا لأرسطو في هذا السياق نقول إننا في الحقيقة نبتر المنهج الأرسطي بترا مضللا لو وقفنا فيه عند قياس واحد قائلين: هذا قياس مقدمتاه موضع ظن؛ وإذن فنتيجته هي الأخرى موضع ظن. ذلك لأننا لو تعقبنا المنهج الأرسطي إلى بدايته الأولى، سائلين: من أين جاءت هذه المقدمات نفسها؟ فسيكون الجواب: إنها هي بدورها نتائج لمقدمات سبقتها. ومن أين جاءت هذه السابقة؟ جاءت من مقدمات سبقتها، وهكذا دواليك حتى نصل إلى حقيقة أو مبدأ ندركه بالحدس المباشر؛ وإذن فأرسطو - مثل ديكارت - يرتد إلى بداية حدسية، ولسنا نرى أين يكون الفارق بينهما اللهم إلا أن يقال إن أرسطو حين يحدس الخطوة الإدراكية الأولى فإنما يحدس تصورات كل تصور منها على حدة، كأن يحدس مثلا حقيقة «الإنسان» ثم حقيقة «الفناء»، ثم يصل ما بين الحدسين في قضية فيقول: «الإنسان فان.» أما ديكارت فهو إذ يحدس مقدماته فإنما يحدسها دفعة واحدة بطرفيها والعلاقة الضرورية الرابطة بينهما، لكننا قد أفضنا الحديث فيما مضى عن تحليل هذا الموقف الإدراكي عند ديكارت ووجدناه منطويا على مشكلات ليس من اليسير مواجهتها وحلها.
4
Halaman tidak diketahui