لسنا نريد بفلسفتنا العلمية أن نشارك العلماء في أبحاثهم فنبحث في الضوء والكهرباء كما يبحثون، بل لسنا نريد أن نبحث في الحياة وفي الإنسان كما يبحثون، فلهم وحدهم أدوات البحث في الأشياء وفي الكائنات، وليس لنا إلا ما يقولونه من تلك الأشياء والكائنات من عبارات وما يصوغونه عنها من قوانين؛ فإذا حصرنا اهتمامنا - لا في إضافة عبارات إلى عباراتهم، أو في صياغة قوانين غير قوانينهم - بل في عباراتهم نفسها وقوانينهم نفسها، نحللها من حيث هي تركيبات من رموز، لنرى إن كانت تنطوي أو لا تنطوي على فرض أو على مبدأ فنخرجه، لعل إخراجه من الكمون إلى العلن يزيد الأمر وضوحا، أقول إننا إذا حصرنا اهتمامنا في هذا كانت فلسفتنا علمية بالمعنى الذي نريده لها.
فترانا مثلا نحلل قضية من الرياضة، مثل 2 + 2 = 4، ونحلل قضية من العلوم الطبيعية مثل ذرة الماء مركبة من ذرتين من الهيدروجين وذرة من الأكسجين، نحللهما لنرى هل طبيعة التفكير فيهما واحدة أم إنهما من طبيعتين مختلفتين. لاحظ أننا في هذه الحالة لا نضيف من عندنا علما رياضيا ولا علما طبيعيا، بل نعد العدسة التي ننظر خلالها إليهما كما هما قائمان، فنتبين منهما ما لم يكن ظاهرا، والله وحده أعلم كم حمل الفلاسفة على عواتقهم أثقالا نتيجة للخلط بين علمي الرياضة والطبيعة؛ فهنالك من الفلاسفة من جعل الرياضة وحدها هي صورة العلم الذي لا صورة سواها؛ وإذن فلا بد لمن يصف الطبيعة وصفا علميا أن يجيء كلامه على نحو ما يجيء كلام العالم الرياضي في تسلسل مقدماته ونتائجه؛ فإذا استعصت الطبيعية على هذا التفكير الاستنباطي، فهم لا يشكون أن يكون التفكير الاستنباطي وحده قاصرا عن أن يشمل أنواع التفكير كلها، بل هم يشكون في علم الطبيعة نفسه وما يجيء به من وصف للظواهر كما تقع.
كان الإنسان فيما مضى على اعتقاد راسخ بأن قوام العالم يستحيل أن يكون هو هذه الظواهر المتغيرة التي تدركها الحواس، وهل يعقل - من وجهة نظره عندئذ - أن يكون كل ما هنالك هو هذه الحالات العابرة التي لا تلبث أن تظهر حتى تزول؟ كلا، بل لا بد أن يكون وراء هذه المتغيرات حقائق ثابتة، وإذا كان ذلك كذلك فمن شاء أن يتحدث عن العالم فليبحث عن تلك الثوابت؛ إذ ما جدوى الحديث في ظاهرة إن كانت بادية اليوم فستنحدر غدا إلى عدم؟ ومن ثم لم يكن العلم علما عند الإنسان فيما مضى، إلا إذا بلغ اليقين عن حقيقة ثابتة لا يطرأ عليها تغير، ولم يكن هنالك تناقض - بالتالي - في أن يطالب عالم الطبيعة بما يطالب به عالم الرياضة من منهج فكري يؤدي إلى اليقين.
لكننا نسأل اليوم قائلين: هل ينهج الفكر في تفكيره الرياضي نفس المنهج الذي ينهجه إزاء علم تجريبي قائم على خبرة الحواس؟ أيكون يقين الرياضة أمرا متصلا بطبيعة العقل نفسه أم هو أمر يتصل برموز الرياضة وطرائق استخدامها؟ أئذا قلنا إن «2 + 2 = 4» كنا بذلك نقول حقيقة مشتقة من فطرة العقل، أم إننا بهذا القول نستخدم طائفة من الرموز على نحو متفق عليه كما يتفق اللاعبون على قواعد معينة يلتزمونها في لعبتهم، وكان يمكن لهم أن يتفقوا على قواعد أخرى؟ أتكون زوايا المثلث مساوية حتما لزاويتين قائمتين، أم إن هذه نتيجة تلزم عن فروض معينة، ويمكن تغيير هذه الفروض فتتغير النتيجة؟ هكذا نحلل الفكر الرياضي لننتهي إلى أنه دائما تكراري يعيد في النتيجة ما قد تضمنته الفروض؛ فإذا كان في الرياضة يقين فما ذاك إلا أن نظرياتها لا تتعرض لوصف العالم الواقع، بل تحصر نفسها في اشتقاق صيغة من صيغة أخرى اشتقاقا رمزيا صرفا؛ فلا شأن للرياضي البحت إن كان الخطان المتوازيان يلتقيان أو لا يلتقيان على الطبيعة، إنما شأنه مقتصر على الورقة التي أمامه والتي يضع عليها فروضا ويستدل منها نتائج تلزم عنها.
وتلك نتيجة خطيرة لو أدركها الناس قبلنا لتغير وجه الفلسفة تغيرا جوهريا؛ لو كان لإقليدس تلميذ مثل لوباتشفسكي - مثلا - يتنبه وقتئذ إلى أن نظريات أستاذه إنما تستمد صدقها من طريقة اشتقاقها من الفروض، أما أن تكون صادقة أو غير صادقة على الطبيعة فذلك ما ليس في وسع الهندسة نفسها أن تقوله، أقول لو كان لإقليدس تلميذ يتنبه إلى هذا الذي تنبه إليه الرياضيون المحدثون في طبيعة العلم الرياضي - ولم يكن ثمة ما يمنع أن يكون من تلاميذ إقليدس من تطرأ له هذه الفكرة - إذن لما تتابع الفلاسفة العقليون واحدا في إثر واحد يقولون إننا نريد علما للطبيعة على غرار علم الهندسة من حيث يقين نتائجه؛ لم يكن ديكارت ليطالب باستخدام المنهج الرياضي في علم الطبيعة، ولم يكن سبينوزا ليصب فلسفته في قالب هندسي صرف، ولم يكن كانت ليسلم بأن علم الهندسة صادق على الطبيعة كما هو صادق عند العقل، ثم يسأل نفسه: كيف أمكن أن يكون ما يدرك العقل الخالص أنه حق، كيف أمكن له أن يكون حقا بالنسبة للعالم الطبيعي في الوقت نفسه؟
أعود فأكرر القول بأننا لا نريد بالفلسفة العلمية أن نشارك بها العلماء في أبحاثهم، بل هي علمية لأنها تعنى أول ما تعنى بتحليل قضايا العلوم، وقد ظفرت من هذا التحليل بنتائج خطيرة بعيدة المدى؛ وهي كذلك علمية بالتزامها دقة تشبه دقة العلماء في استخدامهم لرموزهم. قارن بين عالمين يتحدثان عن «سرعة الضوء» وفيلسوفين يتحدثان عن «خلود النفس»، وانظر إلى هذا الفارق الشاسع بين ذينك وهذين في تحديد المدركات التي يستخدمونها. إننا لا نريد أن يرخص للفلاسفة بما لا يرخص به للعلماء؛ فما أهون على الفلاسفة أن يلقوا في مجري حديثهم كلمات مثل «عقل» و«فكر» و«فضيلة» و«جوهر» كأنما هي كلمات يشار إلى مسمياتها بالأصابع، فليست معانيها بحاجة إلى تحديد. وإننا نحن التجريبيين العلميين لعلى يقين بأن ما قد جرى العرف على تسميته ب «مشكلات فلسفية»، إن هو إلا غموض في استخدام الرموز اللفظية، ولو استقام لهذه الرموز طريق استخدامها، لتبخرت تلك المشكلات في الهواء وزالت. خذ عبارة فلسفية تحدثك عن «الحق» - مثلا - واضرب فيها بمشرط التحليل لتحدد لنفسك معناها أولا ماذا يمكن أن يكون، تجد القبة قد انكشفت عن غير شيخ يرقد في جوفها، وعندئذ ستأخذك الحسرة على أيام من حياتك قضيتها تبحث عن هذا «الحق» المطلق الذي يحدثك عنه الفلاسفة، ويجعلون منه إحدى مشكلاتهم الكبرى؛ لأنك ستعلم أن كلمة «الحق» في كل عبارة ترد فيها يمكن حذفها دون أن يطرأ تغير على صدق العبارة؛ وإذن فهي كلمة زائدة يمكن الاستغناء عنها، دع عنك أن نتخذ منها موضوعا لمشكلة يخب فيها الفلاسفة ويضعون.
وقد قسمت هذا الكتاب قسمين؛ فقسم بسطت في فصوله بعض الأسس العامة التي منها تتكون وجهة النظر الفلسفية التي أعتنقها وأدافع عنها، وقسم آخر عرضت فيه طائفة من مشكلات الفلسفة التقليدية عرضا أعدت به النظر إلى ما كان يقال فيها، ثم ماذا تصير إليه إذا ما صببنا عليها ضوء التحليل الحديث. ولم يكن عرضي لمشكلات الفلسفة على هذا النحو عرضا شاملا لها جميعا بطبيعة الحال؛ لأن ذلك محال أن يتم في كتاب واحد. على أن غايتي الرئيسية من هذا الكتاب هي أن يخرج قارئه باتجاه فكري أردناه له، أكثر مما يخرج بموضوعات مفصلة مستوفية لكل ما يمكن أن يقال فيها من ضروب الرأي.
ولو حكمت على مصير هذا الكتاب في ضوء ما قد أصاب إخوة له سبقته إلى النشر، لقلت قولة يائس إنه لن يظفر من فرسان الفلسفة الذين يجيدون في ميدان الفروسية ركوب الجياد ورماية الرمح والمبارزة بالسيف، لن يظفر من هؤلاء بنظرة، لكنه رغم ذلك سيكون منهم موضع حكم يصدرونه عليه؛ لأنهم فاضلون، بلغ بهم حبهم للفضيلة أن يكون لهم الرأي فيما ليس يعلمون، والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه؛ فإن كان لي أمل من أجله عانيت ما عانيته في تأليف هذا الكتاب، فذلك هو أملي في جيل جديد من طلاب الفلسفة، ينظرون إلى الدراسة نظرة منصف جاد.
الجيزة في 24 يوليو سنة 1958م
زكي نجيب محمود
Halaman tidak diketahui